أولاً :الرمز الأسطوري في الشعر العربي المعاصر:
استعمل شعر الحداثة الأساطير لاسيما أساطير الانبعاث لما تحمله من قدرات تنفيسية ، فهي تمح الشاعر أملا بالخلاص من مشكلة ما لأنها" تمتلك بنية خيالية عميقة تكون فكر الأسطورة وعمل الأسطورة مثل عمل الحلم وهو أن يحول هذه الخيالات إلى شكل مقبول للأنا وللذات يصنع المحتوى الظاهر للأسطورة مثل الحلم من عناصر مأخوذة من الحياة اليومية وخبرات الشعوب وتختلف الأسطورة عن الحلم فيما يختص بالجماعة الاجتماعية في أنها تمتلك شكلا خارجيا ممتدا للتعديل مع مرور الزمن ويخضع بالتالي لتنوعات مختلفة "([24])
لجأ الشاعر العربي إلى توظيف الرمز الأسطوري في شعره ليطبقه على عصره الذي أخذ بالانهيار والتداعي ليحقق حالة الحلم الذي يرتكز على معطيات الماضي التي تتمثل بأساطير الانبعاث ، ومن الحقائق المسلم بها أن توظيف الأسطورة في الشعر يتطلب من الشاعر جملة من الأمور التي يجب أن يتسم بها فيجب أن يكون على قدر من الثقافة والفهم العميق والذهنية المتفتحة حتى يتمكن من الغوص في تراث وآداب الأمم الأخرى ؛ وإن كان الشاعر يجيد اللغات الأجنبية فذلك سيمهد له الاطلاع على تراث هذه الأمم بلغاتها الأصلية ؛ وكان من الطبيعي أن تتسم محاولات الرواد الأولى بالتوظيف البدائي ؛ ذلك لأن الشاعر " لم يكن لديه انتباه إلى الأسطورة كفكر إنساني ...ولأنه لم يدرك بأنه إنسان آخر وفي زمان آخر ؛ لهذا لم تكن ثقافته ومدركاته تسمح له بالنظرة إلى الأسطورة بطريقة تبدو أكثر عمقا وتفتحا ... بل لعله لم يفهم بشكل دقيق الذي كان يقصد إليه الشاعر الأوربي "([25]) وهذا طبيعي إذ لم يكن لهؤلاء الشعراء تراثا في هذا المجال سواء في النماذج التقليدية القديمة أو الحديثة ما عدا بعض النماذج لبعض الشعراء الذين اعتمدوا اللمعة العابرة التي لا تخلو من أخطاء إلا أنها تعد نماذج أولية في التوظيف الأسطوري ([26])
أما بعد أن اطلع الأدباء والشعراء على الآداب الأوربية وثقافاتها وتأثروا بعلمائها وأدبائها فمنهم من أخذ يقلد ومنهم من استطاع أن يوظف الرمز الأسطوري في شعره لاسيما وأن آمال شاعر الحداثة كانت مقموعة وممتلئة بالخوف والقلق فالشاعر العربي اتخذ الرمز الأسطوري أداة تعبيرية لمعاناة فكرية نفسية ...فقد وجد في ذلك متنفسا لآلامه وآماله الحبيسة التي جسدها في الأحداث التاريخية ؛ إذ توغل الرمز الأسطوري في شعره بعد أن أدرك ما في هذا التوظيف الدلالي من قيمة فنية يتقمصها حتى يستطيع التوفيق بين توظيف الرمز الأسطوري والمحتوى الدلالي الذي يحمله هذا الرمز ([27]).
وقد برز عدد كبير من الشعراء ومنهم الشاعر خليل حاوي الذي ابتعد عن الذاتية المغلقة وتعد قصيدته ( بعد الجليد ) من أولى القصائد التي ساهم بها في ترسيخ التجربة الأسطورية في الشعر العربي الحديث فقد استعمل الشاعر الرموز الجنسية المألوفة في الأساطير القديمة فالأرض تحن إلى الاتحاد بالذكر وهو تموز؛ وهو إله بعل ميت منبعث واهب للحياة ([28]):
كيف ظلت شهوة الأرض
تدوي تحت أطباق الجليد
شهوة للشمس ، للغيث المغني
للبذار الحي ، للغَلّة في قبوٍ ودنِّ
للإله البعل ، تموز الحصيد ،
شهوة خضراء تأبى أن تبيد.......([29])
إن القول بجوهر الأسطورة في شعر الحداثة غالبا ما ينهض من اعتبارها شكلا من أشكال الوعي وشكلا من أشكال التصوير الفني إن هناك توحيد بين الوعي الشعري الحديث وبين الصورة الفنية والأسطورة فالشعر الحديث لا يمكن عزله عن الأسطورة حتى في تناوله للواقع إذ أن الواقع ينبغي أن يكون مؤسطرا في الشعر والحقيقة أن الشعر الحديث غالبا ما رأى في الأسطورة حاملا موضوعيا لتجاربه وتصوراته الشعرية ([30])