فصل
يقول كثير من الناس: هذا وقت العلم والمعارف والرقي، ومقصودهم بهذا الإعراض عن الماضي وعن علوم الدين والتزهيذ فيها، وقد صدقوا من جهة وكذبوا من جهات أخر.
قد صدقوا أنه وقت ترقت فيه علوم الصناعات والمخترعات وما يرجع إلى الماديات والطبيعيات، وقد كذبوا أفظع الكذب حيث حصروا العلم بهذا النوع ولم يعلموا أن العلم الحقيقي النافع هو العلم بما جاء به الكتاب والسنة الكفيل بكل خير ديني ودنيوي وأخروي.
والعلم النافع من علوم الصناعات والمخترعات داخل في ضمن هذا، بل العلم الديني هو الذي يصيِّر العلوم الطبيعية والصناعية نافعة نفعاً صحيحاً، وهو الذي يوجِّهها إلى نفع النوع الإنساني ويمنعها من التهور المهلك. ولهذا نقول وقد كذبوا أيضاً من جهة أن هذه العلوم التي افتخروا بها لم يوجهوها التوجيه النافع، بل استعملوها فيما يضر الخلق في الإِهلاك والإِفناء
والتدمير، فهي من أعظم النعم ولكنها باستعمالهم إياها كانت من أكبر النكبات والنقم.
وهذا من المعلوم الذي لا ريب فيه أن الشيء الذي لا يتولى الدين الصحيح توجيهه فهو منعكس ضرره أكبر من نفعه.
وقد صدقوا أنه زمان ترقي الماديات الجافة، وقد كذبوا في إطلاقهم الترقي، فيظن الظان أنه ترق في كل شيء، إنما ترق في الصناعات والمخترعات لا في الأخلاق الفاضلة والديانات، فلا ينفع الترقي في الماديات إذا هبطت الأخلاق التي عليها المدار في كل شيء، وهي التي تصلح الأشياء ولا تصلح الأمور بدونها كما هو مشاهد محسوس، فأي ترقي صيَّر أهله بمنزلة السباع الضارية، دأبها الظلم والفتك والاستعمار للأمم الضعيفة وسلبها حقوقها؟
فالترقي الصحيح الذي هو من آثار الدين من آثاره العدل والرحمة والوفاء بالحقوق والحث على كل خير والتحذير من كل شر، هذا هو الترقي الذي لم يشموا له رائحة ولا خطر بقلوبهم، وكيف يخطر بقلوبهم وقلوبهم ملأى بالهلع والجشع والزهو والكبر والغرور ومن كل خلق رذيل.
وقد كذبوا أيضاً في زعمهم أن العلوم العصرية والفنون الاختراعية النافعة هم الذين ابتدؤها، وأن الشريعة الإسلامية لم تهد إليها ولم ترشد إلى أصولها. وهذا بهت عظيم ومكابرة يعرفها من له أدنى نظر في الدين الإسلامي، وكيف أصَّل للعباد أصولاً عظيمة نافعة بها صلاح دنياهم، كما أصَّل لهم أصولاً نافعة فيها صلاح دينهم.
وقد ذكرنا بعض النصوص من الكتاب والسنة الدالة على هذا الأصل كما سبقت الإشارة إليه، نعم لو قالوا أن الناس في هذا الوقت انتفعوا بهذه الأصول والتعاليم الدينية في ترقية الصناعات وابتكار المخترعات ومعرفة طرق الاقتصاديات وما أشبه ذلك، ولكنهم رقوها ترقية مبتورة مقطوعة الصلة بالله وبدين الله، فلهذا نفعت من جهة وضرّت من جهات.
نفعت بما اشتملت عليه من منافع العباد الدنيوية ونفعت من استعان بها على الدين والخير.
وضرت من جهة أنها سببت لأهلها الوحشية والهمجية الذي من آثاره الإهلاك والتدمير والشرور التي لم يوجد لها نظير فيما سبقت. وضرت أيضاً من جهة ما أحدثت في نفوس أهلها من الزهو والغرور والكبرياء واستعباد الضعفاء وظلمهم وهضم الحقوق والشرور المتنوعة.
