2012-01-08, 15:28
|
رقم المشاركة : 11
|
معلومات
العضو |
|
إحصائية
العضو |
|
|
فصل
ومن الأدلة العقلية النقلية الأمثال التي ضربها الله في القرآن، فإنها كلها تنبه العقول وتوضح البراهين العقلية على وحدانية الله وتوحيده، وعلى صدق رسوله وصحة ما جاء به.
فمن زعم أن شيئاً من الأدلة العقلية التي يسلمها العقلاء تخالف ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو مغتر وليأت بمثال واحد ولن يستطيع ذلك، نعم قد يأتي بنظريات وخيالات إذا حققت عقلاً وجدت جهليات وضلالاً مبيناً مثل قول كثير من الملحدين: إن العقوبات والحدود التي جاء بها دين الإسلام على الجرائم غير لائقة ولا مناسبة للقوانين، والأحسن عندهم أن يستبدل بها الحبس والغرامة المالية.
وهذا سفسطة ومكابرة للواقع، فإن القوانين التي يسنها الملحدون
ومن قلدهم على الجرائم لم تغن شيئاً، وظهر نقصها وفشلها العظيم،
وأنه لا أثر لها في ردع المجرمين، وأن السبب الوحيد لردع كل
مجرم تطبيق الحدود الشرعية والعقوبات الدينية فهي الكفيلة بردع المجرمين، وهي عقوبات ونكال وموعظة لو طبقت في قطر من الأقطار لصلحت أحوالهم وقلَّ الجناة والمجرمون، وحصل الأمن على الدماء والأموال والأعراض، لأنها تشريع من حكيم بأحوال العباد وما يصلحهم ويقيهم الشرور.
ومثل قول كثير من الماديين الملحدين ومن قلَّدهم تقليداً أعمى: أنه يجب أن تكون الأفكار حرة، وأن لكل أحد حريته في الرأي الذي يرتئيه والاقتراح الذي يبديه على أي حال يكون.
وهذا قد ظهر أيضاً ضرره العظيم، وإن حرية الأفكار وإعطاء
كل أحد حريته فيها قد تبين أنها السبب الوحيد في الفوضوية، وأنها
أعظم من حرية الأفعال بل هي أصلها، فإنه متى أعطي الناس حريتهم فيها انحلت أخلاقهم وعقائدهم ومرجت أعمالهم وصارت البهائم أحسن حالاً منهم، وهذا هو الواقع في كل قطر أطلقت فيه الحريات ولم تقيد بالقيود الشرعية العقلية.
فإن النفوس أمَّارة بالسوء وطبيعتها الأشر والبطر والانطلاق خلف كل شهوة ضرَّت الأفراد والجماعات أو لم تضرهم.
فكما أن إطلاق الحريات في الأفعال مطلقاً لا يمكن البقاء معه، فلو ترك لكل أحد حريته وأن له أن يقتل أو يجرح أو يضرب أو يأخذ أموال الناس وأعراضهم لفسدت الأحوال واختلت الدنيا ووقع الهرج والمرج والضرر الكبير، فكذلك حريات الأفكار متى أطلقت أتت بالمنكرات والفظائع الشنيعة، وكان من ثمرتها الخبيثة الاستغناء عن الدين وعن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وإنكار ما جاءوا به وكذلك إنكار ما دلت عليه العقول الصحيحة من وجوب التقيد والتحرز عن الأمور الضارة في الاعتقادات والأخلاق والأعمال.
ومن جراء حريات الأفكار ما تسمعه في الصحف الإلحادية
والصحف الخليعة من المقالات التي تقشعر منها قلوب العقلاء وقد ضرَّت ضرراً كبيراً في العقائد والأخلاق بل ضرت الحكومات والجماعات والأفراد.
أما شريعة الإسلام فإنها ولله الحمد جاءت بتنبيه العقول والحث على التفكر في الأمور التي ينفع التفكير فيها، كآيات الله المخلوقة وآياته المتلوة، وسلكت في تفكرها ونظرها المسالك الصحيحة، فأقرت العلوم النافعة والمعارف الصادقة والحث على كل خلق جميل والحذر عن كل خلق رذيل، وجعلت للأفكار حداً صحيحاً إن تجاوزته وقعت في المهالك وأنواع الضلالات.
فالأفكار إن لم تقيدها العقول الصحيحة والدين الصحيح الذي وضعه الله للعباد فيه صلاح شؤونهم وكمال أحوالهم، فإنها تحدث الفوضى والخطأ والضلال والشقاء والحمق والجنون.
