المبحث الرابع : بيان زلاّت العلماء
واستغفر الله تعالى من هذا العنوان ، واستعيذ بالله مما استعاذ منه ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في هذه المسألة فقال : (( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم ، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم ، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله )) .
فالداعي إلى خوض هذه المسألة أن كثيراً من المقلدين ، وكذلك المفتين وأهل العلم ، يجادلون من ينكر عليهم التوسع في تتبع رخص العلماء من غير ضابط بقولهم : أأنتم أعلم أم الإمام الفلاني ؟
وألستم تعرفون فضل هؤلاء الأئمة، ومكانتهم من العلم والفقه والتقوى ؟ فما بالنا لا نأخذ برخصهم وأقوالهم ؟
وهذه معارضة فاسدة لا تصح، لأن الله لم يجعل العصمة لأحدٍ دون رسوله e ، فالرجل الجليل القدر، العظيم المنزلة ، قد تقع منه الهفوات والزلاّت ، وهذا بشهادة أئمة الدين، وسادات الدنيا فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : (( ثلاث يهدمن الدين زلة العالم ، وجــــدال المنافق بالقــرآن ، وأئمة مضلون )) . وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : (( ويل للأتباع من عثرات العــالم . قيل : وكيف ذاك ؟ قال : يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله ش فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع )) .
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى قوله : (( إني أخاف على أمتي من ثلاث : زلة عالم ، ومن هـوى متبع ، ومن حكم جائر )) .
وليست هناك شهادة بعد هذه الشهادة ، فأي معنى للتشبث ببعض المستشنعات التي وردت عن الأئمة ، وإفتاء الناس بها ، ناهيك عن كثير من المسائل التي يخرِّجها الاتباع على لوازم باطلة لا تصح ، بل وقد يُنسب للإمام ما لم يقله ، كما حدث لأحمد رحمه الله حين نُسب إليه القول أن الغسل
لا يكون إلا من الإنزال ، فكان أحمد ينكر ذلك ويقول : ما أحفظ أني قلت به قط ، فقيل له : بلغنا أنك تقوله ، فقال : الله المستعان ، من يكذب عليَّ في هذا أكثر من ذاك . ورحم الله الإمام أحمد فما زال الكذب على العلماء ، وتقويلهم ما لم يقولوه ، باق حتى يومنا هذا .
ثم أليس من أوثق عرى الإسلام النصيحة ؟ يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الدين النصيحة ، قلنا لمن ؟ قال : لله عزَّ وجل ولكتابه ، ولرسوله e ، ولأئمة المؤمنين وعامتهم )) . فأين النصيحة للعلماء ؟ فهم من جملة أئمة المؤمنين ، يقول ابن رجب : (( ومما يختص به العلماء - أي في النصيحة - ردّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على موردها ، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردّها )) .
فمن حقهم أن لا ننسب لهم قول - يجد الواحد منّا حرجاً أن ينسبه لنفسه، فضلاً أن ينسبه لهؤلاء الأئمة - لاسيما للعوام منهم : فهم مولعون بالنوادر ، متهالكون على الغرائب ، لذلك كان هذا أخوف ما يُخاف علينا ، فالعالم إذا زلّ ، زلَّت معه أمّة ، وإني لناقلٌ لك من قبائح فهم العوام مما قصّه لنا ابن القيم رحمه الله فقال : (( قد نُسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها ، وهو كذب على مالك وأصحابه فكتبهم كلها مصرِّحة بتحريمه ، ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكاً يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور وجعلوا البابين باباً واحداً ، وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع العلماء )) ثم قال : (( ونظير هذا الظن الكاذب ، والغلط الفاحش ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحة ، أو أنها أيسر من ارتكابها من الحر ... قال شيخنا - أي ابن تيمية - ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى : ) ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ( [ البقرة 221 ] على ذلك - أي إباحة ذكران العبيد المؤمنين - ... ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء ، ويحرّمه بعضهم ، ويقول : اختلافهم شبهة ، وهذا كذب وجهل )) .
ولا يبقى بعد هذا كله إلا الحذر ثم الحذر من إطلاق الفتاوى على عواهنها من غير قيد ولا ضابط .
ثم إن لهؤلاء الأئمة حقاً آخر - دون الحق الأول - وهو ردُّ المسائل التي أخطأوا فيها الاجتهاد وعرضها على الكتاب والسنة ، فهذه وصيتهم رحمهم الله تعالى ، حكى البويطي أنه سمع الشافعي يقول : (( قد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها ولابد أن يوجد فيها الخطأ ، إن الله تعالى يقول : ( ولو كان من عند غــير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ( [ النساء 120 ] فما وجدتم في كتبي مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعـت عنه )) .
ويقول أبو حنيفة : (( هذا رأيي ، وهذا أحسن ما رأيت ، فمن جاء براي خير منه قبلناه )) وصحّ مثل هذا القول عن مالك وأحمد .
