إفادة في محكمة الشعر
ألقيت في مهرجان الشعر التاسع ببغداد عام ١٩٦٩
مرحبًا يا عراقُ، جئتُ أغنّيكَ
وبعضٌ من الغناءِ بكاءُ
مرحبًا، مرحبًا.. أتعرفُ وجهًا
حفرتهُ الأيّامُ والأنواءُ؟
أك َ ل الحبُّ من حشاشةِ قلبي
والبقايا تقاسمتها النساءُ
كلُّ أحبابي القدامى نسَوني
لا نُوارَ تجيبُ أو عفراءُ
فالشفاهُ المطيّباتُ رمادٌ
وخيامُ الهوى رماها الهواءُ
سكنَ الحز ُ ن كالعصافيرِ قلبي
فالأسى خمرٌة وقلبي الإناءُ
أنا جرحٌ يمشي على قدميهِ
وخيولي قد هدَّها الإعياءُ
فجراحُ الحسينِ بعضُ جراحي
وبصدري من الأسى كربلاءُ
وأنا الحز ُ ن من زمانٍ صديقي
وقلي ٌ ل في عصرنا الأصدقاءُ
مرحبًا يا عراقُ،كيفَ العباءاتُ
وكيفَ المها.. وكيفَ الظباءُ؟
مرحبًا يا عراقُ.. هل نسيَتني
بعدَ طولِ السنينِ سامرّاءُ؟
مرحبًا يا جسورُ يا نخ ُ ل يا ﻧﻬرُ
وأه ً لا يا عشبُ... يا أفياءُ
كيفَ أحبابُنا على ضفةِ النهرِ
وكيفَ البسا ُ ط والندماءُ؟
كان عندي هنا أميرُة حبٍّ
ثم ضاعت أميرتي الحسناءُ
أينَ وجهٌ في الأعظميّةِ حلوٌ
لو رأتهُ تغارُ منهُ السماءُ؟
إنني السندبادُ.. مزّقهُ البحرُ
و عينا حبيبتي الميناءُ
مض َ غ الموجُ مركبي.. وجبيني
ثقبتهُ العواصفُ الهوجاءُ
إنَّ في داخلي عصورًا من الحزنِ
فهل لي إلى العراقِ التجاءُ؟
وأنا العاشقُ الكبيرُ.. ولكن
ليس تكفي دفاتري الزرقاءُ
يا حزيرا ُ ن.ما الذي فع َ ل الشعرُ؟
وما الذي أعطى لنا الشعراءُ؟
الدواوينُ في يدينا طروحٌ
والتعابيرُ كلُّها إنشاءُ
كلُّ عامٍ نأتي لسوقِ عكاظٍ
وعلينا العمائمُ الخضراءُ
وﻧﻬزُّ الرؤوسَ مثل الدراويشِ
...و بالنار تكتوي سيناءُ
كلُّ عامٍ نأتي.. فهذا جريرٌ
يتغنّى.. وهذهِ الخنساءُ
لم نزَل، لم نزَل نمصمصُ قشرًا
وفلسطينُ خضّبتها الدماءُ
يا حزيرا ُ ن.. أنتَ أكبرُ منّا
وأبٌ أنتَ ما لهُ أبناءُ
لو ملكنا بقيًّة من إباءٍ
لانتخينا.. لكننا جبناءُ
يا عصورَ المعّلقاتِ مَللنا
ومن الجسمِ قد يملُّ الرداءُ
نصفُ أشعارنا نقوشٌ وماذا
ينفعُ النقشُ حين يهوي البناءُ؟
المقاماتُ لعبٌة... والحريريُّ
حشيشٌ.. والغو ُ ل والعنقاءُ
ذبحتنا الفسيفساءُ عصورًا
والدُّمى والزخارفُ البلهاءُ
نرفضُ الشعرَ كيمياءً وسحرًا
قتلتنا القصيدُة الكيمياءُ
نرفضُ الشعرَ مسرحًا ملكيًا
من كراسيهِ يحرمُ البسطاءُ
نرفضُ الشعرَ أن يكو َ ن حصانًا
يمتطيهِ الطغاُة والأقوياءُ
نرفضُ الشعرَ عتمًة ورموزًا
كيف تستطيعُ أن ترى الظلماءُ؟
نرفضُ الشعرَ أرنبًا خشبيًّا
لا طموحَ لهُ ولا أهواءُ
نرفضُ الشعرَ في قهوةِ الشعر..
