منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الرد على شبهة: الغناء والموسيقى مسألة خلافية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-01-20, 23:10   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
أخ كريم
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية أخ كريم
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
سؤال يتردد علي ألسنة كثيرين في مجالات مختلفة وأحيانًا شتي.
سؤال اختلف جمهور المسلمين اليوم في الإجابة عليه، واختلف سلوكهم تبعًالاختلاف أجوبتهم، فمنهم من يفتح أذنيه لكل نوع من أنواع الغناء، ولكل لونمن ألوان الموسيقي مدعيًا أن ذلك حلال طيب من طيبات الحياة التي أباح اللهلعباده.

ومنهم من يغلق الراديو أو يغلق أذنيه عند سماع أية أغنية قائلا: إن الغناءمزمار الشيطان، ولهو الحديث ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبخاصة إذا كانالمغني امرأة، فالمرأة -عندهم- صوتها عورة بغير الغناء، فكيف بالغناء؟ويستدلون لذلك بآيات وأحاديث وأقوال.
ومن هؤلاء من يرفض أي نوع من أنواع الموسيقي، حتي المصاحبة لمقدمات نشرات الأخبار.

ووقف فريق ثالث مترددًا بين الفريقين؛ ينحاز إلي هؤلاء تارة، وإلي أولئكطورًا، ينتظر القول الفصل والجواب الشافي من علماء الإسلام في هذا الموضوعالخطير، الذي يتعلق بعواطف الناس وحياتهم اليومية، وخصوصًا بعد أن دخلتالإذاعة –المسموعة والمرئية- علي الناس بيوتهم، بجدها وهزلها، وجذبت إليهاأسماعهم بأغانيها وموسيقاها طوعًا وكرهًا.
والغناء بآلة -أي مع الموسيقي- وبغير آلة: مسألة ثار فيها الجدل والكلام بينعلماء الإسلام منذ العصور الأولي، فاتفقوا في مواضع واختلفوا في أخري.

اتفقوا علي تحريم كل غناء يشتمل علي فحش أو فسق أو تحريض علي معصية، إذالغناء ليس إلا كلامًا، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وكل قول يشتمل علي حرامفهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن والنغم والتأثير ؟
واتفقوا علي إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلاتوالإثارة، وذلك في مواطن السرور المشروعة، كالعرس وقدوم الغائب، وأيامالأعياد، ونحوها بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها.
وقد وردت في ذلك نصوص صريحة – سنذكرها فيما بعد.

واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافًا بينا: فمنهم من أجاز كل غناء بآلة وبغيرآلة، بل اعتبره مستحبًا، ومنهم من منعه بآلة وأجازه بغير آلة، ومنهم منمنعه منعًا باتًا بآلة وبغير آلة وعده حرامًا، بل ربما ارتقي به إلي درجةالكبيرة.

ولأهمية الموضوع نري لزامًا علينا أن نفصل فيه بعض التفصيل، ونلقي عليهأضواء كاشفة لجوانبه المختلفة، حتي يتبين المسلم الحلال فيه من الحرام،متبعًا للدليل الناصع، لا مقلدًا قول قائل، وبذلك يكون علي بينة من أمره،وبصيرة من دينه.

الأصل في الأشياء الإباحة: ـ
قرر علماء الإسلام أن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله تعالي: (هو الذي خلقلكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29)، ولا تحريم إلا بنص صحيح صريح منكتاب الله تعالي، أو سنة رسوله –صلي الله عليه وسلم- أو إجماع ثابت متيقن،فإذا لم يرد نص ولا إجماع. أو ورد نص صريح غير صحيح، أو صحيح غير صريح،بتحريم شيء من الأشياء، لم يؤثر ذلك في حله، وبقي في دائرة العفو الواسعة،قال تعالي: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه). (الأنعام: 119).

وقال رسول الله –صلي الله عليه وسلم-: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وماحرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لميكن لينسي شيئا"، وتلا: (وما كان ربك نسيا) (مريم: 64). رواه الحاكم عن أبيالدرداء وصححه، وأخرجه البزار.
وقال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عنأشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" أخرجه الداراقطني عن أبي ثعلبةالخشني. وحسنه الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه، والنووي في الأربعين.
وإذا كانت هذه هي القاعدة فما هي النصوص والأدلة التي استند إليها القائلون بتحريم الغناء، وما موقف المجيزين منها.

أدلة المحرمين للغناء ومناقشتها
استدل المحرمون بما روي عن ابن مسعود وابن عباس وبعض التابعين: أنهم حرمواالغناء محتجين بقول الله تعالي: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عنسبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين). (لقمان: 6) وفسروالهو الحديث بالغناء.
قال ابن حزم: ولا حجة في هذا لوجوه:
أحدها: أنه لا حجة لأحد دون رسول الله -صلي الله عليه وسلم-.
والثاني: أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين.
والثالث: أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها؛ لأن الآية فيها: (ومن الناس منيشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا) وهذه صفة منفعلها كان كافرًا بلا خلاف، إذ اتخذ سبيل الله هزوًا.

ولو أن امرأ اشتري مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزوا لكان كافرًا ! فهذا هو الذي ذم الله تعالي، وما ذم قط عز وجل من اشتري لهو الحديث ليتلهيبه ويروح نفسه لا ليضل عن سبيل الله تعالي. فبطل تعلقهم بقول كل من ذكرناوكذلك من اشتغل عامدًا عن الصلاة بقراءة القرآن أو بقراءة السنن، أو بحديثيتحدث به، أو بنظر في ماله أو بغناء أو بغير ذلك، فهو فاسق عاص لله تعالي،ومن لم يضيع شيئًا من الفرائض اشتغالاً بما ذكرنا فهو محسن. (المحلي لابنحزم (9/60) ط المنيرية). أ هـ.

