الحلقة الثالثة .....
فأصدرت مجلة "الأصالة" سنة 1981 بهدف الدفاع عن ثلاثية السلطة : الثورة الصناعية ، الثورة الثقافية ، الثورة الزراعية ، التي كانت عرضة لهجوم مكثف من طرف هذا التيار ، لكن الهدف لهذه المجلة كان مزدوجا .
أولا : محاربة ترضية حركة الدعوة الإسلامية التي تنامت بسرعة .
ثانيا : كوسيلة لتبرير الثلاثية المذكورة من وجهة النظر الإسلامية من خلال إبراز تصورها – أي السلطة – لإشكالية "الأصالة" مختصرة في إعطاء لغة القرآن مكانتها ، وإحياء قيم العدالة و المساواة في الإسلام .
ولكن هذه السياسة لم تزد حركة الدعوة الإسلامية إلا قوة ، متخذة من صدور قانون الثورة الزراعية (20) ميدانا لصراع يتراوح بين التأييد المشروط ، والمعارضة المطلقة ، الشيء الذي أدى إلى تبلور اتجاهين متعارضين :
الأول : الاتجاه المتشدد بزعامة أحمد سحنون وعبد اللطيف سلطاني ، ويذهب إلى القول "إن الصلاة على أرض مؤممة محرمة شرعا" .
الثاني : يرى في الثورة الزراعية تطبيقا لمبدأ العدالة في الإسلام معيبا عليها محتواها الشيوعي فجاءت معارضته مذهبية (dogmatique ) وليست مبدئية ، ولكن هذا التيار ظل محصورا في الأوساط الجامعية ، ومن أبرز رموزه رشيد بن عيسى حاليا و بن بريكة ، تاركا الساحة إلى الأول وخاصة أثناء مناقشة قانون الأسرة سنة 1975 ليبرز أكثر أثناء مناقشة ميثاق سنة 1976 ، والذي أصدر فيه الفتوى التالية :
1 – إن هذا الميثاق قد أكثر من ذكر الاشتراكية وعقيدتها و أخلاقها مما يفهم منه إنما جاء بالاشتراكية و عقيدتها و أخلاقها ليحل بها محل الإسلام وعقيدته و أخلاقه، فالمسلم ليس له عقيدة وأخلاق غير ما جاء به الإسلام.
2 – إننا مسلمون ولنا في ديننا الإسلام ونظامه ما يكفينا و يغنينا عن غيره ، وهو كامل في تشريعه شامل لمتطلبات الحياة الكريمة و الشريفة ، ولهذا لا يجوز – في أي حال من الأحوال – أن نبدله بغيره من التشريعات ، سواء كان ذلك في باب الاقتصاد أو غيره ، ومهما كان هذا الغير ، ذلك لأن الله تعالى قال في القرآن الكريم : ( " اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا " ) وقال : ( " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا " ) ، فلا يجوز للمسلم – إن كان صادقا في إسلامه – أن يبدل شريعة الله التي اختارها لعباده – المؤمنين به – والحال بها أن فيها ما يكفي للمسلمين ويسد حاجتهم بتشريعها المحكم و قوانينها العادلة التي أعطت لكل ذي حق حقه من غير ظلم ولا إجحاف بأي أحد ، ولا يليق بنا كمسلمين أن نتهم ديننا أو نرميه بالنقصان أو بأنه غير صالح لزمننا هذا ، أو بأن نظام الإسلام عاجز عن حل مشاكل هذا العصر .