دخا ٌ ن أيّامهم.. وارتخاءُ
شعرُنا اليومَ يحفرُ الشمسَ حفرًا
بيديهِ.. فكلُّ شيءٍ مُضاءُ
شعرنا اليومَ هجمٌة واكتشافٌ
لا خطو َ ط كوفيًّة ، وحِداءُ
كلُّ شعرٍ معاصرٍ ليسَ فيهِ
غصبُ العصرِ نملٌة عرجاءُ
ما هوَ الشعرُ إن غدا ﺑﻬلوانًا
يتسّلى برقصهِ ا ُ لخلفاءُ
ما هو الشعرُ.. حينَ يصبحُ فأرًا
كِسرُة الخبزِ –هَمُّهُ- والغِذاءُ
وإذا أصبحَ المفكِّرُ بُوقًا
يستوي الفكرُ عندها والحذاءُ
يُصلبُ الأنبياءُ من أجل رأيٍ
فلماذا لا يصلبَ الشعراءُ؟
الفدائيُّ وحدهُ.. يكتبُ الشعرَ
و كلُّ الذي كتبناهُ هراءُ
إنّهُ الكاتبُ الحقيقيُّ للعصرِ
ونحنُ ا ُ لحجَّابُ والأجراءُ
عندما تبدُأ البنادقُ بالعزفِ
تموتُ القصائدُ العصماءُ
ما لنا؟ مالنا نلومُ حزيرا َ ن
و في الإثمِ كلُّنا شركاءُ؟
من هم الأبرياءُ؟ نحنُ جميعًا
حاملو عارهِ ولا استثناءُ
عقُلنا، فكرُنا، هزا ُ ل أغانينا
رؤانا، أقواُلنا الجوفاءُ
نثرُنا، شعرُنا، جرائدُنا الصفراءُ
والحبرُ والحروفُ الإماءُ
البطولاتُ موقفٌ مسرحيٌّ
ووجوهُ الممثلينَ طلاءُ
وفلسطينُ بينهم كمزادٍ
كلُّ شارٍ يزيدُ حين يشاءُ
وحدويّون! والبلادُ شظايا
كلُّ جزءٍ من لحمها أجزاءُ
ماركسيّو َ ن! والجماهيرُ تشقى
فلماذا لا يشبعُ الفقراءُ؟
قرشيّو َ ن! لو رأﺗﻬم قريشٌ
لاستجارت من رملِها البيداءُ
لا يمينٌ يجيرُنا أو يسارٌ
تحتَ حدِّ السكينِ نحنُ سواءُ
لو قرأنا التاريخَ ما ضاعتِ القدسُ
وضاعت من قبلها "الحمراءُ"..
