المبحث الأول : الخلاف : أسبابه ، وبيان أنه من السنن الكونية
من أعظم آيات الله عزَّ وجلَّ أن خلق الناس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم ، وعقولهم وأفهامهم ، فقرنها الله تعالى مع عجيبة أخرى وهي خلق السموات والأرض فقال تعالى : ( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) [ الروم : 22 ] فكان من مقتضى هذه الحكمة أن يقع الخلاف بين الناس ، فهي سمة البشرية ، وسنة كونية لا تتغير
ولا تتبدّل وقد صحّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : (( كان بين آدم ونوح عشرة آخرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك )) ذكر هذا في معرض تفسيره لقوله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) [ البقرة 213 ] ، فالخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح عليه السلام ، لم تسلم منه أمّة من الأمم ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة )) .
وهذه الأمة ليست ببدع من الأمم ، فقد بقى رسولها ش ثلاثاً وعشرين سنة بين ظهرانيهم ، يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ، ومع هذا تنازع الصحابة واختلفوا ، في مراد النبي ش كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يصلّينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق. فقال بعضهم : نصلي ولا نترك الصلاة . وقال بعضهم : لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فلم يعنف أحداً منهم )) .
وكذلك حديث : (( خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة ولــيس معهما ماءٌ فتيمَّما صعيداً طيباً فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ، ولم يعد الآخر ، ثم أتــيا رسول الله e فذكرا ذلك له ، فقال للذي لم يُعد : أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ، وقال للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين )).
فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم تركهم (( على بيضاء نقية ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك )) وما أبلغ كلمة عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه حين شك الناس في موته فقال : (( والله ما مات رسول الله ش حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً ، وأحلّ الحلال ، وحرّم الحرام ، ونكح ، وطلَّق ، وحارب ، وسالم ، وما كان راعي غنم يتبع رؤوس الجبال ، يخبط عليها العضاة بمخبطه ، ويمرر حوضها بيده ، بأنصب ولا أدأب من رسول الله ش فيكم )) .
وميراث النبوة الذي ورَّثه النبي ش لأمته منه ما هو بيِّنٌ لا اشتباه فيه مثل الحلال المحض كأكل الطيبات من الزروع والثمار وكالنكاح ، والتسري . وآخر هو الحرام المحض ، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا ، ونكاح المحارم وغيرها.
ومنه ما هو مشتبه فيه ، كأكل ما اختلف في تحريمه وحلِّه ، كالخيل والبغال ، والحمير ، والضبِّ ، وشرب الانبذة التي يسكر كثيرها ، وغيرها .
وهذا القسم هو الذي عناه النبي ش بقوله : (( الحلال بيِّن والحرام بيِّن ، وبينهما أمور مشتبهاتٌ ، لا يعلمها كثير من الناس )) ، فسّره على هذا المعنى الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة والعلماء هم الوارثون لعلم النبوة ، وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها من الحرام ، وبعدها عنه ، لذلك يقع الخلاف في تحليله وتحريمه لأسباب كثيرة ، عني الفقهاء على استقصاءها وذكرها مطوّلة ، لكن أعجبني ما لخَّصه ابن رجب رحمه الله فقال : (( ومنه - أي الحلال والحرام - ما لم يشتهر بين حملة الشريعة فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب :
منها : أنه قد يكون النص عليه خفياً ، لم ينقله إلا قليل من الناس فلم يبلغ جميع حملة العلم .
ومنها : أنه قد ينقل فيه نصان ، أحدهما بالتحليل ، والآخر بالتحريم ، فيبلغ طائفة أحد النصين دون الآخر ، فيتمسكون بما بلغهم ، أو يبلغ النصان معاً من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ .
ومنها : ما ليس فيه نص صريح ، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس ، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً .
ومنها : ما يكون فيه أمر أو نهي ، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب ، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه .
وأسباب الخلاف أكثر مما ذكرنا )) .