كان كانط يريد أنْ يفضّ النزاع القائم بين المثاليين والماديين ... فالمثاليون يرون أنّ العقل يخلق الكون والعالَم : أي إن عقل الإنسان بما فيه من أفكار فطرية هو صانع المعرفة , فنحن لا نعرف إلا ما هو موجود في عقولنا بالفطرة .. فالطفل الصغير يعرف أن الجزء اصغر من الكل وأن لكل شيء سببا وأن " واحد زائد واحد يساوي اثنين " دون لجوء لتجربة وخبرة خارج العقل , وهذه المعرفة لا يستقيها من الطبيعة , من العالم الخارجي , وإنما هي مطبوعة في عقله , ولا ينتبه لها حتى يكتمل نموه , كما أنَّ كل إحساس خارجي يمرّ عبر الذات , عبر العقل ؛ فيصطبغُ به .
والماديون يرون خلاف ذلك , فالعقل صفحة بيضاء خالية من أي شيءٍ , ليس لها من عملٍ سوى استقبال مؤثرات العالم الخارجي وإحساسات الأشياء التي تتسرب إليه من خلال قنوات الحسّ ( الأذن , العين , الأنف , اللمس , اللسان ) ... فالطبيعة والتجربة والخوض في غمارها هي التي تكتب كل المعارف على صفحة العقل البيضاء , فيتملئ بالسواد ... وهذا السواد هو المعرفة !!
يقول المثاليون ( العقليون ) رداً على الماديين ( الواقعيين ) : لو كانت الطبعية هي المعلِّم الذي يعطي الدروس ويمنح المعارف للإنسانِ فلماذا لا نرى البهائم تعقل وتعلم كما يعقل ويعلم الإنسان , إلا لكون العقل حاوياً على أفكار جوهرية وفطرية لازمة لكل معرفة تجريبية ؟ ... أليست الحيوانات تتلقى إحساسات الطبيعة كما يتلقاها الإنسان من خلال قنوات الحس ؟ فلماذا لا تصنع معرفة وعلماً ؟!!
ويقول الماديون رداً على المثاليين : لو كان العقلُ هو خالق الطبيعة , ولو كانت المعرفة نتاجاً خاصاً بالعقلِ , فلأي شيء توجد الطبيعة ؟!! ... وإذا كنتم تنكرون وجود الطبيعة والعالم الخارجي فلماذا " لا تقفون أمام القطار على سكة الحديد " كما يقول الدكتور جونسون ساخراً من الفيلسوف اللامادي جورج باركلي ؟!!
لماذا لا نرى الناس متساووين في المعرفة , ولماذا نرى المجانين والأطفال غير مستوعبين للمعارف والعلوم ؟!!
جاء الفيلسوف الألماني العظيم بعد أن توفّر على الدروس الفلسفية التي كانت تزخر بها كتب ومحاضرات الفريقين : استقبل دروس المثاليين من طريق ليبنتز وفولف ( الديكارتييَنِ ), والماديين من خلال رائد الشك في العصر الحديث ديفِد هيوم .
احتار في أمره , وارتاع من شك هيوم الذي سيقضي على كل العلوم والمعارق والحقائق , فهبّ فزعاً من نومه الدغمائي اليقيني ... وحاول أن ينتصر للحقيقة وللعلم , ليس بالميل تجاه المثاليين الديكارتيين ولا بالميل تجاه هيوم الذي دفع الجدل التجريبي حتى أقصى حالاته فانتهى إلى شك ( بيروني ) مدمر . ولكن من خلال العودة إلى العقل ذاته من أجل إخضاعه للنقد والمساءلة والفحص والتمحيص , ومعرفة حدوده ومواطن اشتغاله ... ووجد أن العقل الإنساني موجود حتماً , وأنه ليس مجرد حزمة من الإحساسات التي لا يحملها موضوع , كما لدى هيوم , ولا مجرد فكرة فطرية متعالية على الواقع التجريبي كما لدى ديكارت ومن شايعه .
ماذا وجد بعد الروية والتأمل ؟
لقد وجد أن العقل يحتوي على قوالب ذهنية ومقولات عقلية يمتاز بها الإنسان عن الكائنات الأخرى , هي التي تسمح له بإنتاج معرفة وعلم ... نعم . إن البهائم تتلقى ذات الإحساسات التي نتلقاها , ولكنها لا تنتج من ذلك معرفة وعلما , لأن أدمغتها ليست مركبة كتركيب عقل الإنسان , وهذا التركيب الخاص ليس إلا هذه القوالب والمقولات التي تسمح بإنشاء قضايا قبلية تركيبية تمتاز بالعمومية واليقينية والضرورة .
وهذه المقولات والتصورات القبلية الخالصة شرط ضروري لكل معرفة تجريبية , إنها " كالنظارات " التي نرى من خلالها العالم تبعاً للونها ومساحتها ورقتها .
من هذه المقولات القبلية : مقولة العلية التي تنصّ على (( إن لكل شيء سبباً )) ... وهي مقولة خاصة بعقل الإنسان . فلو افترضنا أن " كرة " تدحرجتْ صوب إنسان ما , فإنه لن ينظر إلى الكرة , بل إلى المصدر الذي جاءت منه , سوف يبحث عن الذي ركل الكرة ( علة تدحرج الكرة )
ولو افترضنا – بالمقابل - أن ثمة قطة أو كلباً تدحرجتْ صوبه " كرةٌ " فإنه سوف يعبث بها ولن ينظر إلى المصدر الذي انطلقت منه .
ماذا نفهم من هذا المثال ؟!
نفهم منه أن الإنسان يدرك – إدراكاً قبلياً – معنى ( العلية – السببية ) , كما ونفهم أن القطة – وأي حيوان آخر غير الإنسان - لا تدرك هذه الشيء , وأن امتلاك الإنسان لهذا التصور أو لهذه المقولة جعله ينتج علما ومعرفة بالسبب , أي بمصدر انطلاق الكرة ... وحسبك وصولاً إلى غاية العلم بإدراك علل الأشياء , فهي لباب التطور وخلاصة الرقيّ في المعارف والعلوم !
ولكن ! هل يمكن لمقولة ( العلية ) أن " تشتغل " بدون إحساسات , بدون عالم خارجي , بدون تجربة ؟؟!!
إن مقولة العلية موجودة في العقل وجوداً قبلياً = ( أي إنها إنسانية الطابع ) , ولكنها تعتبر فارغة بدون إحساسات ... وكذلك قل بالنسبة للإحساسات فهي فوضى وخليط مشتت بدون منظم ينظمها ورابط يربط بينها أي بدون قوالب ومقولات تفرض عليها الوَحدة والنظام والترتيب .
فالمعرفة إذن ليست عقلية خالصة ولا تجريبية خالصة , بل جماع هذا وذاك ... إنها نقطع التقاء الطبيعة مع العقل ... وكل ما هو خارج هذه النقطة أو خارج هذا " الأفق " فهو ميتافيزيقا غير مشروعة بحسب تعبير كانط رحمه الله رحمة واسعة .