واستدلوا بقوله تعالي في مدح المؤمنين: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) (القصص: 55). والغناء من اللغو فوجب الإعراض عنه.
ويجاب بأن الظاهر من الآية أن اللغو: سفه القول من السب والشتم ونحو ذلك،وبقية الآية تنطق بذلك. قال تعالي: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوالنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) (القصص: 55)، فهيشبيهة بقوله تعالي في وصف عباد الرحمن: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالواسلامًا). (الفرقان: 63).
ولو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن سماعه وتمدحه، وليس فيها ما يوجب ذلك.
وكلمة اللغو ككلمة الباطل تعني ما لا فائدة فيه، وسماع ما لا فائدة فيه ليس محرمًا ما لم يضيع حقًا أو يشغل عن واجب.

روي عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له: أيؤتي به يوم القيامة فيجملة حسناتك أو سيئاتك ؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات؛ لأنه شبيهباللغو، قال تعالي: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم). (البقرة: 225،والمائدة: 89).
قال الإمام الغزالي: (إذا كان ذكر اسم الله تعالي علي الشيء علي طريق القسممن غير عقد عليه ولا تصميم، والمخالفة فيه، مع أنه لا فائدة فيه، لا يؤاخذبه، فكيف يؤاخذ بالشعر والرقص ؟!). (إحياء علوم الدين. كتاب السماع ص 1147ط دار الشعب بمصر).
علي أننا نقول: ليس كل غناء لغوا؛ إنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه، فالنيةالصالحة تحيل اللهو قربة، والمزح طاعة، والنية الخبيثة تحبط العمل الذيظاهره العبادة وباطنه الرياء: "إن الله لا ينظر إلي صوركم وأموالكم ولكنينظر إلي قلوبكم وأعمالكم". (رواه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب البروالصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم).

وننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في "المحلي" ردًا علي الذين يمنعونالغناء قال: (احتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق ؟ ولا سبيل إليقسم ثالث، وقد قال الله تعالي: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) (يونس: 32). فجوابنا وبالله التوفيق: أن رسول الله –صلي الله عليه وسلم- قال: "إنماالأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي" (متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب،وهو أول حديث في صحيح البخاري). فمن نوي باستماع الغناء عونًا علي معصيةالله فهو فاسق وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوي به ترويح نفسه ليقوي بذلكعلي طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك علي البر فهو مطيع محسن، وفعله هذامن الحق. ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إليبستانه، وقعوده علي باب داره متفرجًا، وصبغه ثوبه لازورديًا أو أخضر أو غيرذلك ومد ساقه وقبضها، وسائر أفعاله). (المحلي. 9/60).

جـ- واستدلوا بحديث: "كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة: ملاعبةالرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه" رواه أصحاب السنن الأربعة، وفيهاضطراب، والغناء خارج عن هذه الثلاثة.
وأجاب المجوزون بضعف الحديث، ولو صح لما كان فيه حجة، فإن قوله: "فهو باطل" لا يدل علي التحريم بل يدل علي عدم الفائدة. فقد ورد عن أبي الدرداء قوله: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل ليكون أقوي لها علي الحق. علي أن الحصرفي الثلاثة غير مراد، فإن التلهي بالنظر إلي الحبشة وهم يرقصون في المسجدالنبوي خارج عن تلك الأمور الثلاثة، وقد ثبت في الصحيح. ولا شك أن التفرجفي البساتين وسماع أصوات الطيور، وأنواع المداعبات مما يلهو به الرجل، ولايحرم عليه شيء منها، وإن جاز وصفه بأنه باطل.

واستدلوا بالحديث الذي رواه البخاري -معلقا- عن أبي مالك أو أبي عامرالأشعري -شك من الراوي- عن النبي -عليه السلام- قال: "ليكونن قوم من أمتييستحلون الحر (الحر: أي الفرج والمعني يستحلون الزني). والحرير والخمروالمعازف". والمعازف: الملاهي، أو آلات العزف.
والحديث وإن كان في صحيح البخاري، إلا أنه من "المعلقات" لا من "المسنداتالمتصلة" ولذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده، ومع التعليق فقد قالوا: إن سندهومتنه لم يسلما من الاضطراب، فسنده يدور علي (هشام بن عمار) (انظر: الميزانوتهذيب التهذيب). وقد ضعفه الكثيرون.
ورغم ما في ثبوته من الكلام، ففي دلالته كلام آخر؛ إذ هو غير صريح في إفادةحرمة "المعازف" فكلمة "يستحلون" –كما ذكر ابن العربي- لها معنيان: أحدهما: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن يكون مجازًا عن الاسترسال في استعمالتلك الأمور، إذ لو كان المقصود بالاستحلال: المعني الحقيقي، لكان كفرًا.

ولو سلمنا بدلالتها علي الحرمة لكان المعقول أن يستفاد منها تحريم المجموع،لا كل فرد منها، فإن الحديث في الواقع ينعي علي أخلاق طائفة من الناسانغمسوا في الترف والليالي الحمراء وشرب الخمور. فهم بين خمر ونساء، ولهووغناء، وخز وحرير. ولذا روي ابن ماجة هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري بلفظ: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف علي رؤوسهم بالمعازفوالمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير"، وكذلك رواهابن حبان في صحيحه.

هـ- واستدلوا بحديث: "إن الله تعالي حرم القينة (أي الجارية) وبيعها وثمنها وتعليمها".
والجواب عن ذلك:
أولا: أن الحديث ضعيف.
ثانيا: قال الغزالي: المراد بالقينة الجارية التي تغني للرجال في مجلسالشرب، وغناء الأجنبية للفساق ومن يخاف عليهم الفتنة حرام، وهم لا يقصدونبالفتنة إلا ما هو محظور. فأما غناء الجارية لمالكها، فلا يفهم تحريمه منهذا الحديث. بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة، بدليل ما روي فيالصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله تعالي عنها. (الإحياء ص 1148) وسيأتي.