فلو أن هذه المخترعات تولى الدين توجيهها لحصل فيها من المنافع أضعاف أضعاف ما شوهد، ولاندفعت مضارها وشرورها، ولكانت مبنية على الخير والصلاح، وآثارها الخير والإصلاح للدين والدنيا، ولكن لله في خلقه شؤون.
* * *
فصل
أعظم آفات العلم وقواطعه الانخداع بالوقوف مع المخلوقات دون خالقها، وبالآثار عن مؤثرها، وبالأسباب عن مسببها، وبالوسائل عن مقاصدها. وهذا النوع نقصه كثير وضرره كبير، فإن كثيراً من الملحدين والمغترين بهم يمهرون في العلوم الطبيعية، ولكنهم يقفون معها
ويعمون عن ارتباطها بخالقها ومسبِّبها والذي أودع فيها من العجائب والأسرار ما أودع، فيرون أنفسهم قد عرفوا من عجائب علوم الطبيعة ما لم يعرفه غيرهم.
ومن الأسرار التي أودعها الله في الطبائع ما زادوا به على
غيرهم فيأخذهم الزهو والغرور ويقفون معها ويرونها هي الحاصل وهي المقصود وهي الغاية فيحصل الانحراف العظيم والنقص في العلم
والعقل.
فلو أنهم عرفوا وأثبتوا الموجد الحقيقي والمدبِّر للأمور كلها، وربطوا الأسباب بقضائه وقدره، وعلموا أن الأسباب محل حكمته، فإنه تعالى حكيم يضع الأمور مواضعها ويجعل الأمور الدقيقة والجليلة منتظمة بنظام عجيب وارتباط وثيق، وجعل لكل مطلوب ومقصود سبباً ووسيلة وطريقاً يوصل إليه، ولذلك نتيجة وثمرة بحسب قوة الأسباب وضعفها وبحسب قوة العامل بها وضعفه، ثم ربطوا هذه الأسباب والوسائل والنتائج بقدر الله وقضائه، لو أنهم فعلوا ذلك في عملهم لتم علمهم وحصل لهم من اليقين ما لا يحصل لمن لم يصل إلى ما وصلوا إليه.
ولكنهم فرحوا بما عرفوه من الوسائل التي يعرفون نتائجها الدنيوية ملموسة وتكبَّروا بها فانطبق عليهم قوله تعالى: {{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ *}}، وقوله تعالى: {{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}}، وهذا أعظم آفات العُجب والكبر على الإطلاق وأعظم الطرق التي اغترَّ بها وانخدع كثير من الخلق.
فنسأل الله أن يرزقنا العلم الصحيح المؤيد بالعقل والنقل والفطرة، وهو العلم النافع الذي يعرفه العبد من جميع نواحيه، وهو العلم الذي يربط الفروع بأصولها ويرد الأسباب وآثارها ونتائجها إلى مسببها وإلى الذي جعلها كذلك، وهو العلم الذي لا ينقطع صاحبه بالمخلوق عن خالقه، وبالآثار عن
مؤثرها، بالحكم والأسرار والنظامات العجيبة عن محكمها ومنظمها
ومبدعها.
وهذا العلم هو الذي يثمر اليقين وتحصل به الطمأنينة وتتم به السعادة والفلاح ويثمر الأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة المُصلحة للدين
والدنيا.
أما علوم المنحرفين فإنها كما ذكرنا مقطوعة مبتورة جافة، نهاية نفعها كنفع الصناعات المادية كما هو مشاهد محسوس، لا تثمر إيماناً ولا أمانة ولا رحمة ولا أخلاقاً جميلة، بل ثمراتها ضد ذلك، يؤسف غاية الأسف لكل ذي عقل كبير وذكاء مفرط أن تكون هي غايته وثمراته.
فإن العقلَ الصحيحَ فهمُ الأشياء والإحاطة بها من جميع نواحيها، ثم العمل بالأمور النافعة واستغلال الخيرات والمواهب التي وُهبها العبد والجمع بين مصالح الدارين ومنافع البدن والروح، والنظر الصحيح للمبادئ والعواقب، وربط الأمور المتصلة بعضها ببعض، فكل من لم يتصف بهذه الأوصاف نقص من عقله بحسب ذلك، فكيف بدينه؟..