3 – إن الاشتراكية معروفة لمن درسها في كتبها وعرف مبادئها التي وضعها و وضعوها الأولون و الآخرون إذ هي المرحلة الأولى للشيوعية ، كما صرح بهذا رئيس الحكومة السوفييتية في وقت توليه للرئاسة ، زعيمها "خروتشوف" صرح بهذا للوفد البرلماني المصري الذي زار موسكو سنة 1960 برئاسة أنور السادات الرئيس الحالي للحكومة المصرية ، فإذا رضينا بالاشتراكية الآن فإننا سننقل للشيوعية فيما بعد ما في هذا شك لهذا القول بكل صراحة و بدون التواء ، إن الإسلام بعقيدته و أخلاقه وتشريعه و مبادئه و أهدافه لا يلتئم مع الاشتراكية في عقيدتها و أخلاقها وتشريعها ومبادئها وأهدافها ، فبينهما المنافاة التامة في كل الأهداف ، ومن ادعى الإسلام و الاشتراكية هما في التشريع سواء قابلناه بإبقاء الإسلام و الاستغناء به عن الاشتراكية طالما أنهما سيان ، ومن قال أنتخذ الاشتراكية كمنهج قلنا له : وماذا أبقيت للإسلام ؟ وهل الإسلام غير منهج للحياة ومن جعل الله له منهجا فلا يسوغ له أن تتخذ من عنده أو من غيره منهجا ، قال الله تعالى : ( " وإن هذا صراطي مستقيم فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " ) . ومن العار أن يرمى الإسلام بالتأخير ، ونقصان تنظيمه في الشؤون الاقتصادية أو غيرها ومن نظامه اقتبست بعض الدول الأوروبية ما رأته صالحا لمجتمعها ، والإسلام يخالف الاشتراكية في شتى المجالات منها :
أ – أن الإسلام أوصى بالإرث بين الأقارب و الأرحام ، و الاشتراكية تبطله بتشريعها المخالف لنص القرآن وفي هذه المخالفة تعطيل و إبطال لآية الفرائض وهي قوله : ( " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " ) إلى آخر الآية ( 1 – من سورة النساء ) .
ب – إن الإسلام أحكم رباط الأسرة برباطه الروحي و الأخلاقي في دائرة العقل الصافي ، أما الاشتراكية فقد حلت ذلك الربط المتين وجعلت الأسرة مفككة الأواصر فلا رباط بين أفرادها ولا رحمة في وسط العائلة ، فتمردت الزوجة على زوجها ، والزوج على زوجته وعصت البنت أباها وأمها ، وشق الولد عصا الطاعة إلى آخر ماهو معروف ، وبهذا تشتت الأسر وخربت البيوت والمنازل ، وامتلأت أماكن اللهو وما لايليق بالمجتمعات بالمنحرفين و المنحرفات وتقلص في ظل ذلك الاحترام المتبادل الذي كان يسود أفراد الأسرة المسلمة .
ج – إن الإسلام يقر و يعترف بالملكية الخاصة و الاشتراكية تنتزعها من أصحابها – بالقوة – أو تحددها بمقدار معين كما تشاء ، وفي هذا تعطيل للمواهب العقلية و تجميد للفكر الإنساني ، وقتل للشعور بالكرامة الإنسانية ، كما في هذا أخذ المال من مالكه الشرعي بدون رضاه ، وهذا غصب لا يجوز فعله في الإسلام .
د – إن الإسلام أوجب على المسلمين إخراج زكاة أموالهم ، فتؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم صاحبه معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن واليا وقاضيا ، وعلى هذه الخطة سار خلفاء المسلمين ، فإنهم كانوا حريصين على ما يغني المسلمين لا على ما يفقرهم كما قال الرسول (ص) لسعد ابن أبي وقاص : " إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم يتكففون على الناس " حتى أنهم في بعض الأوقات لا يجدون فقيرا يدفعون له الزكاة كما ذكر هذا يحي بن سعد : بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها وطلبت الفقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيرا ولم نجد من يأخذ هذا مني فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس فاشتريت بها رقا فأعتقتهم وولائهم للمسلمين " أما الاشتراكية فإنها تنتزع الأرض و النخيل و غيرهما من أصحابها ، فإذا لم يبين للفلاح أرضه أو نخيله أو غيرهما فلا زكاة عليه ، و الزكاة من الأسباب التي تنشر الرحمة و التعاطف و الأخوة بين أبناء الشعب الواحد ، وبإبطال لقاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وفي الزكاة توزيع للثروة بين الفقراء و الأغنياء لا تكديسها في صناديق معينة وحرمان أهلها منها ، وهي حق للفقراء على الأغنياء من الله .
