سادساً؛ أقوال العلماء في هذه المسألة
والآن - أخي القارئ - نسوق لك طائفة من أقوال العلماء في هذه المسألة ليتبين لك أن قولنا هو قول أئمة الهدى من أهل العلم.
1) من أقوال الحنفية:
قال الإمام أبو بكر الجصاص: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان: حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته، ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله؛ وإزالته باليد تكون على وجوه منها: ألا يمكن إزالته إلا بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر، فعليه أن يفعل ذلك كمن رأي رجلاً قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله، أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك، وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح، فعليه أن يقتله لقول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده) فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضاً عليه)) (26). أ.هـ.
2) من أقوال المالكية:
1) قال الإمام أبو بكر بن العربي عند تفسير قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنكَرِ} (آل عمران: 104): ((ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). وفي هذا الحديث من غريب الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في البيان بالأخير في الفعل وهو تغيير المنكر باليد وإنما يبدأ باللسان والبيان فإن لم يكن فباليد، يعني أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه؛ بنزعه عنه وبجذبه منه، فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه وذلك إنما هو إلى السلطان؛ لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجاً إلى الفتنة وآيلاً إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن يقوى المنكر، مثل أن يرى عدواً يقتل عدواً فينزعه عنه ولا يستطيع ألا يدفعه ويتحقق أنه لو تركه قتله، وهو قادر على نزعه ولا يسلمه بحال وليخرج السلاح)) (27).
ويلاحظ هنا قول الإمام أبو بكر بن العربي: ((فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه وذلك إنما هو إلى السلطان)) ومعنى ذلك أن ما قبل ذلك من تغيير باليد من غير سلاح ليس محتاجاً إلى السلطان، ومع ذلك فقد استثنى الشيخ حالة يجوز فيها للآحاد استعمال السلاح وهي أن يقوى المنكر كأن يرى رجلاً يقتل آخر ويتحقق أنه لو تركه قتله فهنا يجوز له إشهار السلاح في تغيير هذا المنكر.
2) نقل النووي في شرح حديث: (من رأى منكم منكراً) قولاً للقاضي عياض يقول فيه: ((هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل أو يريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره...)) (28) .
وكلام القاضي عياض هنا يبين صفة التغيير أيَّاً كان المغير حاكماً أو محكوماً فله أن يكسر آلات الباطل أو يريق المسكر أو ينزع المغصوب ويرده إلى أصحابه، فلم يفرق في ذلك بين الوالي والرعية.
3) وقال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الَّنَبِيِينَ بِغَيْرِ حَقٍ....} (آل عمران: 21): ((ولو رأى زيد عمراً وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه، إذا لم يكن صاحب المال قادراً عليه ولا راضياً به)) (29). فانظر كيف عبر بقوله (زيد) وذلك يفيد أنه أي فرد ولا يشترط أن يكون الحاكم، هذا وقد مر بنا من قبل عند ذكر الإجماع ما نقله القرطبي رحمه الله من ذكر الإجماع على أن تغيير المنكر واجب على كل من قدر عليه باليد فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه.
4) قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: ((فانظروا يرحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قِبلها، وينوطون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها)) (30).
وهذا من الإمام الطرطوشي خطاب للمسلمين جميعاً، ومن ادعى التخصيص فعليه الدليل.
3) من أقوال الشافعية:
1) قال الإمام النووي: ((قال إمام الحرمين رحمه الله: ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته العمل إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك، ربط الأمر بالسلطان)) (31).
2) وقال إمام الحرمين - الجويني - أيضاً في غياث الأمم عند الحديث عن خلو الزمان عن الإمام أو الخليفة: ((أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم لكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر ومراجعة مرموق العصر كعقد الجُمَع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف فيتولاه الناس عند خلو الدهر، ولو سعى عند شغور الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نفض الطرق عن السعاة في الأرض بالفساد فهم من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (32).
ومن هذا النص يتبين لنا أن الجويني رحمه الله يرى أن ما يسوغ لآحاد الرعية أن يقوموا به من غير إذن السلطان - وإن كان الأدب يقتضي مراجعته في ذلك -، فإن الناس يقومون به إذا خلا الزمان عن إمام. وذكر من أمثلة ذلك عقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف.