ثالثا: كان هؤلاء القيان المغنيات يكون عنصرًا هامًا من نظام الرقيق، الذيجاء الإسلام بتصفيته تدريجيًا، فلم يكن يتفق وهذه الحكمة إقرار بقاء هذهالطبقة في المجتمع الإسلامي، فإذا جاء حديث بالنعي علي امتلاك "القينة" وبيعها، والمنع منه، فذلك لهدم ركن من بناء "نظام الرق" العتيد.
واستدلوا بما روي نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه،وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع، أتسمع ؟ فأقول: نعم، فيمضي،حتي قلت: لا. فرفع يده وعدل راحلته إلي الطريق وقال: "رأيت رسول الله يسمعزمارة راع فصنع مثل هذا" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
والحديث قال عنه أبو داود: حديث منكر.

ولو صح لكان حجة علي المحرمين لا لهم. فلو كان سماع المزمار حرامًا ما أباحالنبي -صلي الله عليه وسلم- لابن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر حرامًاما أباح لنافع سماعه، ولأمر عليه السلام بمنع وتغيير هذا المنكر، فإقرارالنبي -صلي الله عليه وسلم- لابن عمر دليل علي أنه حلال.
وإنما تجنب عليه السلام سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا كتجنبه الأكل متكئًا وأن يبيت عنده دينار أو درهم .... إلخ.

واستدلوا أيضًا لما روي: "إن الغناء ينبت النفاق في القلب" ولم يثبت هذاحديثًا عن النبي -صلي الله عليه وسلم-، وإنما ثبت قولاً لبعض الصحابة، فهورأي لغير معصوم خالفه فيه غيره، فمن الناس من قال -وبخاصة الصوفية- إنالغناء يرقق القلب، ويبعث الحزن والندم علي المعصية، ويهيج الشوق إلي اللهتعالي، ولهذا اتخذوه وسيلة لتجديد نفوسهم، وتنشيط عزائمهم، وإثارة أشواقهم،قالوا: وهذا أمر لا يعرف إلا بالذوق والتجربة والممارسة، ومن ذاق عرف،وليس الخبر كالعيان.

علي أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغني لا للسامع، إذكان غرض المغني أن يعرض نفسه علي غيره ويروج صوته عليه، ولا يزال ينافقويتودد إلي الناس ليرغبوا في غنائه. ومع هذا قال الغزالي: وذلك لا يوجبتحريمًا، فإن لبس الثياب الجميلة، وركوب الخيل المهلجة، وسائر أنواعالزينة، والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك، ينبت النفاق في القلب،ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله، فليس السبب في ظهور النفاق في القلبالمعاصي فقط، بل المباحات التي هي مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرًا (الإحياء ص 1151) .

واستدلوا علي تحريم غناء المرأة خاصة، بما شاع عند بعض الناس من أن صوتالمرأة عورة. وليس هناك دليل ولا شبه دليل من دين الله علي أن صوت المرأةعورة، وقد كان النساء يسألن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في ملأ منأصحابه وكان الصحابة يذهبون إلي أمهات المؤمنين ويستفتونهن ويفتينهمويحدثنهم، ولم يقل أحد: إن هذا من عائشة أو غيرها كشف لعورة يجب أن تستر.
فإن قالوا: هذا في الحديث العادي لا في الغناء، قلنا: روي الصحيحان أنالنبي سمع غناء الجاريتين ولم ينكر عليهما، وقال لأبي بكر: دعهما. وقد سمعابن جعفر وغيره من الصحابة والتابعين الجواري يغنين.

والخلاصة: أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريمإما صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح. ولم يسلم حديث واحد مرفوع إلي رسولالله يصلح دليلاً للتحريم، وكل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكيةوالحنابلة والشافعية.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": لم يصح في التحريم شيء.
وكذا قال الغزالي وابن النحوي في العمدة.
وقال: ابن طاهر: لم يصح منها حرف واحد.
وقال ابن حزم: كل ما رُوي فيها باطل وموضوع.

أدلة المجيزين للغناء:
تلك هي أدلة المحرمين، وقد سقطت واحدًا بعد الآخر، ولم يقف دليل منها عليقدميه، وإذا انتفت أدلة التحريم بقي حكم الغناء علي أصل الإباحة بلا شك،ولو لم يكن معنا نص أو دليل واحد علي ذلك غير سقوط أدلة التحريم. فكيفومعنا نصوص الإسلام الصحيحة الصريحة، وروحه السمحة، وقواعده العامة،ومبادئه الكلية ؟
وهاك بيانها: أولا: من حيث النصوص:
استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة، منها: حديث غناء الجاريتين في بيت النبي -صلي الله عليه وسلم- عند عائشة، وانتهار أبي بكر لهما، وقوله: مزمورالشيطان في بيت النبي -صلي الله عليه وسلم-، وهذا يدل علي أنهما لم تكوناصغيرتين كما زعم بعضهم، فلو صح ذلك لم تستحقا غضب أبي بكر إلي هذا الحد.

والمعول عليه هنا هو رد النبي -صلي الله عليه وسلم- علي أبي بكر -رضي اللهعنه- وتعليله: أنه يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وأنه بعث بحنيفيةسمحة. وهو يدل علي وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدي الآخرين، وإظهارجانب اليسر والسماحة فيه.
وقد روي البخاري وأحمد عن عائشة أنها زفت امرأة إلي رجل من الأنصار فقالالنبي -صلي الله عليه وسلم-: "يا عائشة، ما كان معهم من لهو ؟ فإن الأنصاريعجبهم اللهو".
وروي ابن ماجة عن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاءرسول الله فقال: "أهديتم الفتاة ؟" قالوا: نعم قال: "أرسلتم معها من يغني؟" قالت: لا. فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "إن الأنصار قوم فيهمغزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيانا وحياكم ؟!