وكذلك ما افتراه كثير من أعداء الإسلام والمنافقين، أن الإيمان بقضاء الله وقدرته يحدث الفتور والاستسلام وعدم الحركة، وهذا الزعم منهم افتراء ظاهر وكذب صريح، فإن الدين الإسلامي قد أمر بأصلين عظيمين لا تتم الأمور كلها إلا باجتماعهما:
أحدهما: الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الأمور كلها والأسباب مربوطة بالقضاء والقدر، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
الأصل الثاني: الأمر بالأعمال النافعة في الدين والدنيا والبعد عن الأسباب الضارة.
وكل واحد من الأصلين يمد الآخر، فالإيمان بالقضاء والقدر
يمد العاملين وينشطهم ويوجب لهم اقتحام الأمور الصعبة اتكالاً على الله واستمداداً من حوله وقوته، ويزيل من قلوبهم خوف المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. والسعي والعمل هو من قضاء الله وقدره، فإنه أخبر أنه يوجد الأشياء بأسبابها ولهذا يجمع الله بين الأصلين في مواضع كثيرة من كتابه مثل قوله: {{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *}}، وقوله: {{كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *}{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}}، وقوله تعالى: {{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *}}، فأمر بالأعمال ورغب فيها ووعد التيسير لليسرى لمن قام بالأسباب النافعة، والتيسير للعسرى لمن ترك الأسباب النافعة.
وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»، وهذا شامل للحرص على الأمور النافعة في الدين والدنيا، فعلم أن دين الإسلام يكذب ما افتراه عليه أعداؤه من أنه مثبِّط مخدِّر، وإنما هو منشط وحاث على كل عمل نافع.
وإن الإيمان بالقدر من أعظم المنشطات لكل عمل نافع وأعظم المسهلات لها، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «اعملوا فكلٌّ ميسَّر
لما خُلق له. أما من كان من أهل السعادة فسيُيَسَّر لعمل أهل السعادة،
وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة»، وتلى صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك هذه الآية. {{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *}} الآيات.
ولهذا كان الدين الإسلامي يعتبر من يترك العمل اتكالاً على القدر أحمق مجنون، وينكر على المشركين الذين يحتجون على تركهم العمل بالأسباب النافعة بالقدر والمشيئة. ويخبر أن الاحتجاج بذلك دأب الأمم الطاغية الذين عوقبوا بأنواع المثُلات، فما من عمل نافع دقيق أو جليل إلا حثَّ الشارع عليه وعلى وسائله ومكملاته، ولا عمل ضار وكسل وتقاعد إلا حذر عنه غاية التحذير، ونصوص الشرع في هذا الأصل لا تعد ولا تحصى، ومن أنكر ذلك فهو مكابر مباهت وهو من أعظم الناس ضلالاً.
* * *
فصل
ومما روَّج به الملحدون باطلهم وعلومهم المخالفة للدين أنهم زخرفوا لها العبارات فسمَّوها تجديداً ورقياً وتقدماً، ونحوها من الأسماء التي يغرِّرون بها من لا بصيرة عنده، وتسميتهم للحق الذي جاء به الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم جموداً ورجعية وتخديراً ورجوعاً إلى الوراء، كما قال تعالى عن أسلافهم: {{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ *وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ *}}.
فأخبر تعالى إن هذا دأب أعداء الرسل في كل زمان، وأنهم يزخرفون العبارات لتحسين باطلهم وتقبيح ما جاءت به الرسل، وأنهم يتواصون بذلك ويفترون على الله الكذب، وأنه يغتر به من لا علم له ولا بصيرة ولا إيمان، فهؤلاء أخذوا كل ما افتراه الأولون من أسلافهم المكذبين، وزادوا زيادات كم اصطادوا بها ضعفاء البصائر، وليس ما جاء به الرسول جحوداً ولا رجوعاً إلى الوراء، وإنما هو الحق والنور والحياة والرشد الذي لا حياة للوجود ولا للقلوب ولا للدنيا إلا به، ولا نور إلا باقتباس نوره، وهو الموقظ للهمم والعزائم إلى كل خصلة حميدة، وإلى كل رقي صحيح وتقدم نافع.
فإن من أصول الشريعـة الكبرى وجـوب العمل بالأسباب النافعـة،
مقاصدها ووسائلها، والحث على كل عمل صالح ومصلحة، والاستعانة بالله في تحقيق ذلك مع بذل الجهد.
ومن المعلوم أن من تحقق بهذين الأصلين بذل المجهود في كل أمر نافع. والاستعانة بالمعبود، فإنه لا يزال في تقدم ورقيّ مطرد في إصلاح الدين وفي إصلاح الدنيا المعينة على الدين كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله».
