السبب الرابع :الصبر بجميع أنواعه
والصبر معناه: حبس النفس وكفها عن شهواتِها، وإلزامها بالإتيان بأسباب السلامة والنجاة، لتأخذ زادها في خضم هذه الحياة، ولأهميته وشدة الحاجة إليه فقد أمر الله نبيه محمدًا ج بالاعتصام به وجعله له خلقًا وطريقًا لتبليغ رسالة الله ليعمل بِها في أرض الله تعالى، فقال عز و جل: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: من الآية35].
حقًّا إنه توجيه رباني حكيم لنبي صادق كريم، اصطفاه الله لرسالته وخصه برعايته فاحتمل كل أذى في سبيل الله، وعانى من أعداء هذا الدين الشيء الذي لا يتحمله ويصبر عليه إلا من شملته رعاية الله وحظى بنصر وتوفيق وهداية من ربه خالقه ومولاه.
نعم لقد لقي رسول الله ج من عشيرته الأقربين أشد الأذى وأقسى المحن، وأسوأ المواقف، لا لشيء إلا لأنه قال لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا لا إله إلا الله كلمة تدين لكم بِها العرب وتملكون بِها العجم، فقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:5].
نعم صنعوا ما صنعوا، وقالوا ما قالوا، لا لشيء إلا لأنه قال لهم وهو الناصح لهم: (إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
فقالوا له: تبًّا لك، ألهذا دعوتنا؟ هذا قليل من كثير مما حصل من الأقربين من قومه، فما ظنك بالأباعد الذين لَم يعرفوا شيئًا عن خلق رسول الله ج وأمانته في جاهلية ولا إسلام .
لقد أغروا به سفهاءهم فرموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الطاهرتين وأعجزوه عن المشي، وهو الوحيد الفريد الطريد المجرد من كل سند أو معين من أهل الأرض، ومع ذلك كله فقد كان محلقًا في قمة الصبر، وفي نفس الوقت كان منطرحًا بين يدي ربه يردد الدعاء المأثور في تذلل وخشوع -لمن يستحق التذلل والخشوع- قائلاً: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لَم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك أو ينْزل بِي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
ولئن كان الله سبحانه أمر النبي ج بالصبر خصوصًا فقد أمر به المؤمنين عمومًا، فقال: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200].
لقد ناداهم في هذه الآية الكريمة بلقب الإيْمان تشريفًا وتكريْمًا وحثًّا على امتثال تلك الأوامر الأربعة التي ابتدأها بالصبر، فقال: ﴿اصْبِرُوا﴾ وما ذلك إلا لأن الصبر زاد عظيم في درب الخير كله وطريق الدعوة إلى الله، ذلك الطريق الطويل الشاق الحافل بالعقبات المتعددة والابتلاءات المتنوعة والإيذاءات المؤلمة.
﴿اصْبِرُوا﴾ على شهوات النفس ورغائبها وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وذلك بوضع العلاج الذي يكون مناسبًا لكل نوع من أنواع أمراضها في حالة ضعفها ونقصها، وفي حالة عتوها وطغيانِها وفي حالة غرورها والتوائها وانحرافاتِها، ثم اصبروا على صولة الباطل أيا كان نوعه ومصدره فإن للباطل طغيانًا وصولة، ولكنه لا يدوم، وليس له ولا لأهله عاقبة حميدة، إنما العاقبة الحميدة والنصر المؤزر لكل مؤمن مجاهد صابر.
﴿اصْبِرُوا﴾ بكل ما تحمل كلمة الصبر من معنى.
﴿اصْبِرُوا﴾ على طاعة الله فافعلوها وارجو ثوابَها.
و ﴿اصْبِرُوا﴾ عن معصية الله فلا تقربوها بل خافوا عقابَها.
و ﴿اصْبِرُوا﴾ على أقدار الله فلا تسخطوها بل قابلوها بالرضا والتسليم فإن أمر الله قدر مقدور.
﴿اصْبِرُوا﴾ وابشروا فإن الله مع الصابرين، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: من الآية10].
وإن الإنسان في هذه الحياة لمبتلى، وكثيرًا ما توجه إليه سهام البلاء فهو بحاجة إلى شحنة كبيرة من مادة الصبر لاسيما في هذا الزمان الذي عمت فيه الفتن وكثرت فيه الشرور، وانتشرت فيه الملهيات والمغريات فأصبح الصابر غريبًا، ولا عجب أن يكون غريبًا، فقد روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني. قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بِهذه الآية؟ فقال: أيَّةُ آية؟ قلت: قوله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: من الآية105].
قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله ج فقال: (بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم).
وفي رواية: (قيل: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم). قال الترمذي: حديث حسن غريب.
فما أعظم شأن الصبر وما أجمل ثمراته إذ هو أجمل صفة من صفات الكمال، حيث به تنال المطالب العالية، وتحل المشاكل المستعصية فما نجح الرسل الكرام، والأنبياء العظام في دعوة أممهم إلا بالصبر، وما نال الشهداء مرتبة الشهادة وشرفها وفضلها إلا بالصبر على منازلة الأقران في معارك القتال، وما ظفر العلماء بجمع العلوم وفهمها إلا بالصبر على سهر الليالي وشظف العيش، وما حصل ذوو الهمم العالية والمقاصد الشريفة على غاياتِهم النبيلة ومطالبهم المرضية إلا بالصبر على كل ما يواجهونه في سبيل ذلك مستشعرين معية الله الخاصة لعباده المؤمنين قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: من الآية153].
وكم من حديث صحيح أوضح لنا فيه نبينا محمد ج حقيقة الصبر في أعلى صورها، وأخطر أشكالها، فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه .. والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله ج يحكي نبيًّا من الأنبياء -عليهم السلام- ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون).
وعن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي ج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم). وغير ذلك من النصوص كثير.
يتبع إن شاء الله بالسبب الذي يليه...