وإذا أنت بحثت ونظرت ، وجدت أن أكثر الناس نصحاً لهؤلاء الأئمة ، هم كبار أصحابهم، فهذا محمد بن الحسن وأبو يوسف قد خالفا أبا حنيفة في كثير من المسائل، ولا يجدون غضاضة في الرجوع إلى الحق، ولهذا لما اجتمــــع أبو يوسف بمالك فسأله عن الصاع ، وصدقة الخضروات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنــة في ذلك، قـــــال : (( رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت )) .
وهذا المزني وهو ناشر مذهب الشافعي ، اختصر مذهب صاحبه ، ولم يجد حرجاً أن يذكر بعد البسملة في افتتاح الكتاب وصية الشافعي فقال : (( اختصرت هذا الكتاب في علم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله ، لأقربه على من أراده ، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره ، لينظر فيه لدينه ، ويحتاط لنفسه )) .
وهذا كله لا يقدح في أقدار هؤلاء الأئمة ، ولا يغض من منزلتهم فما من أحد إلا وقد خُفيت عليه سنة ، أو فاته فهم صحيح ، فميراث النبوة ميراث ضخم واسع لا يحصى ، وجعله النبي ش مشاعاً ، لينهل منه العلماء ، فما فات هذا الإمام من سنة وجدته عند الآخر ، وما غفل عن فهمه ذاك ، انقدح في ذهن هذا معناه، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لذلك يقول الله تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً ) [ الأنبياء : 78 ] فهذان نبيان كريمان إلا أن الله تعالى خصَّ أحدهما بالفهم دون الآخر .
ولا تظنَّن أن خفاء السنة عائد لعدم شهرتها - وأعني بالشهرة المعنى اللغوي - أو لكونها مذكورة في غير الصحاح ، بل هناك أحاديث في صحيح البخاري غفل عنها كبار الأئمة، وإني لناقلٌ مسائل استدركها ابن رجب رحمه الله على بعضهم منها :
- أن ابن تيمية رحمه الله أنكر ورود لفظ : (( كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم )) في ألفاظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد ، بالجمع بين (( إبراهيم وآل إبراهيم )) فقال : فهذه الأحاديث التي في الصحاح لم أجد فيها ولا فيما نقل لفظ : (( إبراهيم وآل إبراهيم )) بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ : (( آل إبراهيم )) وفي بعضها لفظ : (( إبراهيم )) وقد يجيء في أحد الموضعين لفظ : (( آل إبراهيم )) وفي الآخر لفظ : (( إبراهيم )) .
وقد تعقبه ابن رجب في (( القواعد )) فقال - بعد أن نقل كلامه - : (( كذا قال ، وقد ثبت في (( صحيح البخاري )) الجمع بينهما من حديث كعب ابن عجرة ، ويعني به قوله صلى الله عليه وسلم : (( قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد )) .
- وسنة أخرى من سنن الغُسل وهي تخليل شعر الرأس واللحية الوارد في حديث عائشة رضي الله عنها أنها ، قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة ، غسل يديه ، وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم اغتسل ، ثم يخلِّل بيده شعره ، حتى إذا ظنَّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ، ثم يغسل سائر جسده )) فقد غفل عنه كبار الأئمة ، يقول ابن رجب : (( قول عائشة (( حتى إذا ظنَّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات )) يتبين أن التخليل كان لغسل بشرة الرأس، وتبويب البخاري يشهد لذلك أيضاً )).
يقول ابن رجب : (( وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة ، ثابتة عن النبي ش ، لم يتنبه لها أكثر الفقهاء ، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وادائه. ولم أر من صرّح منهم، إلا صاحب (( المغني )) ، من أصحابنا ، وأخذه من عموم قول أحمد : الغسل على حديث عائشة .
وكذلك ذكره صاحب (( المهذب )) من الشافعية قال : - بعد ذكر الوضوء - : (( ثم يدخل أصابعه العشر في الماء ، فيغترف غرفة يخلِّل بها أصول شعره من رأسه ولحيته ، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات )) .
فإذا كان الخطأ والوهم قد وقع فيه هؤلاء العلماء وهم من هم في الحفظ والذكاء والاتقان ، فهي فيمن دونهم أولى ، أمّا التعصب وإلباس الأئمة ثوب العصمة فليس من التناصح أو الإنصاف في شيء ، وإذا شئت أن تعرف كيف يكون الانصاف فاقرأ كلام ابن المنير وهو مالكي حين قال : (( وقد ذكر قوم من أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم . وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها : ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها . فما من واحد منهم إذا تجرَّد النظر إلى خصائصه
إلا ويفنى الزمان حتى لا يبقى فيهم فضلة لتفضيل على غيره )) .