يا فلسطينُ، لا تزالينَ عطشى
وعلى الزيتِ نامتِ الصحراءُ
العباءاتُ.. كلُّها من حريرٍ
والليالي رخيصٌة حمراءُ
يا فلسطينُ، لا تنادي عليهم
قد تساوى الأمواتُ والأحياءُ
قت َ ل النف ُ ط ما ﺑﻬم من سجايا
ولقد يقت ُ ل الثريَّ الثراءُ
يا فلسطينُ، لا تنادي قريشًا
فقريشٌ ماتت ﺑﻬا الخيَلاءُ
لا تنادي الرجا َ ل من عبدِ شمسٍ
لا تنادي.. لم يبقَ إلا النساءُ
ذروُة الموتِ أن تموتَ المروءاتُ
ويمشي إلى الوراءِ الوراءُ
مرَّ عامانِ والغزاُة مقيمو َ ن
و تاريخُ أمتي... أشلاءُ
مرَّ عامانِ.. والمسيحُ أسيرٌ
في يديهم.. و مريمُ العذراءُ
مرَّ عامانِ.. والمآذ ُ ن تبكي
و النواقيسُ كلُّها خرساءُ
أيُّها الراكعو َ ن في معبدِ الحرفِ
كفانا الدوارُ والإغماءُ
مزِّقوا جُبََّة الدراويشِ عنكم
واخلعوا الصوفَ أيُّها الأتقياءُ
اتركوا أولياءَنا بسلامٍ
أيُّ أرضٍ أعادها الأولياءُ؟
في فمي يا عراقُ.. ماءٌ كثيرٌ
كيفَ يشكو من كا َ ن في فيهِ ماءُ؟
زعموا أنني طعنتُ بلادي
وأنا الحبُّ كلُّهُ والوفاءُ
أيريدو َ ن أن أمُصَّ نزيفي؟
لا جدارٌ أنا و لا ببغاءُ!
أنا حريَّتي... فإن سرقوها
تسقطِ الأرضُ كلُّها والسماءُ
ما احترفتُ النِّفاقَ يومًا وشعري
ما اشتراهُ الملوكُ والأمراءُ
كلُّ حرفٍ كتبتهُ كا َ ن سيفًا
عربيًّا يشعُّ منهُ الضياءُ
وقلي ٌ ل من الكلامِ نقيٌّ
وكثيرٌ من الكلامِ بغاءُ
كم ُأعاني مما كتبتُ عذابًا
ويعاني في شرقنا الشرفاءُ
وجعُ الحرفِ رائعٌ.. أوَتشكو
للبساتينِ وردٌة حمراءُ؟
كلُّ من قاتلوا بحرفٍ شجاعٍ
ثم ماتوا.. فإنهم شهداءُ
لا تعاقب يا ربِّ من رجموني
واعفُ عنهم لأنّهم جهلاءُ
إن حبّي للأرضِ حبٌّ بصيرٌ
وهواهم عواطفٌ عمياءُ
إن أ ُ كن قد كويتُ لحمَ بلادي
فمن الكيِّ قد يجيءُ الشفاءُ
من بحارِ الأسى، وليلِ اليتامى
تطلعُ الآ َ ن زهرٌة بيضاءُ
ويطلُّ الفداءُ شمسًا علينا
ما عسانا نكو ُ ن.. لولا الفداءُ
من جراحِ المناضلينَ.. وُلدنا
ومنَ الجرحِ تولدُ الكبرياءُ
قبَلهُم، لم يكن هناكَ قب ٌ ل
ابتداءُ التاريخِ من يومِ جاؤوا
هبطوا فوقَ أرضنا أنبياءً
بعد أن ماتَ عندنا الأنبياءُ
أنقذوا ماءَ وجهنا يومَ لاحوا
فأضاءت وجوهُنا السوداءُ
منحونا إلى الحياةِ جوازًا
لم ت ُ كن قبَلهم لنا أسماءُ
أصدقاءُ الحروفِ لا تعذلوني
إن تفجّرتُ أيُّها الأصدقاءُ
إنني أخز ُ ن الرعودَ بصدري
مثلما يخز ُ ن الرعودَ الشتاءُ
أنا ما جئتُ كي أكو َ ن خطيبًا
فبلادي أضاعَها ا ُ لخطباءُ
إنني رافضٌ زماني وعصري
ومن الرفضِ تولدُ الأشياءُ
أصدقائي.. حكيتُ ما ليسَ يُحكى
و شفيعي... طفولتي والنقاءُ
إنني قادمٌ إليكم.. وقلبي
فوقَ كّفي حمامٌة بيضاءُ
إفهموني.. فما أنا غيرُ طفلٍ
فوقَ عينيهِ يستحمُّ المساءُ
أنا لا أعرفُ ازدواجيَّة الفكرِ
فنفسي.. بحيرٌة زرقاءُ
لبلادي شعري.. ولستُ أبالي
رفصتهُ أم باركتهُ السماءُ..