ليس من اليسير على المدقق الكشف عن حقيقة كتاب كألف ليلة وليلة: أصله مفقود، ومؤلفه مجهول، وزمان وضعه مبهم غامض، ومكان حوادثه مشتبه. فالأقاصيص والأساطير وكل ما يتعلق بها أو يتصل بها، يخرج بطبيعته عن اختصاص الأديب ومنهاج المؤرخ. كذلك إن النقد الذاتي للكتاب، هذا النقد المبني على النظر في لغته وأسلوبه وأسماء أبطاله، ومواطن رجاله وأوضاعه ومصطلحاته، لا يساعد كثيراً على فك هذه الألغاز، ويبقى ضعيف الحجة. أما النقد المبني على تاريخ الحضارات المقارن وعلى ما يشيع به الكتاب من صور وأطياف، وأساليب ورسوم وآراء، هو ما يجب الاعتماد عليه.
قالت شهرزاد : بلغني أيها الملك السعيد أن رجلين كانا في مدينة
الإسكندرية وكان أحدهما صباغاً واسمه أبو قير وكان الثاني مزيناً واسمه
أبو صير وكانا جارين لبعضهما في السوق وكان أبو قير الصباغ نصاباً
كذاباً صاحب شر قوي كأنما صدغه منحوتٌ من الجلموت أو مشتقٌ من عتبة
كنيسة اليهود لا يستحي من عيبة يفعلها بين الناس وكان من عادته أنه إذا
أعطاه أحدٌ قماشاً لصبغه يطلب منه الكراء أولاً ويوهمه أنه يشتري به
أجزاءً ليصبغ بها، فيعطيه الكراء مقدماً فإذا أخذه منه يصرفه على أكلٍ
وشربٍ . ثم يبيع القماش الذي أخذه بعد ذهاب صاحبه ويصرف ثمنه في الأكل
والشرب وغير ذلك ولا يأكل إلا طيباً من أفخر المأكول ولا يشرب إلا من
أجود ما يذهب العقول . فإذا أتاه صاحب القماش يقول له في غدٍ تجيء لي
من قبل طلوع الشمس فتلقى حاجتك مغبونةً فيروح صاحب الحاجة ويقول في
نفسه يوم من يومٍ قريب ثم يأتيه في ثاني يوم على الميعاد فيقول له تعال
في غدٍ فأني أمس ما كنت فاضياً لأنه كان عندي ضيوف فقمت بواجبهم حتى
راحوا وفي غدٍ قبل الشمس تعال خذ قماشك مصبوغاً فيروح ويأتيه في ثالث
يوم فيقول له إني كنت أمس معذوراً لأن زوجتي ولدت بالليل وطول النهار
وأنا أقضي مصالح ولكن في غد من كل بد تعال خذ حاجتك مصبوغة فيأتي له
على الميعاد فيطلع له بحيلةٍ أخرى من حيث كان ويحلف له وحين عزما على
السفر قال أبو قير لأبي صير: نحن صرنا أخوين ولا فرق بيننا فينبغي أننا
نقرأ الفاتحة على أن عاملنا يكتسب ويطعم عاطلنا ومهما فضل نضعه في
صندوقٍ فإذا رجعنا إلى الإسكندرية نقسمه بيننا بالحق والإنصاف ، قال
أبو صير : وهو كذلك ، وقرأ الفاتحة على أن الذي يعمل ويكتسب يطعم
العاطل . ثم أن أبا صير قفل الدكان وأعطى المفاتيح لصاحبها وأبو قير
ترك المفاتيح عند رسول القاضي وترك الدكان مقفولةً مختومةً وأخذا
مصالحهما وأصبحا مسافرين ونزلا في غليون في البحر المالح وسافرا في ذلك
النهار وحصل لهما إسعاف . ومن تمام سعد المزين أن جميع من كان في
الغليون لم يكن معهم أحد من المزينين وكان فيه مائة وعشرون رجلاً غير
الريس والبحرية . ولما حلوا قلوع الغليون قام المزين وقال للصباغ : يا
أخي هذا بحر نحتاج فيه إلى الأكل والشرب وليس معنا إلا قليلٌ من الزاد
وربما يقول لي أحد تعال يا مزين أحلق لي فأحلق له برغيف أو بنصف فضة أو
بشربة ماء فانتفع بذلك أنا وأنت، فقال له الصباغ : لا بأس. ثم حط رأسه
ونام وقام المزين وأخذ عدته والطاسة ووضع على كتفه خرقةً تغني عن
الفوطة لأنه فقير وشق بين الركاب ، فقال له واحد : تعال يا أسطى أحلق
