بارك الله فيكم الأخ الفاضل،
ورحم الله الإمام العبقري البخاري، الذي كان فقهه في تبويبه، كما يُقال،
ثمّ يأتي الجهلة من النّاس من يطعن في صحيح البخاري، بأمور لا تخفى حتى على أبسط طالب علم، بل يضربوا بأحاديث الكتاب التي أجمعت الأمة على صحته، لأنّ هذا الحديث أو ذاك لم يقبله عقلهم القاصر المحدود، الذي جعله حكما وميزان في قبول الحديث وردّه.
من أعجب ما قرأتُ حول عبقرية الإمام البخاري هو استفتاحه لكتابه الجامع الصحيح بحديث:
( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )
- ما علاقة هذا الحديث بعنوان أول كتاب ـ أي فصل ـ من صحيحه، وهو " كتاب الوحي، باب :كيف بدأ الوحي"؟؟
- لماذا حذف جملة "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه " هي جملة معروفة من الحديث؟ هل وردتْ هكذا في رواية أخرى؟ أم سقطتْ من الرواية؟
رغم أنّ كل روايات هذا الحديث عنده في أبواب أخرى وعند جميع من روى هذا الحديث أثبتوا فيها جملة " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه"؟
لأن الإمام البخاري لم يضع مقدمة لصحيحه، كما هي عادة المؤلفين، كالإمام مسلما مثلا، التي يوضّحون من خلالها مقصدهم من الكتاب والمنهجية التي ألفوا عليها كتابهم.
فعوضّ الإمام البخاري المقدمة بهذا الحديث إشارة منه إلى:
أولا:أنّ قصده ونيته هي تأليف الكتاب هو ابتغاء وجه لله تعالى، والدفاع عن سنّته والذود عنها.
ثانيا:أنّ منهجيته في رواية الأحاديث أنه يرى جواز رواية جزء من الحديث فقط دون لزوم ذكر المتن كاملا، وذلك بإيراد ما يناسب الباب من الحديث فقط.
فالحديث كما هو معروف: إنّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها..
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
وقد صدر الكتاب بترجمة بدء الوحي وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية فكأنه يقول قصدت جمع وحي السنة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي وإنما لكل امرئ ما نوى فاكتفى بالتلويح عن التصريح "،
وقال أيضا:
"وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أولا فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة فرارا من التزكية وبقي الجملة المترددة المحتملة تفويضا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازى له بمقتضى نيته ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط وإيثار ألأغمض على الأجلي وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متنا وإسنادا" .
هذا فيض من غيض من عبقرية الإمام الفذّ محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي رحمه الله تعالى.