وكم في كتاب الله وسنة الرسول من الأمر بكل عمل نافع والحث على التقدم الصحيح النافع للأفراد والجماعات والشعب والحكومات، وأما العلوم المادية الخالية من روح الدين ورحمته فإنها تقدم إلى الهلاك والدمار، وتقدم إلى هدم كل خلق جميل والاتصاف بكل خلق رذيل، والمشاهدة والحس أكبر شاهد على ذلك، فإنه محال أن يحصل التقدم الصحيح إلا إذا صحبه الدين الصحيح الملازم للحق، فإن الباطل وإن كان له نوع صولة فعاقبته الزوال والاضمحلال ومنتهاه الخسارة والهلاك.
فعند هؤلاء الملحدين أن التجديد والرقي هو الاندماج في معنوية الأجانب أعداء الأديان كلها، وزوال شخصياتهم في شخصيات أولئك والتشبه بهم في أخلاقهم ولباسهم وحركاتهم وعوائدهم الدقيقة والجليلة، فيرون الانسلاخ من دين الله الذي هو الحق ومن أخلاقه الجميلة هو التقدم والرقي، فاستبدلوا الأدنى الخسيس بالأعلى الكامل النفيس، وصاروا مع أعدائهم في ظاهرهم وباطنهم وكانوا بذلك أكبر سلاح للأعداء على دينهم وقومهم، ولهذا كانوا يقلدون الأجانب في الأمور الضارة، وأما ما عندهم من الأمور التي تنفع إذا انضم إليها الدين فهم أبعد الناس عنها كما هو معروف من أحوالهم.
* * *
فصل
ومما يروِّج به المنحرفون باطلهم لهجهم الشديد بالثقافة العصرية زاعمين أن الأخلاق لا تتهذب ولا تتعدل إلا بها، ويطنبون في مدحها ومدح المثقفين فيها وفي ذم من لم تكن له هذه الثقافة والسخرية منهم، وهم يفسرونها تفاسير متباينة منحرفة، كلٌّ يتكلم بما يخطر له، لأن العلوم إذا كانت فوضى والأخلاق تتبعها هكذا يكون أهلها لا يتفقون في آرائهم ونظرياتهم على شيء.
وكل أقوالهم ترجع إلى هبوط الدين والأخلاق، وإنما الثقافة الصحيحة والتهذيب النافع هو ما جاء به الدين الإسلامي الذي هذب العقائد عن الشرك والوثنيات، وهذب الأخلاق عن كل خلق رذيل، وهذَّب الأعمال والآداب حتى استقامت بها الأمور وصلحت بها الأحوال، وجمعت بين الدين والدنيا، وبين تقويم المعنويات النافعة والماديات المعينة عليها.
وذلك أن المشاهدة شاهدة بما ذكرنا، فإن العلوم العصرية والمخترعات مع توسعها وتبحُّرها حيث كانت خالية من الدين، عجزت كل العجز عن إصلاح الأخلاق واكتسابها للفضائل الصحيحة وعن ترفعها عن الرذائل، وإنما الذي يتكفل بهذا الإصلاح ويتولى هذا التهذيب النافع ويوجه إلى كل خير ويزجر عن كل شر هو دين الإسلام، فإنه مصلح للظاهر والباطن، لأمور الدين والدنيا، ومن نظر إلى أصوله وفروعه وإلى ما دعى إليه وحث، وإلى ما زجر عنه، وجد الأمر كما ذكرنا، بل فوق ذلك والله الموفق.
ولا تنظر إلى من تسمَّى بالإسلام ونبذ أخلاقه وراء ظهره وتحتج به على الإسلام والمسلمين في ضعته وجموده وهبوط أخلاقه.
فإن الإسلام بريء ممن هذه حاله، وإن تسمَّى بالإسلام فليس له منه إلا رسمه، فإن دين الإسلام دين الرفعة والرقي الصحيح، فتعاليمه وإرشاداته وأخلاقه وأعماله كلها في غاية الإحكام والانتظام في رسائلها ومقاصدها، وهي الغاية في توجيه المتصفين بها إلى كل خير وصلاح وإصلاح كما هو معروف من حال أول هذه الأمة القائمين به حقيقة، الذين ملأوا الدنيا عدلاً ورحمة وصلاحاً وإصلاحاً للأحوال كلها، وبهم يضرب المثل في الكمال الإنساني، فمن أراد أن يعرف آثار الدين فلينظر إلى أمثال هؤلاء، وأما من أراد المكابرة والتغرير فله نظر آخر.
يتبع إن شاء الله....
|
|
|