لي ، فحلق له فلما حلق لذلك الرجل أعطاه نصف فضة ، فقال له المزين :
ليس لي بهذا النصف الفضة ولو كنت أعطيتني رغيفاً كان أبرك في هذا البحر
لأن لي رفيقاً وزادنا شيء قليل فأعطاه رغيفاً وقطعة جبن وملأ له الطاسة
ماء حلواً فأخذ ذلك وأتى إلى أبي قير وقال له: خذ هذا الرغيف وكله
بالجبن واشرب ما في الطاسة فأخذ ذلك منه وأكل وشرب
ثم أن أبا صير المزين بعد ذلك حمل عدته وأخذ الخرقة على كتفه والطاسة
في يده وشق في الغليون بين الركاب فحلق لإنسان برغيفين ولآخر بقطعة جبن
ووقع عليه الطلب وصار كل من يقول له أحلق يا أسطى يشرط عليه رغيفين
ونصف فضة وليس في الغليون مزين غيره فما جاء المغرب حتى جمع ثلاثين
رغيفاً وثلاثين نصف فضة وصار عنده جبن وزيتون وبطارخ وصار كلما يطلب
حاجة يعطونه إياها حتى صار عنده شيءٌ كثيرٌ وحلق للقبطان وشكا له قلة
الزاد في السفر ، فقال له القبطان : مرحباً بك هات رفيقك في كل ليلةٍ
وتعشيا عندي ولا تحملا هَمَّاً ما دمتما مسافرين معنا . ثم رجع إلى
الصباغ فرآه لم يزل نائماً فأيقظه فلما أفاق أبو قير رأى عند رأسه شيءٌ
كثيرٌ من عيش وجبن وزيتون وبطارخ . فقال له من أين لك ذلك ؟ فقال : من
فيض الله تعالى ، فأراد أن يأكل ، فقال له أبو صير : لا تأكل يا أخي من
هذا واتركه ينفعنا في وقت آخر واعلم أني حلقت للقبطان وشكوت إليه قلة
الزاد فقال لي مرحباً بك هات رفيقك كل ليلةٍ وتعشيا عندي فأول عشائنا
عند القبطان في هذه الليلة . فقال له أبو قير أنا دايخ من البحر ولا
أقدر أن أقوم من مكاني فدعني أتعشى من هذا الشيء ورح أنت وحدك عند
القبطان . فقال له : لا بأس بذلك . ثم جلس يتفرج عليه وهو يأكل فرآه
يقطع اللقمة كما يقطع الحجارة من الجبل ويبتلعها ابتلاع الغول الذي له
أيام ما أكل ويلقم اللقمة قبل ازدراد التي قبلها ويحملق عينيه فيما بين
يديه حملقة الغول وينفخ مثل الثور الجائع على التبن والفول وإذا بنوتي
جاء وقال : يا أسطى يقول لك القبطان هات رفيقك وتعال للعشاء . فقال أبو
صير لأبي قير : أتقوم بنا ؟ فقال له : أنا لا أقدر على المشي . فراح
المزين وحده فرأى القبطان جالساً وقدامه سفرة فيها عشرون لوناً أو أكثر
وهو وجماعته ينتظرون المزين ورفيقه فلما رآه القبطان قال له : أين
رفيقك ؟ فقال له : يا سيدي إنه دايخٌ من البحر ، فقال له القبطان : لا
بأس عليه ستزول عنه الدوخة تعال أنت تعش معنا فإني كنت في انتظارك ثم
أن القبطان عزل صحنا وحط فيه من كل لون فصار يكفي عشرة وبعد أن تعشى
المزين قال له القبطان : خذ هذا الصحن معك إلى رفيقك فأخذه أبو صير
وأتى إلى أبي قير فرآه يطحن بأنيابه فيما عنده من الأكل مثل الجمل
ويلحق اللقمة باللقمة على عجل . فقال له أبو صير : أما قلت لك لا تأكل
فإن القبطان خيره كثير فانظر أي شيءٍ بعث به إليك لما أخبرته بأنك دايخ
، فقال : هات ، فناوله الصحن فأخذه منه وهو ملهوف عليه وعلى غيره من
الأكل مثل الكلب الكاسر أو السبع الكاسر أو الرخ إذا انقض على الحمام
أو الذي كاد أن يموت من الجوع ورأى شيئاً من الطعام وصار يأكل فتركه
أبو صير وراح إلى القبطان وشرب القهوة هناك ثم رجع إلى أبي قير فرآه قد
