وفي الصحيحين وغيرهما عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهلا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) .
فذهاب العلماء العاملين من أسباب ظهور الجهل وضلال العباد . وأما العلماء الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة فوجودهم من أسباب الفساد في الأرض ، وكثير ما هم .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ... } [التوبة : 34 ].
فهذه الآية فيها خبر من الله تعالى بأن كثيرا من الأحبار : وهم العلماء والرهبان ، وهم العباد ليأكلون أموال الناس بالباطل بتساهلهم في التحليل والتحريم طلبا للعاجل ، فيحملون النصوص مالا تحتمل إرضاء للرؤساء والزعماء ، ومحافظة على مناصبهم ورياستهم وهم مع ذلك يصدون عن سبيل الله ، ويلبسون الحق بالباطل ، وهذا حال علماء السوء ، وهذه صفتهم .
وكثير ممن يعبد غير الله ، ويركع ، ويسجد ، وينحر ، وينذر ، ويصرف معظم العبادات لغير الله من الأموات وغيرهم ؛ يحصل له هذا الشرك بسبب علماء السوء الفجار الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله ، فجعلوا الفتيا الفاجرة المبنية على الجهل الصرف ، والمراغمة والمحادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - . سلما لنيل شهواتهم .
وفي هؤلاء وأمثالهم من علماء السوء يقول الرب جل وعلا :
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأعراف : 169]
فهذه الآية فيها بعض صفات علماء السوء ، ولا ينبئك مثل خبير .
فيجب الحذر منهم ؛ لأنهم لا همة لهم في القيام بأمور الدين والنهي عن ما يضاد أصل الدين ، وضلال كثير من العوام الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام على أيديهم فهم قاعدون على كل صراط مستقيم فإنا لله وإنا إليه راجعون .
( فصل )
التوحيد ثلاثة أنواع :
1- توحيد الربوبية .
2- وتوحيد الإلهية .
3- وتوحيد الأسماء والصفات .
فتوحيد الربوبية : هو الإقرار والاعتراف بأن الله هو : الخالق ، الرازق ، المدبر . وهذا التوحيد أقر به مشركو العرب ، ولم يدخلهم في الإسلام .
قال تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ لقمان :25]
وقال تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ يونس : 31 ]
والإقرار بوجود الله والاعتراف بأنه الخالق الرازق المدبر لا يكفي
في دخول العبد في الإسلام . فإن كثيرا من المشركين يقرون بتوحيد الربوبية ، ومع ذلك لم يدخلهم في الإسلام لعدم إذعانهم لتوحيد العبادة ، وقاتلهم النبي -- صلى الله عليه وسلم --، واستحل دماءهم وأموالهم . وكثير من الناس يظن أن توحيد الربوبية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل، وأنهم إذا أثبتوه فقد وحدوا الله حق التوحيد . وهذا خطأ ظاهر ، و لذلك يعبدون غير الله ، ومع ذلك يزعمون أن فعلهم ليس بشرك إنما الشرك إذا جعلت خالقا مدبرا مع الله. وهذا الجهل بالتوحيد أرداهم وجعلهم يشركون بالله شركا جلياً.
ومعلوم قطعا أن الخصومة بين الرسل وقومهم ليست في توحيد الربوبية لأنهم كانوا مقرين به إنما هي في توحيد الإلهية : وهو النوع الثاني من أنواع التوحيد .
وهو: إفراد الله بالعبادة فلا يشرك مع الله أحد . ومن عرف التوحيد الذي أرسلت به الرسل ، وأنزلت من أجله الكتب : عرف ما عليه الكثير من إضاعتهم له ، وإهماله جانبه ، وجهل الكثير بحقوقه .
وقد يظن بعض الناس أنه إذالم يعبد صنما ولم يسجد لغير الله فهو موحد مهتدي وإن عمل ما عمل ، وهذا جهل اصطاد به الشيطان كثيرا من العباد ، فأوقعهم بالمكفرات من حيث لا يشعرون .
فإن التوحيد ليس التخلي عن عبادة غير الله من الأصنام والأوثان ، بل لابد من التخلي عن جميع العبادات التي يراد بها غير الله والبراءة منها ومن أهلها ، وإخلاص جميع العبادات لله.
فإن العبد مأمور بتوحيد الله والبراءة من كل معبود سوى الله ، فلو عبد الله ولم يكفر بما يعبد من دون الله ،لم يكن متمسكا بالعروة الوثقى قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ } [البقرة:256]