الفصل الثاني؛ ضوابط التغيير باليد
بعد أن تحدثنا عن جواز التغيير باليد لآحاد الرعية، لابد أن نعلم أن هناك شروطاً لذلك، وقد استنبط العلماء هذه الشروط من نظراتهم في النصوص الشرعية وفي المقاصد العامة للشريعة، ونحن نبين في هذا الفصل أهم هذه الشروط وهي:
أولاً: أن يكون المنكر موجوداً في الحال:
فلا تغيير باليد لمنكر لم يقع بعد ولا لمنكر قد وقع وانتهى، وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي: ((المعصية لها ثلاثة أحوال: إحداها: أن تكون متصرمة فالعقوبة على ما تصرم منها حد، أو تعزير وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد، والثانية: أن تكون المعصية راهنة وصاحبها مباشر لها؛ كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وذلك يثبت لآحاد الرعية، الثالثة: أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعد لم يحضر الخمر، فهذا مشكوك فيه، إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما التعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة)) (1).
ثانياً: أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسس:
وذلك لعموم النصوص الناهية عن التجسس كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اْجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تجَسَّسُوا...} (الحجرات: 12).
وفي الحديث: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا وكونوا إخوانا) (2).
وعن زيد بن وهب قال: (أُتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) (3).
إلى غير ذلك من الأدلة القاضية بحرمة التجسس على المسلمين ولا يستثنى من ذلك إلا حالة الضرورة؛ كأن يتعين البحث والتجسس طريقاً لإنقاذ نفس من الهلاك،.
قال النووي في شرح مسلم: ((وقال أقضى القضاة الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت، فذلك ضربان: أحدهما أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك، وكذا لو عرف غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار، والضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه)) (4).
ثالثاً: أن يلتزم الدرجات الشرعية التي ذكرها العلماء في التغيير:
فقد ذكر الغزالي - في الإحياء -: ((أن درجات التغيير تبدأ بالتعريف؛ أي تعريف الفاعل للمنكر أن هذا منكر، ثم الوعظ اللين ثم السب والتعنيف بالقول ثم التغييرباليد؛ ككسر الملاهي وإراقة الخمر ثم التهديد والتخويف ثم مباشرة الضرب باليد والرجل ثم جمع الأعوان وشهر السلاح)) (5).
وهذه الدرجات يمكن تقسيمها - كما يقول الأستاذ جلال الدين العمري - إلى نوعين: أحدهما الإصلاح بالوعظ، والآخر الإصلاح بالقوة على هذا الترتيب (6) والأصل في ذلك ما ورد في أمر الجهاد من البدء بالدعوة قبل القتال وكذا قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اْقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الْتِي تَبْغِي....} (الحجرات: 9)، فأمر بالإصلاح قبل القتال.
قال القرطبي: ((فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو القتل فليفعل، فإن زال المنكر بدون القتل لم يجز القتل، وهذا تُلُقي من قوله سبحانه وتعالى: {فَقَاتِلُواْ الْتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلىَ أَمْرِ اللهِ})) (7).
وقال ابن العربي: ((وإنما يبدأ باللسان والبيان، فإن لم يكن فباليد)) (8).
وقال الشوكاني: ((ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين، فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن، فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد، ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إلا بها)) (9).
لكن إن علم أنه لا ينتهي عن منكره بمجرد القول، جاز له البدء بالدرجة الأعلى، وقد قال الجصاص فيمن قصد رجلاً بالقتل، أو قصد امرأة بالزنى ونحو ذلك: ((... وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول، أو قاتله بما دون السلاح، فعليه أن يقتله... وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه، ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل، من غير إنذار منه له، فعليه أن يقتله... وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) يوجِب ذلك أيضاً؛ لأنه قد أمر بتغييره على أي وجه أمكن ذلك، فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل، فعليه قتله حتى يزيله، وكذلك قلنا في أصحاب الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس أن دماءهم مباحة، وواجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه، ولا التقدم إليهم بالقول؛ لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره، ومتى أنذرهم من يريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر)) (10).