هـ - إن الاشتراكية تزهد الناس في الدين بإبعادها لعناصره الصالحة في المجتمع لتحل محلهم عناصر ساذجة في تفكيرها خاملة في حياتها ترضى بما يقدم لها ، لا تعرف من الإسلام إلا إسمه ، وبهذا تتمكن من حد نشاط دعاته وتعطيل قواعده الواحدة بعد الأخرى ، فلا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج وخاصة في أوساط الشباب الذين أفسدت عقيدتهم وأخلاقهم بمبادئها المنافية للفطرة .
و – إن الإسلام أعطى للفرد حرية الرأي و التفكير والقوا و التعبير، بقول الكلمة التي يراها نافعة ومفيدة يقولها وهو في مأمن ، ولو كان أمام أعظم شخصية في الدولة كالخليفة أو الأمير مثلا من غير أن يخشى أذى أو ضرر يصيبه في بدنه أو ماله ، أما الاشتراكية فإنها تحجز على الإنسان ذاته ، وتحول بينه وبين هذا الحق الطبيعي للإنسان ، فلا يفكر ولا يعبر إلا فيما تراه هي ، كما جاء في المشروع المذكور قوله : (حرية التفكير و الرأي و التعبير بشرط أن لا تستخدم للنيل من مكاسب الاشتراكية ...إلخ ) .
أي المكاسب هذه التي يعنيها المشروع ؟ إن المكاسب هي مكاسب الشعب كله ، لا لطائفة معينة، حصل عليها بواسطة ثورته المسلحة التحريرية لا بغيرها .
تمركز حركة الدعوة في الأوساط الشعبية : لكن هذه الفتوى جاءت في فترة عنفوان التجربة البومدينية ، وترسخ شخصيته الكاريزماتية ، الشيء الذي دفع حركة الدعوة للتركيز على العمل المسجدي أكثر ، وخاصة مساجد العاصمة غير الرسمية ، وبعد وفاة بومدين في ديسمبر 1978 ، بدأت تنتشر ظاهرة "الدروس الخاصة" وهي عبارة عن دروس وعظية ذات طابع سياسي تتم في حلقات هدفها التوعية السياسية من منظور إسلامي تحضيرا للمواطن وتهيئه له على كيفية العيش في مجتمع يقوم على أساس تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية ، مركزة في ذلك على تحليل الوضع الاجتماعي في مستوياته الثلاثة الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية ، مبرزة معالم الحل الإسلامي للمشاكل التي يعاني منها المجتمع .
إلى جانب هذه الدروس أدت انتصارات الثورة الإيرانية إلى إفراز شعور بضرورة توحيد حركة الدعوة الإسلامية ، فكان ملتقى "العاشور" سنة 1979 والذي ضم الاتجاهات التالية (22) :
1 – الاتجاه السلفي وهو ما أسميناه الاتجاه الإصلاحي .
2 – الاتجاه الإخواني .
3 – جماعة التبليغ .
4 – جماعة الطليعة .
5 – الاتجاه الصوفي .
وانطلاقا من هذا الملتقى خرجت الدعوة من أسوار الجامعة لتلقى في الأوساط الشعبية والتي كانت فيها ( غائبة – حاضرة ) دائما ، وازدادت قاعدتها اتساعا ابتدءا من سنة 1980 نتيجة سياسة "الانفتاح والمراجعة" التي تبنتها السلطة الجديدة بقيادة السيد الشاذلي بن جديد ، هذه السياسة التي كانت تحتاج إلى تصفية الاتجاهات التي كانت تساند سابقتها أعطت الفرصة لحركة الدعوة أن تنمو على حساب اليسار، ولكنها كانت تتوق إلى أكثر من الصراع مع هذا الأخير ، هذا ما تجسد في حوادث السنين المتوالية ، ففي 19 مارس 1986 قامت بعض الجماعات المنتمية لحركة الدعوة الإسلامية ، بتحطيم محلات بيع الخمور في مدينة الواد بالجنوب الجزائري ، تبعتها موجة عنف في 28 مارس على اعتقال أحد زعماء الحركة في مدينة الأغواط (23) مما أدى إلى مقتل أحد أعضائها ، أعقبه إعتصام بأحد مساجد المدينة وإصدار بيان إلى الشعب الجزائري يدعو إلى إعلان الجهاد ضد " النظام الملحد " .
