قراءة وجدانية في القصص القصيرة جدا الفائزة بمسابقة - صورة و ق. ق. ج. - ص. رقم /2..
بملتقى الأدباء والمبدعين العرب:
رسالة الصورة الفوتوغرافية:
تعتبر الصورة الفوتوغرافية نسقا سيميائيا ولغة صامتة.. تحملُ رسالة لها عدة دلالات من منطلق علاقة الدال بالمدلول.. وكما يرى بارت.. إن هناك مرحلتين لقراءة الصورة : معنى الإشارة، كمرحلة أولى، والتي تصف فيها العلاقة في الإشارة/ الدال / الصورة الفوتوغرافية.. بالمدلول/ مفهوم فحوى الرسالة الذهني ...
وكمرحلة ثانية المعنى الإيحائي، وهو الذي يتطلب معرفة سياق الصورة الفوتوغرافية التاريخي و الثقافي والمجتمعي.. لأن علاقة الدال بالمدلول ليست دائما واحدة عند كل المجتمعات، بل هي قابلة للتغيير في حالات معينة..
و الصورة النموذج أعلاه، صورة تاريخية تظهر شخصيتين معروفتين جدا لكل العالم ..
وقد جاءت هذه الصورة لتكون نقطة التنافس بين المشاركين في مسابقة:
* صورة و قصة قصيرة جدا* بملتقى الأدباء والمبدعين العرب لدورة ديسمبر 2011،
وهي عبارة عن جزأين متصلين مع بعضهما...
و في رأيي هما يتوحدان ويختلفان في آن واحد..
الجزء الأول- يمينا: يظهر الزعيم البطل عمر المختار شامخَ الرأس وهو مكبل بالأغلال وتحته عسكري يُحكم وثاقه وبجانبه بعض من العساكر الإيطاليين وقادتهم.. يمنون النفس بأخذ صورة مع البطل الشهيد
* عمر المختار* وكأنهم لا يصدقون أنفسهم بأنهم قد اعتقلوه..
الجزء الثاني- يسارا: يظهر الرئيس الراحل صدام حسين في وضع شامخ أيضا وغير آبه بالعسكري المنحني أسفله،
وهو يُحْكِم وثاقه وبجانبه عسكري في وضعية الانحناء كذلك..
يتأكد من العملية التي يقوم بها زميله..
.. يتبادر إلى ذهننا سؤال مهم وهو: إلى أي مدى قد يقترب الأدباء المتنافسون من قلب الصورة؟
.. ولكنهم بالتأكيد غير مجبرين على ترجمتها حرفيا، لأن الإبداع أولا وأخيرا نزف الذات المبدعة وهذه الأخيرة قد تتفاعل مع الصورة ولكن ليس بالضرورة أن تصفها بدقة وإلا كانت القصة القصيرة جدا وصفية مباشرة وليست إبداعية إيحائية وهذه الأخيرة من أهم مميزاتها بطبيعة الحال..
ومن هنا ندرج على التوالي القصص الفائزة ونقترب من عالمها النفسي والوجداني كي ندرك ولو بشكل عام أجواءها الروحية ومدى تفاعلها مع الصورة نقطة التنافس أعلاه.
المشاركة رقم 26 القاص يوسف سلطان
المشاركة رقم 26 : القاص يوسف سلطان
حَبلُ الوِلادة !
بِكامِل طُولِه .. اعْتَلى منصّة المَوْت ،
طَعْمُهَا منذ آلافِ الفُصول .. لم يتغيّر
لا تَزالُ ثَمَنًا للوِلادَة !
ندرك أغلبيتنا أن النص الأدبي السردي القصير جدا غالبا ما يحمل هموم الذات المبدعة من قريب أو من بعيد.. ولكن هذه الذات قد تتوحد مع ذوات أخرى جماعية في حال كانت الهموم مشتركة إلى غير ذلك، وتأثير أي موقف معين ما هو إلا شرارة تشعل النار الداخلية في قلب الذات المبدعة.. لتلد لنا سردا أدبيا غاية في الإبداع النازف..
وهذا ما أحسسناه عند قراءتنا لهذه القصة القصيرة جدا والتي جاءت لتأكد لنا أن القضايا القومية مازالت تشغل ذوات المبدعين وتعتبرها همها الشخصي..
وانطلاقا من العنوان " حبل الولادة " نجده نكرة في قسمه الأول و وضيفي بنيوي ككل..
و دلالات ال"حبل" كثيرة.. و لكن الأنسب والأقرب هنا هو: الأسـر.. وكأني بالذات القاصة ربطت الحبل بالموت.. و ربطت الولادة -المعرفة- بالحياة..
والجميل أنها وحدت بينهما في العنوان دون نقط الحذف بين حبل و الولادة.. وفرقتهما داخل النص فكانت أن ذكرت الموت بداية و الولادة نهاية.. إذا نجد أن العنوان لم يكن عبثيا أبدا..
وجاءت دلالة " الولادة" دالة على الحياة.. الأخرى / الشهادة / والشهداء كما جاء في قوله تعالى :
( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ...... . )
آل عمران 169
جاءت الذات القاصة هنا وعبر آليات اشتغال جد راقية من حذف واختزال وإيحاء ومفارقة.. و عبر لغة شاعرية عميقة.. لم تؤثر على سردية الأقصوصة انتزعت منا الذات القاصة عبرها نظرة الإعجاب والتقدير..وأدركنا من خلالها أحقية الفوز لهذا النص الأصيل.. المر حد اللذة..
إذ نجد أن منصّة الذات المبدعة شبيهة بمنصة الزعماء/ الشهداء.. و كما جاء في النص:
" بكامل طوله.. " هنا اعطت الذات المبدعة صفة الشموخ لشخصية النص انطلاقا من الصورة... و صفة الشموخ هي صفة الإنسان المعتد بنفسه والواثق الذي يحس أن الحق معه وأنه شهيد قضية لحظة اقتراب الموت منه.. و الحقيقة كما جاء في قول الذات القاصة هذه الأحداث " طعمها منذ آلاف الفصول.. لا تتغير.. لا تزال ثمنا للولادة! " لأن الشهيد حي لا يموت وموته هو ولادة جديدة في قلوب محبيه.. لأنه بقي حتى النفس الأخير يدافع عن بلده ضد المستعمر الغاشم وناله العذاب و الموت نظير دفاعه المستميت عنها فاستحق بالتالي الشهادة.
وعليه نرى أن الأقصوصة المميزة " حبل الولادة " و انطلاقا من مستوياتها الإيحائية و الاستدلالية والتخيلية قد صنعت أمام القارئ واحة وسط الصحراء كلما اقترب منها القارئ أدركه السراب.. إنه سراب الحقائق المتوارية في عمق الرسالة والتي تتطلب عينا فاحصة لقارئ ناضج ومتأمل..
وأختم بقول الروائي الفيلسوف العالمي دوستويفسكي : " الناس لا يقبلون الأنبياء ويذبحونهم ، لكنهم يحبون ويعبدون الشهداء الذين تم تعذيبهم حتى الموت."
.................................................. .........
* سعاد ميلي : من أعضاء لجنة التحكيم في مسابقة – صورة وقصة قصيرة جدا – ديسمبر 2011
بملتقى الأدباء والمبدعين العرب، مشرفة قسم النقد وقسم قصيدة النثر بالملتقى.