أكل جميع ما في الصحن ورماه فارغاً . وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح
وفي الليلة التالية استأنفت شهرزاد الحكاية ، قالت : بلغني أيها الملك
السعيد أن أبا صير لما رجع إلى أبي قير رآه قد أكل ما في الصحن ورماه
فارغاً فأخذه وأوصله إلى أتباع القبطان ورجع إلى أبي قير ونام إلى
الصباح فلما كان ثاني الأيام صار أبو صير يحلق وكلما جاء له شيءٌ يعطيه
لأبي قير وأبو قير يأكل ويشرب وهو قاعدٌ لا يقوم إلا لإزالة الضرورة
وكل ليلةٍ يأتي له بصحنٍ ملآن من عند القبطان واستمر على هذه الحالة
عشرين يوماً حتى رسا الغليون على مدينة فطلعا من الغليون ودخلا تلك
المدينة وأخذا لهما حجرة في خان وفرشها أبو صير واشترى جميع ما يحتاجان
إليه وجاء بلحم وطبخه وأبو قير نائمٌ من حين دخل الحجرة ولم يستيقظ حتى
أيقظه أبو صير ووضع السفرة بين يديه فلما أفاق أكل . وبعد ذلك قال له :
لا تؤاخذني فإني دايخ . ثم نام واستمر على هذه الحالة أربعين يوماً وكل
يومٍ يحمل المزين العدة ويدور في المدينة فيعمل بالذي فيه النصيب ويرجع
فيجد أبا قير نائماً فينبهه وحين ينتبه يقبل على الأكل بلهفة فيأكل أكل
من لا يشبع ولا يقنع ثم ينام ولم يزل كذلك مدة أربعين يوماً أخرى .
وكلما يقول له أبو صير أجلس ارتاح واخرج تفسح في المدينة فأنها فرجة
وبهجةٌ وليس لها نظيرٌ في المدائن ، يقول له أبو قير الصباغ : لا
تؤاخذني إني دايخ فلا يرضي أبو صير المزين أن يكدر خاطره ولا يسمعه
كلمة تؤذيه وفي اليوم الحادي والأربعين مرض المزين ولم يقدر أن يسرح
فسخر بواب الخان فقضى لهما حاجتهما وأتى لهما بما يأكلان وما يشربان كل
ذلك وأبو قير يأكل وينام ولا زال المزين يسخر بواب الخان في قضاء حاجته
مدة أربعة أيامٍ . وبعد ذلك اشتد المرض على المزين حتى غاب عن الوجود
من شدة مرضه وأما أبو قير فإنه أحرقه الجوع فقام وفتش في ثياب أبي كير
فرأى معه مقداراً من الدراهم فأخذه وقفل باب الحجرة على أبي صير ومضى
ولم يعلم أحداً . وكان البواب في السوق فلم يره حين خروجه ثم أن أبا
قير عمد إلى السوق وكسا نفسه ثياباً نفيسةً وصار يدور في المدينة
ويتفرج فرآها مدينة ما وجد مثلها في المدائن وجميع ملبوسها أبيض وأزرق
من غير زيادة فأتى إلى صباغ فرأى جميع ما في دكانه أزرق فأخرج له محرمة
وقال له : يا معلم خذ هذه المحرمة واصبغها وخذ أجرتك فقال له : إن أجرة
صبغ هذه عشرون درهماً ، فقال له : نحن نصبغ هذه في بلادنا بدرهمين ،
فقال : رح اصبغها في بلادكم وأما أنا فلا أصبغها إلا بعشرين درهماً لا
تنقص عن هذا القدر شيئاً
فقال له أبو قير أي لونٍ تريد صبغها ؟ فقال له الصباغ : زرقاء ، قال له
أبو قير : أنا مرادي أن تصبغها إلي حمراء ، قال له : لا أدري صباغ
الأحمر ، قال : خضراء ، قال : لا أدري صباغ الأخضر ، قال : صفراء ، قال
له : لا أدري صباغ الأصفر ، وصار أبو قير يعد له الألوان لوناً بعد
لونٍ ، فقال له : الصباغ نحن في بلادنا أربعون معلماً لا يزيدن واحداً
ولا ينقصون واحداً وإذا مات منا واحدٌ نعلم ولده وإن لم يخلف ولداً
نبقى ناقصين واحداً والذي له ولدان نعلم واحداً منهما فإن مات علمنا
أخاه وصنعتنا هذه مضبوطة ولا نعرف أن نصبغ غير الأزرق من غير زيادةٍ .