وأنه لو سعى طوائف من ذوي النجدة في حال غياب الإمام بنفض الطرق عن السعاة في الأرض بالفساد فإن ذلك من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويدل هذا الجزء الأخير من كلام الجويني على أن القيام بتغيير المنكر وتطهير الأرض من الساعين فيها بالفساد جائز لآحاد الرعية سواء في حال وجود الإمام أو حال غيابه - والله أعلم -
3) قال الغزالي في الإحياء بعد كلام له في عدم وجوب استئذان الإمام في التغيير: ((... وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى الإمام، وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر سيأتي...)) (33).
وقال عند ذكره لدرجات الحسبة: الدرجة السابعة: ((مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة في الدفع، فإذا اندفع المنكر فينبغي أن يكف)) (34).
وقال: ((الدرجة الثامنة: أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح وربما يستمد الفاسق أيضًا بأعوانه، ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان، ويتقاتلا فهذا قد ظهر الاختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام، فقال قائلون: لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد، وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن - وهو الأقيس - لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب، والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه، ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر فكذلك قمع أهل الفساد جائز؛لأن الكافر لا بأس بقتله، والمسلم إن قتل فهو شهيد، فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله، والمحتسب المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة فلا يغير به قانون القياس)) (35)أ.هـ.
ويتضح من هذا العرض لكلام الغزالي.. أن تغيير المنكر باليد له درجات:
الأولى: إزالة المنكر من غير تعرض لفاعله، وهي الدرجة الخامسة في ترتيب الغزالي لدرجات الحسبة، فهذه كما رأينا في كلامه جائزة للآحاد ولا تفتقر إلى إذن الإمام.
الثانية: وهي مباشرة الضرب باليد والرجل؛ أي ضرب فاعل المنكر ما لم يصل الأمر إلى شهر السلاح، وهي الدرجة السابعة في ترتيب الغزالي، فهذه أيضًا جائزة بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة
الثالثة: وهي شهر السلاح وجمع الأعوان وهي الدرجة الثامنة في ترتيب الغزالي، وهذه الدرجة هي التي وقع فيها الخلاف بين العلماء فمنهم من أجازها لآحاد الرعية ومنهم من قصرها على الحكام وقد رجح الغزالي جوازها لآحاد الرعية كما رأينا.
قال الشيخ محمد أحمد الراشد في كتاب المنطلق تعقيبًا على كلام الغزالي السابق: ((وهذا نص يكتب بماء الذهب وعلى الدعاة أن يحفظوه عن ظهر قلب)) (36).
فتمسك أخي بهذا الكلام الجيد ولا يغرنك قول متفلسفة العصر الذين يهاجمون صاحبه فيرمونه بأن كلامه هذا لم يستند فيه إلى آية واحدة أو حديث واحد ولو ضعيف أو عمل من أعمال الصحابة أو التابعين (37).
4) وقد تكلم ابن القيم في الطرق الحكمية عن تكسير آلات اللهو والصور، وهل يضمن من يكسر شيئًا من ذلك؟ فقال: ((وقال أصحاب الشافعي يضمن ما بينه وبين الحد المبطل للصورة، وما دون ذلك فغير مضمون لأنه مستحق الإزالة)) (38).
وذلك يعني أن الرجل إذا أتلف الجزء المحرم فلا شيء عليه، فإن تعدى ذلك إلى إتلاف ما ليس بمحرم فإنه يضمن بقيمة ذلك.
5) قال الإمام النووي - في شرح حديث أبي سعيد الذي في باب صلاة العيدين -: ((وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المنكر عليه واليًا، وفيه أن الإنكار عليه يكون باليد لمن أمكنه ولا يجزئ عن اليد اللسان مع إمكان اليد)) (39).
وقال في رياض الصالحين عند ذكره لحديث أم سلمة: (إنه يستعمل عليكم أمراء... إلخ) قال: ((معناه من كره بقلبه ولم يستطع إنكاراً بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بفعلهم وتابعهم فهو العاصي)) (40).