* * *
فصل
ومن علامات المنحرفين في أديانهم وعقولهم اغترارهم بآرائهم وعقولهم السخيفة واحتقارهم لعقول صفوة الخلق وخلاصتهم من الأنبياء وأتباعهم وأهل الهدى، وبهذا تعرف مكابرتهم ومبالغتهم وإنكارهم ما لا يمكن إنكاره، وجحدهم فضل من قبلهم ليتوصلوا بذلك إلى رد الحق، يصدوا العباد عن دين الله وسبيله.
فيعبرون عن الحقائق التي جاءت بها الرسل يقولون: هذا عقل قديم، هذا رأي عتيق، هذا أساطير الأولين، كما قابلت الرسل أعداؤهم بهذه الأقوال الخبيثة الساقطة. وقد اغتر بأقوالهم هذه كثير من النشأة والشبيبة الذين لا بصيرة لهم ولا عقول ناضجة.
أما علموا أن العقول لا تكمل ولا تزكوا إلا بالوحي والقرآن، ولا تكون عقولاً نافعة حتى تغتذي بالهدي واليقين الذي جاء به الرسول، قال تعالى: {{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُِوْلِي النُّهَى}}، {{لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ}}. وهم أهل العقول الوافية والآراء السديدة والأخلاق الزاكية.
فهل يوجد عقول صحيحة تقارب عقل النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي لم تستنر العقول والآراء إلا بعقله ورأيه وعلمه وتعليمه وإرشاده، فحسب العقول الكاملة أن تستمد من عقله صلّى الله عليه وسلّم وآرائه وهداه ورشده، وتغتذي بنوره وتوجيهه وإرشاده.
قال تعالى: {{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى *وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *}}، وهذا وصف للنبي صلّى الله عليه وسلّم بكمال العلم والهدى وكمال الرشد وكمال العصمة في أقواله وأفعاله، وبذلك يعلم أن كل ما خالف هديه ورشده وإرشاده فهو ضلال وغي وسفاهة وشر وهلاك، والواقع أكبر شاهد على ذلك.
فهل حصل لأحد مثقال ذرة من الخير الظاهر والباطن ومن الثمرات النافعة الجليلة إلا على يده وبتعليمه صلوات الله وسلامه عليه، وهل اهتدى أحد بامتثال أمره واجتناب نهيه، وهل صلح شيء من أمور الدين والدنيا صلاحاً لا فساد معه إلا بالمشي خلفه واتباعه في أصول الدين وفروعه، وفي الوسائل والمقاصد؟ فلا خير وهدى ورحمة وصلاح وإصلاح للظاهر والباطن إلا دل الخلق عليه وأرشدهم إلى مسالكه، ولا شرر وضرر إلا حذرهم عنه، قال تعالى: {{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}}.
فمن كماله أنه هدى للتي هي أقوم في عقائده وأخلاقه وأعماله، فكملت به العقائد والأخلاق والأعمال فلا يعتريه النقص بوجه من الوجوه.
ومن كماله أنه صالح لكل زمان ومكان وحالٌّ لجميع المشاكل الاجتماعية والشخصية.
ومن كماله أن جميع الحقائق العقلية والحسية والتجارب الصادقة كلها داخلة فيه وفي ضمنه.
ومن كماله أن النظريات المتباينة والاختلافات المتضادة بيَّن صحيحها من سقيمها، وصالحها من فاسدها، وعدلها من ظلمها، وحقها من باطلها.
ومن كماله أنه كملت به العقول واستنارت به الآراء واستمدت من هدايته ما أصلحت به دينها ودنياها، فكل خير ديني ودنيوي وظاهر وباطن من نتائجه وثمراته، ولذلك تمت به النعمة على المؤمنين وحصل به الخير المنوع على جميع العالمين.
والحمد لله الذي تفضل به على العباد، وجعله هدى ورحمة في مصالح المعاش والمعاد، وصلَّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.
كتبه الفقير إلى الله عبد الرحمن الناصر بن سعدي.
في 10 محرم سنة1375هـ.