فقال له أبو قير الصباغ : اعلم أني صباغ وأعرف أن أصبغ سائر الألوان
ومرادي أن تخدمني عندك بالأجرة وأنا أعلمك جميع الألوان لأجل أن تفتخر
بها على كل طائفة من الصباغين . فقال له : نحن لا نقبل غريباً يدخل في
صنعتنا أبداً ، فقال له : وإذا فتحت لي مصبغة وحدي . فقال له : لا
يمكنك ذلك أبداً فتركه وتوجه إلى الثاني ، فقال له كما قال له الأول
ولم يزل ينتقل من صباغ إلى آخر حتى طاف على الأربعين معلماً فلم يقبلوه
لا أجيراً ولا معلماً فتوجه إلى شيخ الصباغين واخبره ، فقال له : إننا
لا نقبل غريباً يدخل في صنعتنا . فحصل عند أبي قير غيظٌ عظيمٌ وطلع
يشكو إلى ملك تلك المدينة وقال له : يا ملك الزمان أنا غريبٌ وصنعتي
الصباغة وجرى لي مع الصباغين ما هو كذا وكذا وأنا أصبغ الأحمر ألوانا
مختلفة كوردي وعنابي والأخضر ألواناً مختلفة كزرعي وفستقي وزيتي وجناح
الدرة والأسود ألواناً مختلفة كفحمي وكحلي والأصفر ألوانا مختلفة
كنارنجي وليموني وصار يذكر له سائر الألوان ، ثم قال : يا ملك الزمان
كل الصباغين الذين في مدينتكم لا يخرج من أيديهم أن يصبغوا شيئاً من
هذه الألوان ولا يعرفون إلا صبغ الأزرق ولم يقبلوني أن أكون عندهم
معلماً ولا أجير . فقال له الملك : صدقت في ذلك ولكن أنا أفتح لك مصبغة
وأعطيك رأس مال وما عليك منهم وكل من تعرض لك شنقته على باب دكانه، ثم
أمر البنائين وقال لهم : امضوا مع هذا المعلم وشقوا أنتم وإياه في
المدينة وأي مكان أعجبه فأخرجوا صاحبه منه سواء كان دكاناً أو خاناً أو
غير ذلك وأبنوا له مصبغةً على مراده ومهما أمركم به فافعلوه ولا
تخالفوه فيما يقول . ثم أن الملك ألبسه بدلةً مليحةً وأعطاه ألف دينارٍ
وقال له : اصرفها على المرض الذي بك ثم قام على قدميه وقال لبواب
الخان : إن قدرني الله تعالى جازيتك على ما فعلته معي من الخير، ولكن
لا يجازي إلا الله من فضله ، فقال له بواب الخان : الحمد لله على
العافية أنا ما فعلت معك ذلك إلا ابتغاء وجه الله الكريم، ثم أن المزين
خرج من الخان وشق في الأسواق فأتت به المقادير إلى السوق الذي فيه
مصبغة أبو قير فرأى الأقمشة ملونة بالصباغ منشورة في باب المصبغة
والخلائق مزدحمة يتفرجون عليها، فسأل رجلاً من أهل المدينة وقال له :
ما هذا المكان وما لي أرى الناس مزدحمين؟ فقال له المسؤول : إن هذه
مصبغة السلطان التي أنشأها رجلٌ غريبٌ اسمه أبو قير وكلما صبغ ثوباً
نجتمع عليه ونتفرج على صبغه لأن بلادنا ما فيها صباغون يعرفون صبغ هذه
الألوان . وجرى له مع الصباغين الذين في البلد ما جرى، وأخبره بما جرى
بين أبي قير وبين الصباغين وأنه شكاهم إلى السلطان فأخذ بيده وبنى له
هذه المصبغة وأعطاه كذا وكذا وأخبره بكل ما جرى، ففرح أبو صير ، وقال
في نفسه : الحمد لله الذي فتح عليه وصار معلماً والرجل معذور لعله تلهى
عنك بالصنعة ونسيك ولكن أنت عملت معه معروفاً وأكرمته وهو عاطل فمتى
رآك فرح بك وأكرمك نظير ما أكرمته . ثم أنه تقدم إلى جهة باب المصبغة
فرأى أبا قير جالساً على مكتبةٍ عاليةٍ فوق مصطبة في باب المصبغة وعليه
بدلة من ملابس الملوك وقدامه أربعة عبيدٍ وأربعة مماليكٍ بيضٍ لابسين