وقد مر بنا من قبل في باب الأدلة من السُنة ما ذكره النووي في شرح مسلم تعليقًا على هذا الحديث.
وقال في كتاب الأربعين النووية: ((وأعلى ثمرة الإيمان في باب النهي عن المنكر؛ أن ينهي بيده وإن قتل شهيدًا، قال الله تعالى: {يَا بُنيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعَرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} لقمان: 17)) (41).
6) قال ابن دقيق العيد: ((قالوا ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولاية، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين)) (42).أ.هـ.
ويلاحظ في ذلك أنه أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لآحاد المسلمين ولم يستثن من درجاته شيئاً فدل ذلك على أن جميع الدرجات ثابتة لآحاد المسلمين بما فيها اليد، والله أعلم.
4) من أقوال الحنابلة:
1) قال ابن القيم: ((وقال إسحق بن إبراهيم سئل أحمد عن الرجل يرى الطنبور أو طبلاً مغطى أيكسره؟ قال إذا تبين أنه طنبور أو طبل كسره. وقال أيضًا سألت أبا عبد الله عن الرجل يكسر الطنبور أو الطبل عليه في ذلك شيء؟ قال يكسر هذا كله وليس يلزمه شيء)) (43).
وقال ابن القيم أيضاً: ((وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور الصغير يكون مع الصبي؟ قال: يُكسر أيضاً، قلت: أَمُرُّ في السوق فأرى الطنبور يباع أكسره؟ قال: ما أراك تقوى. إن قويت - أي فافعل - قلت: أ دعى لغسل الميت فأسمع صوت الطبل، قال: إن قدرت على كسره، وإلا فاخرج)) (44).
وقال ابن القيم أيضًا في نفس الكتاب: ((وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: دُفع إليّ إبريق فضة لأبيعه، ترى أن أكسره أو أبيعه كما هو؟ قال: اكسره. وقال: قيل لأبي عبد الله: إن رجلاً دعا قوماً فجيء بطست فضة وابريق فضة، فكسره فأعجب أبا عبد الله كسره، وقال: بعثني أبو عبد الله إلى رجل بشيء فدخلت عليه، فأتى بمكحلة رأسها مفضض فقطعتها، فأعجبه ذلك وتبسم)).
قال ابن القيم: ((ووجه ذلك أن الصناعة محرمة فلا قيمة لها، ولا حرمة وأيضاً فتعطيل هذه الهيئة مطلوب فهو بذلك محسن وما على المحسنين من سبيل)) (45).
2) قال الإمام ابن قدامة رحمه الله عند حديثه عن الوليمة وما يفعله من دُعي إليها فوجد فيها معصية: ((فإن رأى نقوشاً وصور شجر ونحوها فلا بأس بذلك لأن تلك نقوش، فهي كالعلم في الثوب، وإن كانت فيه صور حيوان في موضع يوطأ أو يتكأ عليها، كالتي في البسط والوسائد جاز أيضاً، وإن كانت على الستور والحيطان وما لا يوطأ وأمكنه حطها أو قطع رؤوسها فعل وجلس، وإن لم يكن ذلك انصرف ولم يجلس، وعلى هذا أكثر أهل العلم)) (46).
3) وقال ابن القيم عند حديثه عن الأنصاب: ((وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله سبحانه وتعالى كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين)) (47).
4) قال ابن كثير: ((وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ففرح الناس بذلك)) (48).
5) وقال ابن القيم عند حديثه عن طائفة يغنون في المساجد: ((ومن أعظم المنكرات تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة ويقيمونه أيضًا في مسجد الخيف أيام منى وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارًا، ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف، فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم)) (49).
فمن هذا يتبين أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه كانوا يباشرون التغيير بأيديهم؛ لعلمهم أنه ليس هناك من دليل على اختصاص ذلك بالولاة.
6) قال ابن رجب الحنبلي: ((جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات؛ مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات اللهو التي لهم أو نحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك وكل ذلك جائز)) (50).
