منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مجموعة من مقالات فلسفية لباكالوريا
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-03-05, 19:16   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
حلة ملاك الجنة
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










Hot News1 انطباق الفكر مع نفسه

كان كانط يريد أنْ يفضّ النزاع القائم بين المثاليين والماديين ... فالمثاليون يرون أنّ العقل يخلق الكون والعالَم : أي إن عقل الإنسان بما فيه من أفكار فطرية هو صانع المعرفة , فنحن لا نعرف إلا ما هو موجود في عقولنا بالفطرة .. فالطفل الصغير يعرف أن الجزء اصغر من الكل وأن لكل شيء سببا وأن " واحد زائد واحد يساوي اثنين " دون لجوء لتجربة وخبرة خارج العقل , وهذه المعرفة لا يستقيها من الطبيعة , من العالم الخارجي , وإنما هي مطبوعة في عقله , ولا ينتبه لها حتى يكتمل نموه , كما أنَّ كل إحساس خارجي يمرّ عبر الذات , عبر العقل ؛ فيصطبغُ به .
والماديون يرون خلاف ذلك , فالعقل صفحة بيضاء خالية من أي شيءٍ , ليس لها من عملٍ سوى استقبال مؤثرات العالم الخارجي وإحساسات الأشياء التي تتسرب إليه من خلال قنوات الحسّ ( الأذن , العين , الأنف , اللمس , اللسان ) ... فالطبيعة والتجربة والخوض في غمارها هي التي تكتب كل المعارف على صفحة العقل البيضاء , فيتملئ بالسواد ... وهذا السواد هو المعرفة !!

يقول المثاليون ( العقليون ) رداً على الماديين ( الواقعيين ) : لو كانت الطبعية هي المعلِّم الذي يعطي الدروس ويمنح المعارف للإنسانِ فلماذا لا نرى البهائم تعقل وتعلم كما يعقل ويعلم الإنسان , إلا لكون العقل حاوياً على أفكار جوهرية وفطرية لازمة لكل معرفة تجريبية ؟ ... أليست الحيوانات تتلقى إحساسات الطبيعة كما يتلقاها الإنسان من خلال قنوات الحس ؟ فلماذا لا تصنع معرفة وعلماً ؟!!

ويقول الماديون رداً على المثاليين : لو كان العقلُ هو خالق الطبيعة , ولو كانت المعرفة نتاجاً خاصاً بالعقلِ , فلأي شيء توجد الطبيعة ؟!! ... وإذا كنتم تنكرون وجود الطبيعة والعالم الخارجي فلماذا " لا تقفون أمام القطار على سكة الحديد " كما يقول الدكتور جونسون ساخراً من الفيلسوف اللامادي جورج باركلي ؟!!
لماذا لا نرى الناس متساووين في المعرفة , ولماذا نرى المجانين والأطفال غير مستوعبين للمعارف والعلوم ؟!!

جاء الفيلسوف الألماني العظيم بعد أن توفّر على الدروس الفلسفية التي كانت تزخر بها كتب ومحاضرات الفريقين : استقبل دروس المثاليين من طريق ليبنتز وفولف ( الديكارتييَنِ ), والماديين من خلال رائد الشك في العصر الحديث ديفِد هيوم .

احتار في أمره , وارتاع من شك هيوم الذي سيقضي على كل العلوم والمعارق والحقائق , فهبّ فزعاً من نومه الدغمائي اليقيني ... وحاول أن ينتصر للحقيقة وللعلم , ليس بالميل تجاه المثاليين الديكارتيين ولا بالميل تجاه هيوم الذي دفع الجدل التجريبي حتى أقصى حالاته فانتهى إلى شك ( بيروني ) مدمر . ولكن من خلال العودة إلى العقل ذاته من أجل إخضاعه للنقد والمساءلة والفحص والتمحيص , ومعرفة حدوده ومواطن اشتغاله ... ووجد أن العقل الإنساني موجود حتماً , وأنه ليس مجرد حزمة من الإحساسات التي لا يحملها موضوع , كما لدى هيوم , ولا مجرد فكرة فطرية متعالية على الواقع التجريبي كما لدى ديكارت ومن شايعه .

ماذا وجد بعد الروية والتأمل ؟

لقد وجد أن العقل يحتوي على قوالب ذهنية ومقولات عقلية يمتاز بها الإنسان عن الكائنات الأخرى , هي التي تسمح له بإنتاج معرفة وعلم ... نعم . إن البهائم تتلقى ذات الإحساسات التي نتلقاها , ولكنها لا تنتج من ذلك معرفة وعلما , لأن أدمغتها ليست مركبة كتركيب عقل الإنسان , وهذا التركيب الخاص ليس إلا هذه القوالب والمقولات التي تسمح بإنشاء قضايا قبلية تركيبية تمتاز بالعمومية واليقينية والضرورة .

وهذه المقولات والتصورات القبلية الخالصة شرط ضروري لكل معرفة تجريبية , إنها " كالنظارات " التي نرى من خلالها العالم تبعاً للونها ومساحتها ورقتها .

من هذه المقولات القبلية : مقولة العلية التي تنصّ على (( إن لكل شيء سبباً )) ... وهي مقولة خاصة بعقل الإنسان . فلو افترضنا أن " كرة " تدحرجتْ صوب إنسان ما , فإنه لن ينظر إلى الكرة , بل إلى المصدر الذي جاءت منه , سوف يبحث عن الذي ركل الكرة ( علة تدحرج الكرة )
ولو افترضنا – بالمقابل - أن ثمة قطة أو كلباً تدحرجتْ صوبه " كرةٌ " فإنه سوف يعبث بها ولن ينظر إلى المصدر الذي انطلقت منه .

ماذا نفهم من هذا المثال ؟!

نفهم منه أن الإنسان يدرك – إدراكاً قبلياً – معنى ( العلية – السببية ) , كما ونفهم أن القطة – وأي حيوان آخر غير الإنسان - لا تدرك هذه الشيء , وأن امتلاك الإنسان لهذا التصور أو لهذه المقولة جعله ينتج علما ومعرفة بالسبب , أي بمصدر انطلاق الكرة ... وحسبك وصولاً إلى غاية العلم بإدراك علل الأشياء , فهي لباب التطور وخلاصة الرقيّ في المعارف والعلوم !

ولكن ! هل يمكن لمقولة ( العلية ) أن " تشتغل " بدون إحساسات , بدون عالم خارجي , بدون تجربة ؟؟!!

إن مقولة العلية موجودة في العقل وجوداً قبلياً = ( أي إنها إنسانية الطابع ) , ولكنها تعتبر فارغة بدون إحساسات ... وكذلك قل بالنسبة للإحساسات فهي فوضى وخليط مشتت بدون منظم ينظمها ورابط يربط بينها أي بدون قوالب ومقولات تفرض عليها الوَحدة والنظام والترتيب .

فالمعرفة إذن ليست عقلية خالصة ولا تجريبية خالصة , بل جماع هذا وذاك ... إنها نقطع التقاء الطبيعة مع العقل ... وكل ما هو خارج هذه النقطة أو خارج هذا " الأفق " فهو ميتافيزيقا غير مشروعة بحسب تعبير كانط رحمه الله رحمة واسعة .










رد مع اقتباس