وروي النسائي والحاكم وصححه عن عامر بن سعد قال: دخلت علي قرظة بن كعب وأبيمسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوار يغنين. فقلت: أي صاحبي رسول الله أهلبدر يفعل هذا عندكم ؟! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب،فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس.
وروي ابن حزم بسنده عن ابن سيرين: أن رجلاً قدم المدينة بجوار فأتي عبدالله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فغنت، وابن عمر يسمع، فاشتراهاابن جعفر بعد مساومة، ثم جاء الرجل إلي ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن،غبنت بسبعمائة درهم ! فأتي ابن عمر إلي عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبنبسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال: بلنعطيه إياها. قال ابن حزم: فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعي في بيعالمغنية، وهذا إسناد صحيح لا تلك الأسانيد الملفقة الموضوعة.

واستدلوا بقوله تعالي: (وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائمًاقل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين). (الجمعة: 11).
فقرن اللهو بالتجارة، ولم يذمهما إلا من حيث شغل الصحابة بهما -بمناسبةقدوم القافلة وضرب الدفوف فرحًا بها- عن خطبة النبي -صلي الله عليه وسلم-،وتركه قائمًا.
واستدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه. وهم القوم يقتدي بهم فيهتدي.
واستدلوا لما نقله غير واحد من الإجماع علي إباحة السماع، كما سنذكره بعد.

وثانيا: من حيث روح الإسلام وقواعده:
لا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبهاالعقول، وتستحسنها الفطر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن، كما أن الطعامالهنيء لذة المعدة، والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم ... إلخ، فهل الطيبات أي المستلذات حرام في الإسلام أم حلال ؟
من المعروف أن الله تعالي كان قد حرم علي بني إسرائيل بعض طيبات الدنياعقوبة لهم علي سوء ما صنعوا، كما قال تعالي: (فبظلم من الذين هادوا حرمناعليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا. وأخذهم الربا وقد نهوعنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) (النساء: 160، 161). فلما بعث الله محمدًاصلي الله عليه وسلم- جعل عنوان رسالته في كتب الأولين (الذي يجدونهمكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحللهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانتعليهم). (الأعراف: 157).

فلم يبق في الإسلام شيء طيب أي تستطيبه الأنفس والعقول السليمة إلا أحلهالله، رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها وخلودها. قال تعالي: (يسألونك ماذاأحل لهم قل أحل لكم الطيبات). (المائدة: 4).
ولم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم علي نفسه أو علي غيره شيئًا منالطيبات مما رزق الله مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه، فإنالتحليل والتحريم من حق الله وحده، وليس من شأن عباده، قال تعالي: (قلأرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل آلله أذن لكمأم علي الله تفترون) (يونس: 59). وجعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيباتكإحلال ما حرم من المنكرات، كلاهما يجلب سخط الله وعذابه، ويردي صاحبه فيهاوية الخسران المبين، والضلال البعيد، قال جل شأنه ينعي علي من فعل ذلك منأهل الجاهلية: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم وحرموا مارزقهم الله افتراء علي الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين). (الأنعام: 140).

ولو تأملنا لوجدنا حب الغناء والطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانيةوفطرة بشرية، حتي إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عنبكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلي الإصغاء إليه ولذا تعودت الأمهاتوالمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم، بل نقول: إن الطيوروالبهائم تتأثر بحسن الصوت والنغمات الموزونة حتي قال الغزالي في الإحياء: (من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائدفي غلظ الطبع وكثافته علي الجمال والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل مع بلادةطبعه يتأثر بالحداء تأثرًا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر -لقوةنشاطه في سماعه- المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فتري الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرعفي سيرها، حتي تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها) .

وإذا كان حب الغناء غريزة وفطرة فهل جاء الدين لمحاربة الغرائز والفطروالتنكيل بها ؟ كلا، إنما جاء لتهذيبها والسمو بها، وتوجيهها التوجيهالقويم، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الأنبياء قد بعثوا بتكميلالفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها.
ومصداق ذلك أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قدم المدينة ولهم يومانيلعبون فيهما، فقال: "ما هذان اليومان؟" قالوا: كنا نلعب فيهما فيالجاهلية: فقال عليه السلام: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يومالأضحي ويوم الفطر" رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

وقالت عائشة: "لقد رأيت النبي يسترني بردائه، وأنا أنظر إلي الحبشة يلعبونفي المسجد، حتي أكون أنا التي أسأمه -أي اللعب- فاقدروا قدر الجاريةالحديثة السن الحريصة علي اللهو".
وإذا كان الغناء لهوا ولعبًا فليس اللهو واللعب حرامًا، فالإنسان لا صبر له علي الجد المطلق والصرامة الدائمة.

قال النبي -صلي الله عليه وسلم- لحنظلة -حين ظن نفسه قد نافق لمداعبته زوجهوولده وتغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "ياحنظلة، ساعة وساعة" رواه مسلم.
وقال علي بن أبي طالب: روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا أكرهت عميت.
وقال كرم الله وجهه: إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة.
وقال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوي لها علي الحق.