5) من أقوال الظاهرية وغير المتمذهبين من العلماء:
1) قال الإمام ابن حزم في المحلى في (أحكام الإمامة) ((مسألة: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم إن قدر بيده فبيده، وإن لم يقدر بيده فبلسانه، وإن لم يقدر بلسانه فبقلبه ولا بد، وذلك أضعف الإيمان فإن لم يفعل فلا إيمان له، ومن خاف القتل أو الضرب أو ذهاب المال فهو عذر يبيح له أن يغير بقلبه فقط ويسكت عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر فقط، ولا يبيح له ذلك العون بلسان أو بيد على تصويب المنكر أصلاً)) (51).
2) قال الإمام الشوكاني في السيل الجرار: ((كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكراً أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهور كون الشيء منكراً يحصل بكونه مخالفاً لكتاب الله سبحانه أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو لإجماع المسلمين، ثم إذا كان قادراً على تغييره بيده كان ذلك فرضاً عليه ولو بالمقاتلة، وهو إن قُتل فهو شهيد، وإن قتل فاعل المنكر فبالحق والشرع قتله، ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين، فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن، فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إلا بها، فإذا كان غير قادر على الإنكار باليد أنكر باللسان فقط وذلك فرض، فإن لم يستطع الإنكار باللسان أنكر بالقلب وهذا يقدر عليه كل أحد وهو أضعف الإيمان كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم)) (52).
6) من أقوال العلماء المعاصرين:
1) قال الأستاذ عبد القادر عودة: ((إذا شوهد الجاني، وهو يرتكب الجناية كان لأي شخص أن يمنعه بالقوة عن ارتكاب الجريمة، وأن يستعمل القوة اللازمة لمنعه سواء كانت الجريمة اعتداء على حقوق الأفراد؛ كالسرقة، أو اعتداء على حقوق الجماعة؛ كشرب الخمر والزنا، وهذا ما يسمى بحق الدفاع الشرعي العام) (53) أ.هـ.
2) سُئل الدكتور/ عمر عبد الرحمن: هل يجوز استخدام القوة في تغيير المنكر للأفراد؛ كتحطيم سيارة عمداً أو كسر آلة موسيقية أو الاعتداء على مخمور مثلاً؟
فأجاب: ((نعم يجوز ذلك بل قد يجب، أولاً: لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده...) ومَنْ تفيد العموم؛ فيجوز بل يجب على آحاد الرعية وأفرادها أن يغيروا المنكر بأيديهم ولا يتوقف ذلك على إذن أصحاب السلطة... إلى أن قال وكيف يستأذن من ولي الأمر إذا كان هو قد جعل المنكر معروفاً؛ فأحل الربا والزنا والخمر والمسارح والمراقص ووقف رجال الشرطة يحرسون هذه الأماكن ويجعلون لها حماية؟ فهل يستأذن ولي الأمر في النهي عن المنكر الذي رعاه وحماه، واعتنى به أشد الاعتناء وجعله من موارد الدولة وترويج السياحة؟)) (54).
3) قال الشيخ عبد الله ناصح علوان بعد كلام له في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ((وأما ما يحتج به البعض من حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) إن الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء وبالقلب على عوام الناس، فهذا الاحتجاج لا ينهض على دليل ولا يستند على حجة لأن لفظ (مَن) في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم) هو لفظ يدل على العموم، ويشمل كل من استطاع تغيير المنكر باليد أو اللسان أو الإنكار بالقلب سواء أكان المنكِر من الأمراء أو العلماء أو عامة الناس إذا فقهوا الخطر الذي يترتب عليه تفشي المنكر، وذلك للعموم الذي يدل عليه الحديث الذي سبق، ولعموم كلمة (أمة) الواردة في قوله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} فإن كلمة أمة تشمل الأمة بأسرها على اختلاف طبقاتها ومستوايتها سواء أكانوا حكاماً أم علماء أم عامة.
وإلا فكيف يتأتى للأمة أن تكون واقفة بالمرصاد للذين يتآمرون عل دينها وأخلاقها، ويعبثون بعقائدها ومقدساتها ويعيثون في الأرض ظلماً وفسادًا، ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم؟ كيف يتأتى لهم الوقوف إذا لم تتضافر الأمة بأسرها على مقاومة المنكر، وتقف صفًا واحدًا أمام العابثين والظالمين؟)) (55).
