حيرة في القَدَر:
من جملة الأمور التي ترد على الشباب ويقف منها حيران: مسألة القدر؛ لأن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي لا يتم إلا بها، وذلك بأن يؤمن بأن الله سبحانه عالم بما يكون في السماوات والأرض، ومقدر له، كما قال سبحانه: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنازع والجدال في القدر فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرّ وجهه، فقال: "أبهذا أُمرتم، أم بهذا أُرسلت إليكم ؟، إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم أن لا تتنازعوا فيه" رواه الترمذي.
والخوض في القدر والتنازع فيه يوقع المرء في متاهات لا يستطيع الخروج منها، وطريق السلامة أن تحرص على الخير وتسعَى فيه كما أُمرت، لأن الله سبحانه أعطاك عقلاً وفهما، وأرسل إليك الرسل وأنزل معهم الكتب: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }.
ص -21- ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، قالوا: يارسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟. قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى }. روه البخاري.
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل، ولم يُجَوِّز لهم الاتكال على المكتوب، لأن المكتوب من أهل الجنة لا يكون منهم إلا إذا عمل بعمل أهل الجنة، والمكتوب من أهل النار لا يكون منهم إلا إذا عمل بعملهم، والعمل باستطاعة المرء؛ لأنه يعرف نفسه أن الله أعطاه اختيارًا للعمل وقدرةً عليه، بهما يفعل إن شاء أو يترك.
فها هو الإنسان يهم بالسفر مثلاً فيسافر، ويهم بالإقامة فيقيم، وها هو يرى الحريق فيفر منه، يرى الشيء المحبوب إليه فيتقدم نحوه، فالطاعات والمعاصي كذلك يفعلها المرء باختياره، ويدعها باختياره.
والذي يرد على مسألة القدر عند بعض الناس إشكالان أيضا:
أحدهما: أن الإنسان يرى أنه يفعل الشيء باختياره ويتركه باختياره، بدون أن يحس بإجبار له على الفعل أو الترك، فكيف يتفق ذلك مع الإيمان بأن كل شىء بقضاء الله وقدره ؟.
ص -22- والجواب على ذلك: أننا إذا تأملنا فعل العبد وحركته وجدناه ناتجا عن أمرين: إرادة. أي: اختيار للشيء. وقدرة. ولولا هذان الأمران لم يوجد فعل.
والإرادة والقدرة كلتاهما من خلق الله سبحانه؛ لأن الإرادرة من القوة العقلية، والقدرة من القوة الجسمية، ولو شاء الله لسلب الإنسان العقل فأصبح لا إرادة له، أو سلبه القدرة فأصبح العمل مستحيلاً عليه.
فإذا عزم الإنسان على العمل ونفذّه، علمنا يقينا أن الله قد أراده وقدره، وإلا لصرف همته عنه، أو أوجد مانعا يحول بينه وبين القدرة على تنفيذه.
وقد قيل لأعرابي: بم عرفت الله ؟. فقال: بنقض العزائم وصرف الهمم.
الإشكال الثاني الذي يأتي في مسألة القدر عند بعض الناس:
أن الإنسان يُعذَّب على فعل المعاصي، فكيف يُعَذَّب عليها وهي مكتوبة عليه، ولا يمكن أن يتخلص من الأمر المكتوب عليه ؟.
والجواب على ذلك أن نقول: إذا قلت هذا فقل أيضا: إن الإنسان يثاب على فعل الطاعات، فكيف يثاب عليها وهي مكتوبة عليه، ولا يمكن أن يتخلص من الأمر المكتوب عليه ؟. وليس من العدل أن تجعل القدر حجة في جانب المعاصي، ولا تجعله حجة في جانب الطاعات.
وجواب ثان: أن الله أبطل هذه الحجة في القرآن، وجعلها من القول بلا علم، فقال تعالى: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ }1
ص -23- فبين الله أن هؤلاء المحتجين بالقدر على شركهم كان لهم سلف كذبوا كتكذيبهم، واستمروا عليه حتى ذاقوا بأس الله، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه، ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم بإقامة البرهان على صحة حجتهم، وبين أنه لا حجة لهم في ذلك.
وجواب ثالث: أن نقول: إن القدر سر مكتوم لا يعلمه إلا الله حتى يقع، فمن أين للعاصي العلم بأن الله كتب عليه المعصية حتى يقدم عليها ؟، أفليس من الممكن أن يكون قد كتبت له الطاعة ؟. فلماذا لا يجعل بدل إقدامه على المعصية أن يقدم على الطاعة ؟. ويقول: إن الله قد كتب لي أن أطيع.