وقد أجاب الإمام الغزالي عمن قال: إن الغناء لهو ولعب بقوله: (هو كذلك،ولكن الدنيا كلها لهو ولعب ... وجميع المداعبة مع النساء لهو، إلا الحراثةالتي هي سبب وجود الولد، وكذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال، نقل ذلك عنرسول الله -صلي الله عليه وسلم- وعن الصحابة.
وأي لهو يزيد علي لهو الحبشة والزنوج في لعبهم، فقد ثبت بالنص إباحته. عليأني أقول: اللهو مروح للقلب، ومخفف عنه أعباء الفكر، والقلوب إذا أكرهتعميت، وترويحها إعانة لها علي الجد، فالمواظب علي التفكر مثلاً ينبغي أنيتعطل يوم الجمعة؛ لأن عطلة يوم تساعد علي النشاط في سائر الأيام، والمواظبعلي نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات، ولأجلهكرهت الصلاة في بعض الأوقات، فالعطلة معونة علي العمل، اللهو معين عليالجد ولا يصبر علي الجد المحض، والحق المر، إلا نفوس الأنبياء عليهمالسلام، فاللهو دواء القلب من داء الإعياء، فينبغي أن يكون مباحًا، ولكن لاينبغي أن يستكثر منه، كما لا يستكثر من الدواء. فإذًا اللهو علي هذه النيةيصير قربة، هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها،بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة، فينبغي أن يستحب له ذلك، ليتوصلبه إلي المقصود الذي ذكرناه. نعم هذا يدل علي نقصان عن ذروة الكمال، فإنالكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق، ولكن حسنات الأبرار سيئاتالمقربين، ومن أحاط بعلم علاج القلوب، ووجوه التلطف بها، وسياقتها إليالحق، علم قطعًا أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غني عنه) انتهيكلام الغزالي (الإحياء: كتاب السماع ص 1152، 1153)، وهو كلام نفيس يعبر عنروح الإسلام الحقة.
القائلون بإجازة الغناء:
تلك هي الأدلة المبيحة للغناء من نصوص الإسلام وقواعده، فيها الكفاية كلالكفاية ولو لم يقل بموجبها قائل، ولم يذهب إلي ذلك فقيه، فكيف وقد قالبموجبها الكثيرون من صحابة وتابعين وأتباع وفقهاء ؟
وحسبنا أن أهل المدينة -علي ورعهم- والظاهرية- عليحرفيتهم وتمسكهم بظواهر النصوص -والصوفية- علي تشددهم وأخذهم بالعزائم دونالرخص- روي عنهم إباحة الغناء. قال الإمام لشوكاني في "نيلالأوطار": (ذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر، وجماعة الصوفية،إلي الترخيص في الغناء، ولو مع العود واليراع. وحكي الأستاذ أبو منصورالبغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع: أن عبد الله بن جعفر كان لا يريبالغناء بأسًا، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره. وكان ذلكفي زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
وحكي الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا عن القاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي) .

وقال إمام الحرمين في النهاية، وابن أبي الدنيا: (نقل الأثبات من المؤرخين: أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات، وأن ابن عمر دخل إليه وإليجنبه عود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله ؟! فناوله إياه، فتأمله ابن عمرفقال: هذا ميزان شامي ؟ قال ابن الزبير: يوزن به العقول !) .
وروي الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالة في السماع بسنده إلي ابن سيرين قال: (إن رجلاً قدم المدينة بجوار فنزل علي ابن عمر، وفيهن جارية تضرب. فجاء رجلفساومه، فلم يهو فيهن شيئًا. قال: انطلق إلي رجل هو أمثل لك بيعًا من هذا. قال: من هو ؟ قال: عبد الله بن جعفر .. فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن،فقال لها: خذي العود، فأخذته، فغنت، فبايعه ثم جاء ابن عمر ... إلخ. القصة) .

وروي صاحب "العقد" العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي: أن عبد الله بن عمردخل علي ابن جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود، ثم قال لابن عمر: هل تريبذلك بأسًا ؟ قال: لا بأس بهذا، وحكي الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص: أنهما سمعًا العود عند ابن جعفر، وروي أبو الفرج الأصبهاني: أن حسان بنثابت سمع من عزة الميلاء الغناء المزهر بشعر من شعره.
وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك. والمزهر عند أهل اللغة: العود.
وذكر الأدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع جواريه قبل الخلافة. ونقل ابنالسمعاني الترخيص عن طاووس، ونقله ابن قتيبة وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينةسعد ابن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين. ونقله أبو يعليالخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدينة.

وحكي الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وحكيالأستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز العود، وذكر أبو طالب المكي فيقوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورًا في بيت المنهال بن عمروا المحدثالمشهور.
وحكي أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود.
قال ابن النحوي في العمدة: (وقال ابن طاهر: هو إجماع أهل المدينة. قال ابنطاهر: وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة. قال الأدفوي: لم يختلف النقلة في نسبةالضرب إلي إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم.

وحكي الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكاه أبو الفضل بن طاهر عنأبي إسحاق الشيرازي، وحكاه الإسنوي في "المهمات" عن الروياني والماوردي،ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور وحكاه ابن الملقن في العمدة عن ابنطاهر، وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وحكاه صاحب الإمتاععن أبي بكر بن العربي، وجزم بالإباحة الأدفوي.

هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة -أي آلاتالموسيقي- وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي في الإمتاع: إنالغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق علي حله، ونقل ابن طاهر إجماعالصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل الحرمينعليه، ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضًا إجماع أهل المدينة عليه، وقالالماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيهابالعبادة والذكر. قال ابن النحوي في العمدة: وقد روي الغناء وسماعه عنجماعة من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة عمر -كما رواه ابن عبد البروغيره- وعثمان- كما نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي -وعبد الرحمن بنعوف- كما رواه ابن أبي شيبة- وأبو عبيدة بن الجراح- كما أخرجه البيهقي- وسعد بن أبي وقاص- كما أخرجه بن قتيبة- وأبو مسعود الأنصاري- كما أخرجهالبيهقي- وبلال وعبد الله بن الأرقم وأسامة بن زيد- كما أخرجه البيهقيأيضا- وحمزة كما في الصحيح- وابن عمر- كما أخرجه ابن طاهر- والبراء بنمالك- كما أخرجه أبو نعيم- وعبد الله بن جعفر- كما رواه ابن عبد البر- وعبدالله بن الزبير- كما نقل أبو طالب المكي- وحسان- كما رواه أبو الفرجالأصبهاني- وعبد الله بن عمرو- كما رواه الزبير بن بكار- وقرظة بن كعب- كمارواه ابن قتيبة- وخوات بن جبير ورباح المعترف- كما أخرجه صاحب الأغاني- والمغيرة بن شعبة- كما حكاه أبو طالب المكي- وعمرو بن العاص- كما حكاهالماوردي- وعائشة والربيع- كما في صحيح البخاري وغيره.

وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر وابن حسان وخارجةبن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيقوعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بنإبراهيم الزهري.
وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهورالشافعية) . انتهي كلام ابن النحوي. هذا كله ذكره الشوكاني في نيل الأوطار (جـ 8/264-266) .

قيود وشروط لابد من مراعاتها:
ولا ننسي أن نضيف إلي هذه الفتوي قيودًا لابد من مراعاتها في سماع الغناء.
فقد أشرنا في أول البحث إلي أنه ليس كل غناء مباحًا، فلابد أن يكون موضوعه متفقًا مع أدب الإسلام وتعاليمه.
فالأغنية التي تقول: "الدنيا سيجارة وكاس" مخالفة لتعاليم الإسلام الذييجعل الخمر رجسًا من عمل الشيطان ويلعن شارب "الكأس" عاصرها وبائعهاوحاملها وكل من أعان فيها بعمل. والتدخين أيضًا آفة ليس وراءها إلا ضررالجسم والنفس والمال.

والأغاني التي تمدح الظلمة والطغاة والفسقة من الحكام الذين ابتليت بهمأمتنا، مخالفة لتعاليم الإسلام، الذي يلعن الظالمين، وكل من يعينهم، بل منيسكت عليهم، فكيف بمن يمجدهم ؟!
والأغنية التي تمجد صاحب العيون الجريئة أو صاحب العيون جريئة أغنية تخالفأدب الإسلام الذي ينادي كتابه: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم … وقلللمؤمنات يغضضن من أبصارهن) (النور: 30، 31). ويقول –صلي الله عليه وسلم- يا علي : "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولي وليست لك الآخرة".

ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به ولا غبارعليه، ولكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول، وتعمدالإثارة، والقصد إلي إيقاظ الغرائز الهاجعة، وإغراء القلوب المريضة- ينقلالأغنية من دائرة الإباحة إلي دائرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل مايذاع علي الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تلح علي جانبواحد، هو جانب الغريزة الجنسية وما يتصل بها من الحب والغرام، وإشعالهابكل أساليب الإثارة والتهيج، وخصوصًا لدي الشباب والشابات.

إن القرآن يخاطب نساء النبي فيقول: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبهمرض) . فكيف إذا كان مع الخضوع في القول الوزن والنغم والتطريب والتأثير ؟!
ومن ناحية ثالثة يجب ألا يقترن الغناء بشيء محرم، كشرب الخمر أو التبرج أوالاختلاط الماجن بين الرجال والنساء، بلا قيود ولا حدود، وهذا هو المألوففي مجالس الغناء والطرب من قديم. وهي الصورة المائلة في الأذهان عند مايذكر الغناء، وبخاصة غناء الجواري والنساء.

وهذا ما يدل عليه الحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره: "ليشربن ناس من أمتيالخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف علي رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف اللهبهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير".
وأود أن أنبه هنا علي قضية مهمة، وهي أن الاستماع إلي الغناء في الأزمنةالماضية كان يقتضي حضور مجلس الغناء، ومخالطة المغنين والمغنيات وحواشيهم،وقلما كانت تسلم هذه المجالس من أشياء ينكرها الشرع، ويكرهها الدين.
أما اليوم فيستطيع المرء أن يستمع إلي الأغاني وهو بعيد عن أهلها ومجالسها،وهذا لا ريب عنصر مخفف في القضية، ويميل بها إلي جانب الإذن والتيسير.

هذا إلي أن الإنسان ليس عاطفة فحسب، والعاطفة ليست حبًا فقط، والحب لا يختصبالمرأة وحدها، والمرأة ليست جسدًا وشهوة لا غير، لهذا يجب أن نقلل من هذاالسيل الغامر من الأغاني العاطفية الغرامية وأن يكون لدينا من أغانيناوبرامجنا وحياتنا كلها توزيع عادل، وموازنة مقسطة بين الدين والدنيا وفيالدنيا بين حق الفرد وحقوق المجتمع، وفي الفرد بين عقله وعاطفته، وفي مجالالعاطفة بين عواطف الإنسانية كلها من حب وكره وغيره وحماسة وأبوة وأمومةوبنوة وأخوة وصداقة ... إلخ فلكل عاطفة حقها.

أما الغلو والإسراف والمبالغة في إبراز عاطفة خاصة فذلك علي حساب العواطفالأخري، وعلي حساب عقل الفرد وروحه وإرادته، وعلي حساب المجتمع وخصائصهومقوماته، وعلي حساب الدين ومثله وتوجيهاته.

إن الدين حرم الغلو والإسراف في كل شيء حتي في العبادة فما بالك بالإسراف في اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحًا ؟!
إن هذا دليل علي فراغ العقل والقلب من الواجبات الكبيرة، والأهداف العظيمة،ودليل علي إهدار حقوق كثيرة كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحمودوعمره القصير، وما أصدق وأعمق ما قال ابن المقفع: (ما رأيت إسرافًا إلاوبجانبه حق مضيع) وفي الحديث: "لا يكون العاقل ظاعنًا إلا لثلاث: مرمةلمعاش، أو تزود لمعاد، أو لذة في غير محرم"، فلنقسم أوقاتنا بين هذهالثلاثة بالقسط ولنعلم أن الله سائل كل إنسان عن عمره فيم أفناه، وعن شبابهفيم أبلاه ؟
وبعد هذا الإيضاح تبقي هناك أشياء يكون كل مستمع فيها فقيه نفسه ومفتيها،فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة، ويسبح بهفي شطحات الخيال، ويطغي فيه الجانب الحيواني علي الجانب الروحاني، فعليه أنيتجنبه حينئذ، ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة علي قلبه ودينه وخلقهفيستريح ويريح.

