المعرّي :
وُلد سنة 363 هجرية في معرة النعمان ..
اعتبر المعرّي العقل سبيلاً للوصول إلى الحقائق ، ومغزى الحياة عنده يتجلى في تجربة الموت ، فالموت عنده هو الحقيقة بدليل أنّه ينقض الحياة ..
والمعرّي نقد المتديّنين ، ولا يرى في اختلاف الأئمة رحمة ، بل يراه تناقضاً عجيباً.. ونقد أيضاً العقائد والفقهاء والمتصوّفة والزهّاد والرهبان والحكام والقضاة والأدباء والدنيا والزمان ..
فمذهبه في الحياة هو التشاؤم ، والحياة عنده كلّها تعب ، وخير النساء اللاتي لا يلدن، فعلى المرء أن يجتاز الحياة بانتظار الموت ..
يقول المعرّي :
كم أمّةٍ لعبت بها جُهّالها*** فتنطّست من قبل في تعذيبها
الخوف يلجئها إلى تصديقها*** والعقل يحملها على تكذيبها
وجبلّة الناس الفساد وقلّ من*** يسمو بحكمته إلى تهذيبها(10)
ويقول أيضاً :
وجدت الناس في هرجٍ ومرجٍ*** غواةً بين معتزلٍ ومُرجِ
فشأن ملوكهم عزفٌ ونزفٌ*** وأصحاب الأمور جباة خَرجِ
وهمُّ زعيمهم إنهابُ مالٍ*** حرام النهب أو إحلال فَرجِ(11)
ويقول أيضاً :
يدعون في جمعاتهم بسفاهة*** لأميرهم فيكاد يبكي المنبر
وكأنمـا دنياك رؤيا نائمٍ*** بالعكس في عُقب الزمان تعبّر(12)
ويقول أيضاً :
ما فيهم بِرٌّ ولا ناسكٌ*** إلاّ إلى نفعٍ له يجذب أفضل من أفضلهم صـخرةٌ*** لا تظلم الناس ولا تكذب(13)
ابن سينا ( الشيخ الرئيس ) :
وُلد سنة 370 هجرية في قرية أفشنة من قرى بخارى ..
يقسم ابن سينا الفلسفة إلى :
- فلسفة نظريّة : الغاية منها تكميل النفس بأن تعلم فقط ، أي اعتقاد ورأي ليس بعمل ، وهذه الفلسفة تُعنى بمعرفة الأمور المتعقلّة بالأشياء الموجودة التي وجودها ليس باختيارنا وفعلنا ..
- فلسفة عمليّة : الغاية منها أن تعلم النفس ما يُعمل به فتعمل ، وهذه الفلسفة تُعنى بمعرفة الأمور المتعلّقة بالأشياء الموجودة التي وجودها باختيارنا وفعلنا ..
ويرى ابن سينا الموجودات كما يلي :
1- الواجب الوجود بذاته لذاته لا لشيء آخر ، وهو الذي يلزم محال من فرض عدمه ، ولا يمكن أن يكون واجباً بغيره ، وهو المبدأ الأول ، أي الله تعالى ..
2- الواجب الوجود لا بذاته : وهو الذي لو وُضع شيءٌ مما ليس هو ، صار واجب الوجود ، كالتصور الذهني للأرقام ، وكعلاقة علاقة المقدّمات بالنتائج ..
3- الممكن الوجود : وهو متى فُرض غير موجود ، أو موجوداً ، لم يعرض منه مُحال ..
ويرى ابن سينا أنّ الله تعالى هو الطرف الأول في سلسلة العلل والمعلولات ، لأنّ التسلسل بلانهاية باطل ، فالسلسلة مهما امتدّت لا بدّ لها في البداية من طرف يكون غير معلول بل يكون واجب الوجود بذاته ومن ذاته وهو الله تعالى ..
ووقف ابن سينا بين رأي أرسطو وبين النظرية الإسلامية ، بالنسبة لعلم الله تعالى ، وإحاطته بالأشياء .. فأرسطو الذي ذهب إلى أنّ الله تعالى عقلٌ يعقل بذاته ، ولا يعقل إلاّ ذاته ، وإلى أنّ علم الله تعالى بالجزئيات لا يتّفق مع كماله ، لأنّ هذه الجزئيات متغيرة ناقصة .. وكذلك الفارابي ذهب قريباً من مذهب أرسطو بأن الله تعالى يعلم الكليات وحسب ..
