منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الترخُّص بمسائل الخلاف ضوابطه وأقوال العلماء فيه
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-03-19, 08:17   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
01 algeroi
عضو فعّال
 
إحصائية العضو










افتراضي

المبحث الخامس : تأصيل المسألة
مسألة الترخّص بمسائل الخلاف ، عني بها الفقهاء والأصوليون على حدٍّ سواء . فالفقهاء يذكرونها - استطراداً - عند ذكرهم حكم من أتى فرعاً مختلفاً فيه يعتقد تحريمه ، في شروط من تقبل شهادته. والأصوليون سطّروها عقيب مسألة من التزم مذهباً معيناً ، واعتقد رجحانه ، فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ، ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر ؟ ، فهي شبيهة بها ، مفرّعة عنها ، وهذه المسألة تعود إلى قاعدة عظيمة هي قاعدة : (( تصويب المجتهدين ))، والخلاف فيها : هل كل مجتهد مصيب ، أو المصيب واحد ؟ فمن توسع في الأخذ برخص العلماء من غير ضابط ولا قيد ، يرى أن كل مجتهد مصيب فيما عند الله ، ومصيب في الحكم ، وليس هناك تحجير على تتبُّع مسائل الخلاف ، واستمع إلى ما يحكيه ابن المنيِّر حينما فاوض بعض مشايخ الشافعية في هذه المسألة فقال : (( وقال - أي الشيخ - : أي مانع يمنع من تتبع الرخص ونحن نقول : كل مجتهد مصيب ، إن المصيب واحد غير معين، والكل دين الله ، والعلماء أجمعون دعاة إلى الله ، حتى كان هذا الشيخ رحمه الله من غلبة شفقته على العامي إذا جاء يستفتيه - مثلاً - في حنث ينظر في واقعته ، فإن كان يحنث على مذهب الشافعي ، ولا يحنث على مذهب مالك ، قال لي : أفته أنت، يقصد بذلك التسهيل على المستفتي ورعاً )) .
ونقل الشاطبي عن بعض العلماء قولهم : (( كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز - شذّ عن الجماعة ، أو لا ، فالمسالة جائزة )) .
والحق الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهورهم أن الحق من ذلك واحد من أقوالهم وأفعالهم ، والباقون مخطئون ، غير أنه معذور بخطئه ، للحديث الصحيح : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد )) .
ثم اختلف هؤلاء الأئمة - وهو اختلاف لا يقدح في أصل القاعدة - فيمن لم يصب الحكم الباطن : هل يقال : إنه مصيب في الظاهر ؟ فقيل : المخطئ في الحكم مخطئ في الاجتهاد ولا يطلق عليه اسم الإصابة بحال . وقيل : إنه مصيب في الظاهر ، لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده .
وتنازعوا أيضاً علامَ يؤجر المخطئ ؟ بين قائلٍ : إنه يؤجر على القصد إلى الصواب ، ولا يؤجر على الاجتهاد ، لأنه اجتهاد أفضى به إلى الخطأ ، وهو اختيار المزني .
وبين قائلٍ : إنه يؤجر عليه وعلى الاجتهاد معاً ، لأنه بذل ما في وسعه في طلب الحق ، والوقوف عليه .
وذهب الخطابي إلى أن المجتهد إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ ، بل يوضع عنه الإثم فقط ، فجعل قوله ش : (( وله أجر واحد )) مجازاً عن وضع الإثم .
وشذَّ أبو علي بن أبي هريرة فقال : إن المخطئ آثم .
ولا يهولنّك ما ينسبه بعض المحققين - كالمازري والماوردي وغيرهما - إلى الجمهور من القول بأن كل مجتهد مصيب، وأن الحق في طرفين، فهؤلاء نظروا إلى وجوب العمل بما أدى إلى الاجتهاد ، لأن لله تعالى حكمين : أحدها : مطلوب بالاجتهاد ونصب عليه الدلائل والامارات . والثاني : وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد ، وهذا متفق عليه ، فنظروا إلى هذا الحكم الثاني ، ولم ينظروا إلى الأول ، وهذا حق ، فالخلاف حينئذ لفظي .