تحذير من التساهل في إطلاق التحريم:
ونختم بحثنا هذا بكلمة أخيرة نوجهها إلي السادة العلماء الذين يستخفونبكلمة "حرام" ويطلقون لها العنان في فتواهم إذا أفتوا، وفي بحوثهم إذاكتبوا، عليهم أن يراقبوا الله في قولهم ويعلموا أن هذه الكلمة "حرام" كلمةخطيرة: إنها تعني عقوبة الله علي الفعل وهذا أمر لا يعرف بالتخمين ولابموافقة المزاج، ولا بالأحاديث الضعيفة، ولا بمجرد النص عليه في كتاب قديم،إنما يعرف من نص ثابت صريح، أو إجماع معتبر صحيح، وإلا فدائرة العفووالإباحة واسعة، ولهم في السلف الصالح أسوة حسنة.

قال الإمام مالك رضي الله عنه: ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة منالحلال والحرام؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلموالفقه ببلدنا، وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهلزماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا علي ما يصيرون إليه غدًالقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعليًا وعامة خيار الصحابة كانت تردعليهم المسائل -وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي -صلي الله عليه وسلم- فكانوا يجمعون أصحاب النبي -صلي الله عليه وسلم- ويسألون، ثم حينئذ يفتونفيها، وأهل زماننا قد هذا صار فخرهم، فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم قال: ولميكن من أمر الناس ولا من مضي من سلفنا الذين يقتدي بهم، ومعول الإسلامعليهم، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا وأري كذا،وأما "حلال" و "حرام" فهذا الافتراء علي الله. أما سمعت قول الله تعالي: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل آلله أذنلكم أم علي الله تفترون) يونس: 59؛ لأن الحلال ما حلله الله ورسولهوالحرام ما حرماه.
ونقل الإمام الشافعي في "الأم" عن الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال:
(
أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير.

وحدثنا ابن السائب عن ربيع بن خيثم -وكان أفضل التابعين- أنه قال: إياكم أنيقول الرجل: إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولمأرضه، ويقول: إن الله حرم هذا فيقول الله: كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه ! وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهيم النخعي أنه حدث عن أصحابه أنهم كانوا إذاأفتوا بشيء أو نهوا عنه، قالوا: هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أنيقولوا: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا) .
هذا ما ذكره القاضي أبو يوسف، ونقله الشافعي، ولم ينكر عليه هذا النقل ولا مضمونه بل أقره، وما كان ليقر مثله إلا إذا اعتقد صحته.
وقال الله تعالي: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حراملتفتروا علي الله الكذب إن الذين يفترون علي الله الكذب لا يفلحون). (النحل: 116).


يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق-رحمه الله-ردا على سؤال مماثل :

الأصل الذي أرجو أن يُتنبَّه إليه في هذا الشأن وأمثاله، مما يختلفون فيحِلِّهِ وحُرمته، هو أن الله خلَق الإنسان بغريزة يَميل بها إلى المستلذاتوالطيبات التي يَجِدُ لها أثرًا طيبًا في نفسه، به يهدأ، وبه يرتاح، وبهينشط، وبه تسكن جوارحه؛ فتراه ينشرح بالمناظر الجميلة، كالخُضرةالمُنَسَّقَة والماء الصافي الذي تلعب أمواجه، والوجه الحسَن الذي تنْبسطأساريرُه، ينشرح صدرُه بالروائح الزكيَّة التي تُحدث خِفَّةً في الجسموالروح، وينشرح صدره بلَمْسِ النُّعومة التي لا خُشونة فيها، وينشرح صدرهبلذَّة المَعرفة في الكشف عن مجهول مَخْبُوءٍ، وتراه بعد هذا مَطبوعًا علىغريزة الحب لمُشتهيات الحياة وزينتها من النساء والبنين، والقناطيرالمقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرْث.





الشرائع لا تَقضي على الغرائز بل تنظمها :

ولعلَّ قيام الإنسان بمُهمته في هذه الحياة ما كانت لِتَتِمَّ على الوجهالذي لأجله خلَقه الله إلا إذا كان ذا عاطفة غريزية، تُوجهه نحو المشتهيات،وتلك المُتَع التي خلقها الله معه في الحياة، فيأخذ منها القدْر الذييحتاجه وينفعه، ومن هنا قضت الحِكمة الإلهية أن يُخلق الإنسان بتلكالعاطفة، وصار من غير المعقول أن يَطلب الله منه ـ بعد أن خلَقه هذاالخلْق، وأودع فيه لحِكمته السامية هذه العاطفة ـ نزْعها أو إِمَاتتها أومُكافحتها في أصلها، وبذلك لا يُمكن أن يكون من أهداف الشرائع السماوية ـفي أيِّ مرحلة من مراحل الإنسانية ـ طلبُ القضاء على هذه الغريزة الطبيعية،التي لابد منها في هذه الحياة .



نعم، للشرائع السماوية بإِزاءِ هذه العاطفة مَطلب آخر، يتلخص في كبْحالجماح ومعناه: مكافحة الغريزة عن الحدِّ الذي يَنسى به الإنسان واجباتِه،أو يُفسد عليه أخلاقه، أو يَحول بينه وبين أعمال هي له في الحياة ألْزمُ،وعليه أوجب .





التوسُّط أصلٌ عظيم في الإسلام :

ذلك هو موقفُ الشرائع السماوية مِن الغريزة، وهو موقف الاعتدال والقَصْد،لا موقف الإفْراط، ولا مَوقف التفريط، هو موقف التنظيم، لا موقف الإماتةوالانتزاع. هذا أصلٌ يجب أن يُفهم، ويجب أن تُوزَن به أهداف الشريعةالسماوية، وقد أشار إليه القرآن في كثير من الجُزئيات (ولا تَجْعَلْ يَدَكَمَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ). (يا بَنِيآدمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولاتُسْرِفُوا). (واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ واغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) .