رابعاً: أن يقتصر على القدر المحتاج إليه:
فإذا أمكن أن يغير المنكر بيده دون التعرض لفاعله، فليس له أن يباشر الضرب على فاعل المنكر، وإن احتاج إلى ضربه: فإن كان المنكر يندفع بضربه بيده فليس له رفع العصا في وجهه، وقد قال الغزالي رحمه الله ((وهو ألا يأخذ بلحيته في الإخراج ولا برجله إذا قدر على جره بيده، فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه، وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط)) (11).
وقال الجصاص: ((وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه، لم يجز له الإقدام على قتله)) (12).
وقد مر بنا ما نقله ابن القيم في الطرق الحكمية عن الشافعية في أن المغير إذا اتلف ما زاد عن الحد المبطل للصورة، فإنه يُضمن بقيمة ذلك، وإنما كان الأمر كذلك لأنه مأمور بإزالة المنكر فقط، ومتى قدر على إزالة المنكر بغير إيذاء فاعله لم يكن له إيذاؤه، ومتى أمكن إزالة المنكر بأذى قليل، لم يجز الأذى الكثير - والله أعلم -
خامساً: أن لا يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أكبر منه:
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القضية فقال: ((فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته)) (13).
ويضرب ابن تيمية لذلك مثالاً فيقول: ((ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه)) (14).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ((إنكار المنكر أربع درجات: الأولى أن يزول ويخلفه ضده، الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة)) (15).
ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: ((مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم)) (16).
هذا ونحب أن نؤكد على قضية مهمة وهي أن قياس المصالح والمفاسد يجب أن يكون بمقياس الشرع، لا بمقياس العقول والأهواء، وفي ذلك يقول ابن تيمية: ((لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر)) (17).
سادساً: أن لا ينكر العامي إلا في الأمور الجلية الظاهرة التي لا تحتاج إلى اجتهاد:
وفي ذلك يقول النووي رحمه الله: ((إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة؛ كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال، ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء)) (18).
وإنما اشترط ذلك لأن الجاهل قد يوقعه جهله في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وهو لا يدري، كما أنَّا قد قدمنا أنه يلزمه تقديم الدعوة والبيان، وأنَّى له أن يدعو وأن يبين وهو جاهل، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلىَ اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف: 108)
فمن أين له بالبصيرة في دقائق العلم وهو عاميٌّ جاهل.
وبعد:
فهذه أهم الضوابط التي يجب مراعاتها عند التغيير باليد، ولعلك تلحظ فيها أخي القارئ أنها كلها تقريباً ليست خاصة بآحاد الرعية، بل إنها مما ينبغي على الحكام والعلماء أيضاً مراعاته، وكذلك فإن منها ما ليس بقاصر على درجة التغيير باليد، لكنه قد يُطلب أيضاً عند التغيير باللسان، ولكننا ذكرناها كضوابط للتغيير باليد لآحاد الرعية بالذات، لعظم الحاجة إليها في هذه الحالة أكثر من غيرها.
والله أعلم
(1) إحياء علوم الدين (2/324).
(2) أخرجه البخاري (5143، 4064، 6066، 6724) ومسلم (2563) وأبو داود (4917) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه أبو داود (4890) وقال النووي في رياض الصالحين ص: 508: حديث حسن صحيح رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم.
(4) شرح مسلم (2/26).
(5) انظر إحياء علوم الدين (2/329 - 333).
(6) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجلال الدين العمري ص: 174.
(7) الجامع لأحكام القرآن (4/49).
(8) أحكام القرآن لابن العربي (1/293).
(9) السيل الجرار (4/586).
(10) أحكام القرآن للجصاص (1/31، 32).
(11) الإحياء (2/331).
(12) أحكام القرآن للجصاص (2/31).
(13) رسالة الحسبة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (28/129).
(14) المصدر السابق (28/131).
(15) إعلام الموقعين (3/7).
(16) المصدر السابق (3/7، 8).
(17) رسالة الحسبة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (28/129).
(18) شرح مسلم (2/23).