أو أن يكون شقَّ عليهم ، فكرهوا أن يقال للمجتهد : إنه أخطأ لأن هذا اللفظ يستعمل في الذنب كما جاء في قراءة ابن عامر : (( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خَطَأً كبيراً )) على وزن عَمَلاً ، والأكثرون يقرأون:(( خِطْأً )) على وزن:عِلْماً-وهذا خلاف المشهور ، لأن لفظ الخطــأ يفــــارق العمد ، فهو من الرباعي أخطأ يخطئ ، أي : لم يصب الحق ، لا من الثلاث خطأ يخطأ فهو خاطئ أي : مذنب - فهم أرادوا أن كل مجتهد مصيب أي : مطيع لله ليس بآثم أو مذموم ، وهذا صحيح ، والخلاف أيضاً لفظي .
وأصل هذه المقالة - أي القول بأن كل مجتهد مصيب - بدعة ابتدعها المعتزلة، يقول أبو الطيب الطبري : (( وهم الأصل في هذه البدعة وقالوا ذلك لجهلهم بمعاني الفقه وطرقه الصحيحة الدالة على الحق ، الفاصلة بينه وبين ما عداه من الشبه الباطلة فقالوا : ليس فيها طريق أولى من طريق ، ولا أمارة أقوى من أمارة ، والجميع متكافؤن وكل من غلب على ظنه شيء حكم به فحكموا فيما لا يعلمون وليس من شأنهم وبسّطوا بذلك شبه نفاه القياس منهم ومن غيرهم الذين يقولون : لا يصح القياس والاجتهاد لأن ذلك إنما يصح من طريق تؤدي إلى العلم أو إلى الظن ، وليس في هذه الأصول ما يدل على حكم الحوادث علماً ولا ظناً )) .
ثم تلقفها عنهم أكثر الأشعرية كأبي الحسن والباقلاني والغزالي وغيرهم فقالوا مثل مقالة المعتزلة ، وزادوا عليه أن التكليف مشروط بالقدرة ، فتكليف المجتهد الإصابة لما لم ينصب عليه دليل قاطع تكليف بما لا يطاق ، فلا يقال : أخطأه لذلك قال أبو إسحاق الشيرازي لما بلغته مقالة أبي الحسن الأشعري : (( يقال : إن هذه بقية اعتزال بقي في أبي الحسن رحمه الله . هذا مذهب أصحابنا ، ومذهب هؤلاء )) .
وفي الجملة فقد دلت نصوص السنة الصحيحة على أن المصيب عند الله واحد في مسائل الحلال والحرام المختلف فيها ، ومن أظهرها : (( إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس )) يقول ابن رجب : (( كلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات ، من الناس من يعلمها ، وكثير منهم لا يعلمها ، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان : أحدهما : من يتوقف فيها لاشتباهها عليه . والثاني : من يعتقدها على غير ما هي عليه . ودلّ الكلام على أن غير هؤلاء يعلمها ومراده أنه يعلمها على ماهي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم ، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله، وغيره ليس بعالم بها بمعنى أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر وإن كان يعتقد فيها اعتقاداً يستند فيه إلى شبهة يظنــــها دليلاً ، ويكون مأجوراً على اجتهاده مغفوراً له خطؤه )) .
وكذلك الحديث الصحيح : (( إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك )) فدلَّ الحديث على أن لله تعالى حكماً معيناً ، يصيبه من يصيبه ، ويخطئه من يخطئه .
ثم إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خطَّأ بعضهم بعضاً ، ونظر بعضهم في أقاويل بعض ، ولو كان قولهم كله صواباً عندهم لما فعلوا ذلك . وقال غير واحد من الصحابة كابن مسعود رضي الله عنه : (( أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان )) .
ولهذه القاعدة - أي أن الحق في قول واحد - كان الأئمة ينكرون ويعذرون في مسائل الخلاف على حسب الأدلة ، وهذا هو قول الإمام أحمد ، وهو تصرف أصحاب الشــــافعي ، فمن أخذ بحديث ضــــعيف وترك حديثاً صحيحاً لا معارض له ، يقطع بخطئه ، ناهيك عمن يخالف إجماعاً أو يترك سنة صحيحة لقول إمام ، وإذا كان في المسألة حديثان صحيحـــان نظر في الراجح فأخذ به، ولا يسمى الآخر مخطئاً ، أما إذا كانت المسألة مشتبهة لا نصَّ فيها اجتهد برأيه، ولا يسمى الآخر مخطئاً ، وهذا الذي يسميه العلماء : الخلاف السائغ .