أفخر الملابس ورأى الصناع عشرة عبيدٍ واقفين يشتغلون لأنه حين اشتراهم
علمهم الصباغة وهو قاعد بين المخدات كأنه وزير عظيم وملك أفخم لا يعمل
شيئاً بيده وإنما يقول لهم افعلوا كذا وكذا . فوقف أبو صير قدامه وهو
يظن أنه إذا رآه يفرح به ويسلم عليه ويكرمه ويأخذ بخاطره . فلما وقعت
العين في العين قال له أبو قير : يا خبيث كم مرةٍ وأنا أقول لك لا تقف
نفسك حتى تتم البناية وأعطاه مملوكين من أجل الخدمة وحصاناً بعدة
مزركشة فلبس البدلة وركب الحصان وصار كأنه أمير وأخلى له الملك بيتاً
وأمر بفرشه ففرشوه له وسكن فيه وركب في ثاني يومٍ وشق في المدينة
والمهندسون قدامه ولم يزل يتأمل حتى أعجبه مكان فقال : هذا المكان طيبٌ
فأخرجوا صاحبه منه وأحضروه إلى الملك فأعطاه ثمن دكانه زيادةً على ما
يرضيه ودارت فيه البناية وصار أبو قير يقول للبنائين ابنوا كذا وكذا
وافعلوا كذا وكذا حتى بنوا له مصبغة ليس لها نظير، ثم حضر إلى الملك
وأخبره بأن المصبغة تم بناؤها وإنما يحتاج لثمن الصباغ من أجل إدارتها
فقال له الملك: خذ هذه الأربعة آلاف دينار واجعلها رأس مال وأرني ثمرة
مصبغتك فأخذها ومضى إلى السوق فرأى النيلة كثيرة وليس لها ثمن فاشترى
جميع ما يحتاج إليه من حوائج للصباغة، ثم أن الملك أرسل إليه خمسمائة
شقفة من القماش فدور الصبغ فيها وصبغها من سائر الألوان ثم نشرها قدام
باب المصبغة فلما مر الناس بجانبها رأوا شيئاً عجيباً ما رأوا مثله من
قبل ، فازدحمت الخلائق على باب محله وصاروا يتفرجون ويسألونه ويقولون
له : يا معلم ما اسم هذه الألوان ؟ فيقول لهم : هذا أحمر وهذا أصفر
وهذا أخضر ويشرح لهم أسامي الألوان فصاروا يأتونه بشيءٍ من القماش
ويقولون له اصبغ لنا مثل هذا وذاك وخذ ما تطلب . ولما فرغ من صباغ قماش
الملك أخذه وطلع به إلى الديوان، فلما رأى الملك ذلك الصباغ فرح به
وأنعم عليه إنعاماً زائداً وصار جميع العسكر يأتون إليه بالقماش
ويقولون له اصبغ لنا هكذا فيصبغ لهم على أغراضهم ويرمون عليه بالذهب
والفضة، ثم أنه شاع ذكره وسميت مصبغته مصبغة السلطان ودخل عليه الخير
من كل باب وجميع الصباغين لم يقدر أحدٌ أن يتكلم معه إنما كانوا يأتونه
ويقبلون يديه ويعتذرون إليه عما سبق منهم في حقه ويعرضون أنفسهم عليه
ويقولون له اجعلنا خدماً عندك فلم يرض أن يقبل أحداً منهم وصار عنده
عبيد وجوار وجمع مالاً كثيراً. هذا ما كان من أمر أبي قير . وأما ما
كان من أمر أبي صير فإنه لما قفل عليه أبو قير باب الحجرة بعد أن أخذ
دراهمه وراح وخلاه وهو مريضٌ غائبٌ عن الوجود فصار مرمياً في تلك
الحجرة والباب مقفولٌ عليه واستمر على ذلك ثلاثة أيامٍ فانتبه بواب
الخان إلى باب الحجرة فرآه مقفولاً ولم ير أحداً من هذين الاثنين إلى
المغرب ولم يعلم لهما خبراً . فقال في نفسه لعلهما سافرا ولم يدفعا
أجرة الحجرة أو ماتا أو ما خبرهما ؟ ثم أنه أتى إلى باب الحجرة فرآه
مقفولاً وسمع أنيناً في داخلها ورأى المفتاح في الضبة ففتح الباب ودخل
فرأى المزين يئن فقال له لا بأس عليك أين رفيقك؟ فقال له والله إني ما