ولكن ابن سينا ذهب مذهباً توفيقياً بين هذه الآراء ، وبين النظرية الإسلامية فهو يقول في كتاب ( الشفاء ) : ( إنّ الواجب الوجود إنما يعقل كلَّ شيءٍ على نحوٍ كلّيٍّ ، ومع ذلك لا يغرب عنه شيء شخصي ، ولا يغرب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض ، فمعرفة الله إذن تشمل جميع الأشياء دون استثناء ، لأنّ واجب الوجود يعقل ذاته بذاته ، ويعقل ما بعده من حيث هو علّة لما بعده ، ويعقل سائر الأشياء من حيث وجوبها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً .. أمّا الأشياء الجزئية فإنها تُعقل كما تُعقل الكلّيّات من حيث تجب بأسبابها كالكسوف الجزئي فإنه يعقل وقوعه بسبب توافر أسبابه الجزئية وإحاطة العقل بها ، وتعقلها كما تتعقل الكليات )(14) ..
ونظرية الفيض التي جُرف بتيارها الفارابي وغيره من فلاسفة المسلمين ، جُرف ابن سينا بتيارها هو الآخر .. فها هو يقول : ( قد عرفت أنّ الله تعالى واجبُ الوجود ، وأنه ليس له صفة زائدة على ذاته تقتضي الأفعال المختلفة ، بل الفعل آثار كمال ذاته ، وإذا كان كذلك ففعله الأوّل واحد ، لأنّه لو صدر عنه اثنان ، لكان ذلك الصدور على جهتين مختلفتين ، لأنّ الاثنينية في الفعل تقتضي الاثنينية في الفاعل ، والذي يفعل بذاته إن كانت ذاته واحدة فلا يصدر منها إلاّ واحد ، وإن كانت فيه اثنينية فيكون مركّباً ، وقد بيّنا استحالة ذلك ، فيلزم ألاّ يكون الصادر عنه جسماً لأنّ كلَّ جسمٍ مركّبٍ من الهيولى والصورة ، وهما محتاجان إلى علّتين ، أو إلى علّة ذات اعتبارين ، وإذا كان ذلك استحال صدورهما من الله تعالى ، لما ثبت أنّه ليس فيه تركيب أصلاً ، فإنّ الصادر منه غير جسم ، فهو إذن جوهرٌ مجرّدٌ ، وهو العقل الأوّل )(15) ..
فالله تعالى - حسب ما يذهب ابن سينا - إذ يعقل ذاته يفيض عنه عقل واحد ممكن بذاته واجب الوجود بغيره ، وهو العقل الأول ، وهذا العقل الأول يعقل مبدأه فيفيض عنه عقل ثانٍ ، وهذا العقل يعقل ذاته بأنه واجب الوجود بغيره فتفيض عنه السماء الأولى ، ويتكرّر عمل العقل الثاني على هذا المنهج فيفيض عنه عقل ثالث ، وهكذا يستمر الفيض حتى العقل العاشر ، ويتوقف الفيض عند العقل العاشر ، حيث يبدأ الكون بالفساد ..
وعند ابن سينا أن العالم ليس بحادث في زمان ، والعالم كان موجوداً في علم الله تعالى ، فأخرجه الله تعالى من الوجود بالقوة ( أي في علمه ) ، إلى الوجود بالفعل ، وهكذا فالعالم بالقوة - أي في علم الله تعالى وإرادته – قديم ..
وعلى الرغم من أنّ ابن سينا يجاري أرسطو في قدم العالم ، إلاّ أنّه لا يعني أنّ العالم قديم بذاته ، أو أنه غير مخلوق لله تعالى .. فما يريد ابن سينا قوله هو أنّ العالم موجودٌ قبل الزمان ، وبالتالي فليس له مبدأٌ زماني .. يقول ابن سينا : ( القدم يُقال على وجوه : ( قديم بالقياس ) وهو شيءٌ زمانه في الماضي أكثر من زمان شيءٍ آخر ، فهو قديم بالقياس إليه ، وأما ( القديم المطلق ) ، فهو أيضاً يُقال على وجهين : بحسب الزمان ، وبحسب الذات ، فالقديم بحسب الزمان هو الذي ليس له مبدأ زماني ، والقديم بحسب الذات هو الذي ليس له مبدأٌ يتعلق به ، وهو الواحد الحق تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً ) (16)..
إن ما يريد ابن سينا أن يقوله هو أنّ العالم موجودٌ قبل الزمان ، أي أنّ الزمان مستقلٌ عن مادة العالم ..
بقي أن نذكر أنّ ابن سينا نفى الغاية عن أفعال الله تعالى ، وقال إنّ العالي لا غرض له فيمن دونه ، والله تعالى لا غاية له في الوجود ، لأنّه هو الغاية لكلِّ موجود ..
(10) اللزوميات لأبي العلاء المعرّي – دار الجيل – بيروت – 1969 م – تقديم : عمر أبو النصر – ص : 91
(11) المرجع السابق : ص : 106
(12) المرجع السابق : ص : 132
(13) المرجع السابق : ص : 84
(14) المدخل إلى الفلسفة – ص : 27
(15) المرجع السابق – ص : 27
(16) قصة الإيمان – ص : 62