وبعد:
فهذه أقوال العلماء من فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم، تبين بوضوح وجلاء جواز تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية، وإنما وقع الخلاف فيما لو وصل التغيير باليد إلى جمع الأعوان وشهر السلاح، ففيهم من أجاز التغيير عند ذلك أيضاً كالغزالي رحمه الله ومنهم من منع التغيير حينئذٍ كالإمام الجويني.
وفي مثل هذا الخلاف يمكننا - والله أعلم - أن نجمع بين الرأيين؛ وذلك بالنظر إلى جسامة المنكر وخطورته، فإذا كان المنكر من الجسامة بحيث يترتب على بقائه مفسدة أكبر من تلك التي تتوقع من تغييره عن طريق شهر السلاح وجمع الأعوان، فلا بأس حينئذٍ من اللجوء إلى هذه الوسيلة في التغيير.
أما إن كان المنكر أهون من ذلك، فلا يلجأ حينئذٍ إلى تلك الوسيلة، وهذا يدخل في باب قياس المصالح والمفاسد الذي سنتكلم عنه في فصل الضوابط - بمشيئة الله تعالى -
وأيضاً فالقارئ الكريم لو راجع ما نقلناه عن الإمام ابن العربي فسيجد شيئاً كهذا الذي ذكرناه.
والله أعلم
(26) (أحكام القرآن) للجصاص (2/31).
(27) أحكام القرآن لابن العربي (1/293).
(28) شرح صحيح مسلم (2/25).
(29) تفسير القرطبي (4/49).
(30) الحوادث والبدع ص: 105.
(31) شرح صحيح مسلم (2/25) والعجيب أن لجنة كان قد ألفها شيخ الأزهر للرد على شهادة (الشيخ/صلاح أبوإسماعيل) فيما سمي بقضية الجهاد 1981م أوردت هذا النقل للجويني، وزعمت أنه يقصد أن التغيير باليد لا يكون إلا للحكام، وأما من عداهم فلهم التغيير بالقول فقط. وفهمهم هذا عجيب ومخالف لقول الجويني: (ما لم ينته العمل إلى نصب قتال وشهر سلاح) لأن معنى قوله: (ما لم ينته العمل إلى نصب قتال...) أن كل ما قبل ذلك جائز ومنه التغيير باليد من غير سلاح؛ كإراقة الخمور وكسر الملاهي ونحو ذلك، بل إنه رحمه الله ذكر في تتمة الكلام الذي نقله عن النووي آنفاً أن لأهل الحل والعقد التواطؤ على خلع والي الوقت إذا جار وظهر ظلمه، ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب. (المصدر السابق نفس الجزء الصفحة).
(32) غياث الأمم في التياث الظلم ص: 279.
(33) إحياء علوم الدين (2/315).
(34) المصدر السابق (2/332).
(35) إحياء علوم الدين (2/333).
(36) المنطلق ص: 152.
(37) الحمزة دعبس في مقال له بجريدة النور المصرية عدد 20 رجب 1408 هـ.
(38) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص: 272.
(39) شرح صحيح مسلم (6/178).
(40) رياض الصالحين ص: 116.
(41) الأربعون النووية ص: 111.
(42) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص: 137، وابن دقيق هو فقيه المذهبين الشافعي والمالكي.
(43) الطرق الحكمية ص: 271، 272.
(44) المصدر السابق ص: 272.
(45) المصدر السابق ص: 274، 275.
(46) المغني لابن قدامة (8/111).
(47) إغاثة اللهفان (1/212).
(48) البداية والنهاية (14/12).
(49) إغاثة اللهفان (1/231).
(50) جامع العلوم والحكم شرح حديث (من رأى منكم منكرًا) ص: 282.
(51) المحلى (9/361).
(52) السيل الجرار (4/586).
(53) التشريع الجنائي الإسلامي (1/86).
(54) جريدة النور المصرية عدد 13 رجب 1408 هـ.
(55) تربية الأولاد في الإسلام (1/481).