ولكن سرعان ما انتقلت الأحداث إلى الجزائر العاصمة رمز السلطة السياسي ، حيث شهدت الأحياء الجامعية بمنطقة ابن عكنون 1982 مصادمات بين اليسار و حركة الدعوة ولم تجد السلطة بدا من التدخل لإنهاء الحوادث ، أعقبته موجة الاعتقالات البوليسية ، وإغلاق المعاهد وبعض مساجد الأحياء الجامعية ، الشيء الذي اعتبرته حركة الدعوة الإسلامية سابقة خطيرة ترتكب ضد الإسلام في الجزائر ، فكانت المواجهة بعد دعوتها إلى صلاة جماهيرية في بهو الجامعة المركزية في 04 نوفمبر من نفس السنة ، قدمت خلالها عريضة للسلطة لتكون قاعدة " التعاون " بينهما ، تتكون من أربع عشرة نقطة متضمنة تحليلا للأحداث على أنها مناورة مدبرة من طرف الشيوعية العالمية و الماسونية و اليهودية والعنصرية والبعثية (24) الغرض منها توريط الدولة عن طريق استخدام أجهزتها لضرب الإسلام ، ونظرا لخطورة الموقف فإن التعاون المشترك بين العناصر الطيبة في الأمة أصبح ضرورة شريطة العودة الصادقة إلى الإسلام وهذا يتطلب النظر في السلبيات التالية :
1 – وجود عناصر في مختلف أجهزة الدولة معادية لديننا متورطة في خدمة عدونا.
2 – تعيين النساء و المشبوه في سلك القضاء و الشرطة.
3 – تعطيل حكم الله الذي كان نتيجة حتمية للغزو الاستعماري فلا بد من إقامة العدل بين الناس بتطبيق شرع الله.
4 – حرمان المواطن من حريته وتجريده من حقه في الأمن على نفسه ودينه وماله وعرضه.
5 – عدم توجيه التنمية الاقتصادية وجهة إسلامية رشيدة بإزالة كل المعاملات غير الشرعية وتيسير السبل الشرعية لاكتساب الرزق الحلال من زراعة و صناعة وتجارة وتسوية الناس في فرص الاستفادة من خيرات البلاد بدون تمييز.
6 – تفكيك الأسرة و العمل على إحلالها وإرهاقها بالمعيشة الصعبة كانت سياسة مارستها فرنسا وبقيت تمارس حتى اليوم، بالإضافة إلى محاولة وضعها على غير الشريعة الإسلامية تحت شعار نظام الأسرة.
7 – الاختلاط المفروض في المؤسسات التربوية والإدارية والعمالية انعكست نتائجه السيئة على المردود التربوي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي وصار مؤشرا على سرعة الانحلال الخلقي والحضاري.
8 – الرشوة والفساد الممارسين في المؤسسات التربوية من الجامعة والإدارة وغيرها، مرض بيروقراطي لا أخلاقي خطير لا يسلم مجتمع إلا إذا تخلص منه .
9 – تسوية مفهوم الثقافة وحصره في المهرجانات الماجنة اللا أخلاقية مما عرقل النظام التربوي وحال دون توصله إلى إبراز المواهب والنبوغ والكفاءات العليا التي تفتقر إليها البلاد للتخلص من التبعية الثقافية المفروضة .
10 – إبعاد التربية الإسلامية وتفريغ الثقافة من المضمون الإسلامي زاد في تعميق الهوة واستقرارها.
11 – الحملة الإعلامية المسعورة للإعلام الأجنبي والوطني لإبعاد الدولة عن الدعوة والصحوة التي تهدد مصالح الدوائر الاستعمارية في بلادنا .
12 – إطلاق صراح الذين اعتقلوا دفاعا عن أنفسهم ودينهم وكرامتهم .
13 – فتح المساجد التي أغلقت في الأحياء الجامعية والثانويات والتكميليات والمؤسسات العمالية .
14 – عقاب كل من يعتدي على كرامة الأمة وعقيدتها أو شرعيتها وأخلاقها وفق الحدود الشرعية الإسلامية .