التجاجنة ( أصحاب عين ماضي ) في رحلة الهلالي 1737 م / 1150 هـ
... ثم ارتحلنا فمررنا بحال الأعراب حين بدت لنا عين ماضي و اشترى منهم الحجاج جلودا و لحما و غير ذلك ثم لبغنا عين ماضي حين ارتفاع النهار و تلقانا كثير من أهلها من بعيد و كنت قد سمعت أن طلبة العلم بها كثير .
فسألت أحد من تلقانا عن فقيهها مااسمه ؟
فقال لي : الفقهاء فيها كثيرون .
فسألته عن أكبرهم علما .
فقال لي : كلهم كبراء .
ففهمنا أنه عامي لم يميز مراتبهم
فسألته عن قاضيهم و قلت لعلهم لا يستقضون إلا أعلمهم .
فقال لي : كلهم قضاة .
فنزلنا قرب القرية و هي قرية منقطعة بعيدة عن العمارة ذات ماء معين و الأعراب يؤذون أهلها كثيرا حتى إنهم ذكروا لنا أنهم تركوا الحرث ليلا تأكله الأعراب كما أكلوه في العام الماضي ، و لهم بحيرات داخل سورهم فيها أشجار و قرع ، و للقرع عندهم شأن حتى إن رجلا جاء يطلب برنسا يشتريه بقرعة ، و ذكر لنا أن رجلا جاء يطلب بعيرا أعني يشتريه بالقرع . و أقمنا بها يومنا و جاء الأعراب بالإبل و غنم للبيع ، و أهل هذه القرية كثير منهم يحفظون القرآن و يقرأون مختصر الشيخ خليل و رسالة أبي زيد و صغرى السنوسي و كتاب بن أبي حمزة في الحديث و يسردون تفسيري الثعالبي و الخازن ، و هم لا يعرفون في النحو شيئا و كذا غيره من علوم الآلة و لا يرحلون للعلم بل يقنعون بما عندهم و يأخذ بعضهم عن بعض و يلازمون قراءة الفقه ، أخبرني شيخ منهم ذو سن عالية أنه استمر يقرأ المختصر خمسة و عشرين عاما و أنه لا يعرف إعراب البسملة و لا قرأ شيئا في كتب النحو و لو الأجرومية و كذا غيره منهم .
و أنجبهم فيما رأيت سيدي محمد الأحمر حفيد سيدي أحمد بن سالم الذي ذكره أبو سالم في وصيته المسماة بالرحلة الصغرى و قد تكلمت معه في شأن قراءتهم للكتب بلا عربية فقال لي :
ما معناه أنما نأخذ منها ما ظهر و سهل و نترك ما وراء ذلك لأربابه ، و هذا مما يدل على نجابته.
و أما غيره فيحسبون أن لا غاية وراء ما وصلوا إليه منها و قد حضضته على قراءة العربية فقال لي لا نجد من يقيم لنا هنا يعلمنا و لا نقدر على السفر للتعلم ، و أخبروني أنهم لا أحباس عندهم و إنما يقرءون لله تعالى ، و ما أحسن هذا القصد منهم لو توفرت شروط القراءة .
و بالجملة فهم خير من كثير أهل هذه النواحي فإن العلم فيها ركدت ريحه و الجهل فيها لا بوسي حريمه ، بل قد أصبح الجهل في الأمصار طامى العباب و ربوع العلم قفر يباب ولم يبق منه في مظانه الأرمق أشرف على الذهاب ، و صبابة تداولنها ابن الجهال بالأشهاب إنا لله و إنا له راجعون .
و من الغريب أنه قد تحاكم إلىقاض بحضرتي أعرابي و بلدي فادعى البلدي أن الأعرابي سرق لفتا من جنانه فأنكر الأعرابي فاحتج البلدي بتراب لزق برأس عصاه و قال هذا أثر حفر اللفت بعصاك فقال الأعرابي إنما حفرت بها قبرا لشخص منا مات و ليس معنا ما نحفر به سوى العصا ، فكلفه القاضي إثبات أن الأثر الذي بعصاه أثر قبر و إلا غرم للبلدي لفته ، فقلت للقاضي ما هذا ؟ فقال لي إن هؤلاء الأعراب حراميون يفعلون أمثال ذلك كثيرا فلو كلفنا المدعي عليهم البينة لضيعوا أموالالناس و استدل بأثر تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ، فنهيته عن العودة إلى مثل هذا الحكم و بينت له أن إحداث الأقضية عند أسبابها إنما هو للمجتهدين لا للمقلدين فأظهر الرجوع عن الحكم بذلك و بأشياء من نمطه ذكرها لي وفقنا الله و إياه .
و بتنا هناك ليلة و ارتحلنا و تركنا قرية تجموت ذات الشمال . . .