وإذنْ فالشريعة تُوجِّه الإنسان في مُقتضيات الغريزة إلى الحدِّ الوسَط،فهي لم تنزل لانتزاع غريزة حُبِّ المال، إنما نزلت بتَعديلها على الوجهالذي لا جشَع فيه ولا إسراف، وهي لم تنزل لانتزاع الغريزة في حُبِّ المناظرالطيبة، ولا المسموعات المستلذة، وإنما نزلت بتهذيبها وتعديلها على ما لاضرر فيه ولا شر. وهي لم تنزل لانتزاع غريزة الحُزن، وإنما نزلت بتعديلهاعلى الوجه الذي لا هلَع فيه ولا جزَع. وهكذا وقفت الشريعة السماوية بالنسبةلسائر الغرائز .



وقد كلَّف الله العقل ـ الذي هو حُجته على عباده ـ بتنظيمها على الوجه الذيجاء به شرْعه ودينه، فإذا مال الإنسان إلى سماع الصوت الحسن، أو النغمالمستلذ من حيوان أو إنسان، أو آلة كيفما كانت، أو مالَ إلى تعلُّم شيء منذلك، فقد أدَّى للعاطفة حقَّها، وإذا ما وقف بها مع هذا عند الحدِّ الذي لايصرفه عن الواجبات الدينية، أو الأخلاق الكريمة، أو المكانة التي تتَّفِقومركزه، كان بذلك مُنظمًا لغريزته، سائرًا بها في الطريق السوي، وكانمَرْضِيًّا عند الله وعند الناس.



بهذا البيان يتَّضِح أن موقف الشاب في تعلُّم الموسيقى ـ مع حرصه الشديدعلى أداء الصلوات الخمس في أوقاتها وعلى أعماله المكلف بها ـ موقف ـ كماقلنا ـ نابعٌ من الغريزة التي حكَمها العقل بشرع الله وحكمه، فنزلت علىإرادته، وهذا هو أسمى ما تطلبه الشرائع السماوية من الناس في هذه الحياة.





رأْي الفقهاء في السماع:

ولقد كنتُ أرى أن هذا القدْر كافٍ في معرفة حكم الشرع في الموسيقى، وفيسائر ما يُحب الإنسان ويهوَى بمقتضى غريزته، لولا أن كثيرًا من الناس لايكتفون، بل ربما لا يؤمنون بهذا النوع من التوجيه في معرفة الحلال والحرام،وإنما يقنعهم عرض ما قيل في الكتب وأُثِر عن الفقهاء.

وإذا كان ولابد فليعلموا أن الفقهاء اتفقوا على إباحة السماع في إثارةالشوق إلى الحج، وفي تحريض الغُزاة على القتال، وفي مناسبات السرورالمألوفة كالعيد، والعُرس، وقُدوم الغائب وما إليها. ورأيناهم فيما وراءذلك على رأيينِ:

يُقرر أحدهما الحُرْمة، ويستند إلى أحاديث وآثار، ويُقرر الآخر الحِلِّ،ويستند ـ كذلك ـ إلى أحاديث وآثار، وكان من قول القائلين بالحِلِّ: "إنهليس في كتاب الله، ولا سُنة رسوله، ولا في مَعقولهما مِن القياسوالاستدلال، ما يقتضي تحريم مُجرد سماع الأصوات الطيبة المَوزونة مع آلة منالآلات"، وقد تعقَّبوا جميع أدلة القائلين بالحُرمة وقالوا: إنه لم يصحَّمنها شيء.





رأْي الشيخ النابلسي:

وقد قرأت في هذا الموضوع لأحد فقهاء القرن الحادي عشر المَعروفين بالورَعوالتقوى رسالة هي: "إيضاح الدلالات في سماع الآلات". للشيخ عبد الغنيالنابلسي الحنفي، قرر فيها أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم ـعلى فرض صحتها ـ مُقيدة بذكر الملاهي، وبذكر الخمر والقيْنات، والفسوقوالفجور، ولا يكاد حديث يخلو من ذلك. وعليه كان الحُكم عنده في سماعالأصوات والآلات المُطرِبة أنه إذا اقترن بشيء من المُحرَّمات، أو اتُّخذوسيلةً للمُحرَّمات، أو أَوقعَ في المحرمات كان حرامًا، وأنه إذا سلِم منكل ذلك كان مباحًا في حضوره وسماعه وتعلُّمه. وقد نُقل عن النبي ـ صلى اللهعليه وسلم ـ ثم عن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء أنهم كانوايسمعون، ويحضرون مجالس السماع البريئة من المجون والمُحرَّم. وذهب إلى مثلهذا كثير من الفقهاء، وهو يُوافق تمامًا في المغزى والنتيجة الأصل الذيقرَّرناهُ في موقف الشريعة بالنسبة للغرائز الطبيعية.



الأصل في السماع الحِلُّ والحُرْمة عارضة :

وإذن فسماع الآلات، ذات النغمات أو الأصوات الجميلة، لا يُمكن أن يحرمباعتباره صوت آلة، أو صوت إنسان، أو صوت حيوان، وإنما يُحرم إذا استُعين بهعلى محرم، أو اتُّخِذ وسيلةً إلى محرم، أو ألْهَى عن واجب.



وهكذا يجب أن يعلم الناس حُكم الله في مثل هذه الشئون. ونرجو بعد ذلك ألانسمع القول يُلقى جُزافًا في التحليل والتحريم؛ فإن تحريم ما لم يُحرمهالله أو تحليل ما حرَّمه الله كلاهما افتراء وقوْل على الله بغير علم: (قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَوالإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَا لمْيُنَزِّلْ بِهِ سُلطَانًا وأنْ تَقُولُوا علَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (الآية: 33 من سورة الأعراف).

والله أعلم .










رد مع اقتباس