وجواب رابع: أن نقول: إن الله قد فَضَّل الإنسان بما أعطاه من عقل وفهم، وأنزل عليه الكتب، وأرسل إليه الرسل، وبَيَّنَ له النافع من الضار، وأعطاه إرادة وقدرة يستطيع بهما أن يسلك إحدى الطريقين، فلماذا يختار هذا العاصي الطريق الضارة على الطريق النافعة ؟.
أليس هذا العاصي لو أراد سفرًا إلى بلد وكان له طريقان، أحدهما سهل وآمن، والآخر صعب ومخوف، فإنه بالتأكيد سوف يسلك الطريق السهل الآمن، ولن يسلك الصعب المخوف، بحجة أن الله كتب عليه ذلك، بل لو سلكه واحتج بأن الله قد كتبه عليه لعَدَّ الناس ذلك سفها وجنونا، فهكذا أيضا طريق الخير وطريق الشر سواء بسواء، فليسلك الإنسان طريق الخير ولا يخدعن نفسه بسلوك طريق الشر، بحجة أن الله كتبه عليه.
ونحن نرى كل إنسان قادر على كسب المعيشة، نراه يضرب كل طريق لتحصيلها، ولا يجلس في بيته ويدع الكسب احتجاجا بالقدر.
إذن فما الفرق بين السعي للدنيا والسعي في طاعة الله ؟، لماذا تجعل القدر حجة لك على ترك الطاعة، ولا تجعله حجة لك على ترك العمل للدنيا.
ص -24- أن أمر من الوضوح بمكان، ولكن الهوى يُعمِي ويُصم.
أحاديث فيها ذكر الشباب
لما كانت هذه الكلمات تدور حول مشكلات الشباب؛ فإني أحب أن أذكر بعض الأحاديث التي فيها ذكر الشباب. فمنها:
1 "يعجب ربك من شاب ليست له صبوة"1
والصبوة: الهوى والميل عن طريق الحق.
2 "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"2.
3 "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"3.
4 "يقال لأهل الجنة: إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا"4.
5 "ما أكرم شاب شيخا لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنه"5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أحمد.
2 رواه البخاري ومسلم.
3 رواه الترمذي.
4 رواه مسلم.
5 رواه الترمذي بسند ضعيف.
ص -25- 6 قال أبو بكر وعنده عمر بن الخطاب لزيد بن ثابت رضي الله عنه: "إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن، فاجمعه" الحديث1.
7 دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في سياق الموت، فقال له: "كيف تجدك ؟". قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجوه، وأمنه مما يخافه"2
8 قال البراء بن عازب رضي الله عنه في غزوة حنين: "لا والله ما ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خرج شبان أصحابه وخفافهم، حسّرًا لا سلاح معهم"3
9 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نغزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شباب"4.
10 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان شباب من الأنصار سبعين رجلاً، يقال لهم: القُرَّاء. يكونون في المسجد، فإذا أمسوا انتحوا ناحية من المدينة فيتدارسون ويصلون، يحسبهم أهلوهم في المسجد، ويحسبهم أهل المسجد في أهليهم، حتى إذا كان في وجه الصبح استعذبوا من الماء، واحتطبوا من الحطب، فجاءوا به فأسندوه إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم"5
وكانوا يشترون بذلك طعاما لأهل الصفة، وأهل الصفة: هم الفقراء المهاجرون إلى المدينة، ليس لهم أهل فيها ولا عشيرة، فيأوون إلى صفة في المسجد أو قريبا منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري.
2 رواه ابن ماجه.
3 رواه البخاري.
4 رواه أحمد.
5 رواه أحمد.
ص -26- 11 وعن علقمة أحد أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنت أمشى مع عبد الله بمنىً، فلقيه عثمان رضي الله عنه فقام معه يُحَدِّثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن، ألا نزوجك شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك ؟. فقال عبد الله: لئن قلت ذلك لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشرَ الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"1.
12 وفي حديث الدجال عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الدجال يدعو رجلاً ممتلئا شبابا، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك"2.
13 عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: "أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، فلما ظن أنا قد اشتقنا أهلنا، سألنا عمن تركنا بعدنا ؟، فأخبرناه فقال صلى الله عليه وسلم: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم [وذكر أشياء]، وصلوا كما رأيتموني أُصَلِّي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمّكم أكبركم"3
وإلى هنا انتهى ما أردنا تقديمه.
نسأل الله تعالى أن ينفع به.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري ومسلم.
2 رواه مسلم.
3 رواه البخاري.