عندما تنقلب قناة الجزيرة على مهنيتها
عرفت قناة الجزيرة حتٌى عهد ليس بعيد بمهنيٌة نقل الخبر إلى الحدٌ الذي صارت فيه "الجزيرة" أحد المصادر الرئيسيٌة في صنع وتوزيع كثير من أخبار الساعة على الفضائيٌات ووسائل الإعلام الأخرى عربيٌاً ودوليٌاً. ومنذ إطلالتها في العام 1996 ، سعى القائمون عليها لجعلها في قلب الحدث، فجهٌزوا لها كلٌ الإمكانات المهنيٌة، والتقنيٌة، بمركز بث مجهٌز بأحدث وسائل البثٌ والإتٌصال عبر الأقمار الصناعيٌة، إضافة إلى طاقم إخباري مكوٌن من أكثر من ثلاثين مذيعاً ومثيعة، بالإضافة إلى ثلاثين مكتباً حول العالم، كلٌ ذلك جعل من"الجزيرة"أحد أهم الأقنيٌة الإخباريٌة الفضائيٌة، إن لم يكن أهمٌها على الإطلاق والاكثر حضوراً في الشارع العربي.
مهنيٌة صنع الخبر ونقله عبر القناة العربيٌة الأولى من نوعها في العالم العربي أكسبها رصيداً لايستهان بثقله من الثقة عند الإنسان العربي التوٌاق دوماً للموضوعيٌة في العرض والتحليل للأحداث المحيطة به من كلٌ اتٌجاه، في بلده والبلدان العربيٌة الأخرى، في فلسطين المحتلٌة، قضيٌتها، شعبها، وعن كلٌ مايدور في الخفاء وخلف الكواليس، في كلٌ ذلك كانت"الجزيرة" على قدر عال من المسؤليٌة المهنيٌة، التي يقف في أوٌل أوٌليٌاتها الأمانة في تغطية الحدث والصدق والموضوعيٌة بنقل الخبر عنه.
أثناء العدوان على غزٌة في 2009 كانت "الجزيرة" في قلب الحدث، مع الشهداء المخٌضبين بدمائهم، إلى جانب البيوت المدمٌرة، في المستشفيات التي كانت تعجٌ بالجرحى والمصابيثن والمعاقين والشهداء، صور البربريٌة الصهيونيٌة التي لاتعرف حدود، صور الفوسفور الأبيض الهاطل بالموت والإرهاب من جنون تلك الطائرات المغيرة على العزٌل من النساء والأطنال والشيوخ، كوثيقة إتٌهام إضافيٌة موجٌهة ضد حكٌام الدولة المارقة، التي قامت ظلماً وعدواناً على آلام الفلسطينيٌين، دمائهم ومعاناتهم، مهٌد لها الطريق لذلك الغرب الإستعماري وأمريكا، بمساعدة حفنة من المتآمرين والخونة، من الذين باعوا كرامتهم وعروبتهم بالرٌخيص.
وكانت"الجزيرة" في مركز الحصار على قطاع غزٌة الصامد، تظهر الجريمة كما هي، الجريمة التي ترتكب بحق أكثر من مليون ونصف عربي- فلسطيني- مسلم، أمام مرأى ومسمع العالم كلٌه، بكلٌ قاطنيه وكلٌ حاكميه، وفي المقدٌمة منهم العرب والمسلمين، حكٌاماً ورعايا، وكان نقص الأدوية ومايزال، نقص الدم ومايزال، صور المفترشين العراء إلى جانب بيوتهم المدمٌرة في خيام لاتقي من البرد والمطر.. كلٌ ذلك كانت تعايشه "الجزيرة" ونعيش معه، نتألٌم، تتقطٌع قلوبنا، نقيم الندوات، نخرج إلى التظاهرات، نحاول أن نفعل شيئاً في عالم أريد له بأن يكون مزرعةً أمريكيٌة، صهيونيٌة وأوربيٌة غربيٌة، وكان العرب، حكٌاما غائبين أو مغيٌبين، يندٌدون من بعيد، ينطبق عليهم مثل القرود الثلاثة" التي لاترى ولاتسمع ولاتتكلٌم".
ولمٌا بدأت ثورة تونس كانت "الجزيرة" هناك أيضاً في مركز الحدث، تواكبه لحظة بلحظة، تعرض الجموع الثائرة على جلاٌديها، شباباً وشيباً،التي خرجت لتملأ الشوارع والساحات في العاصمة تونس وكذا في كلٌ المدن التونسيٌة، التي اجتمعت كلٌها في موعد مهيب مع الثورة على الحكم الفاسد، الذي سقط في نهاية المطاف أمام إصرار الشعب على إسقاطه وهزيمته. في مصر لم تختلف الصورة كثيراً عمٌا حصل في تونس، ودور"الجزيرة" كان كما في تونس رائداً في مهنيٌة معايشة، نقل، وبث الخبر الذي كان له الصدى الكبير والمؤثٌر على الشعب المصري وكلٌ الشعوب العربيٌة، ولأن مصر بحجمها وتأثيرها "إذا تغيٌرت غيٌرت"، كان مايحدث فيها يحرٌك مشاعر جميع العرب، التوٌاقين جميعاً للحريٌة والكرامة. وانتصرت الثورة المصريٌة، فارضة على النظام البائد التقوقع والرحيل، مهيٌئةً الظروف لأوٌل مرٌة منذ أربعة عقود لانتخابات حرٌة ونزيهة، يختار فيها الشعب ممثليه ورئيسه، كأساس لبلورة السياسات المنطلقة من آمال، أماني وتطلٌعات كلٌ أطياف المجتمع.
عندما انطلقت الشرارة في ليبيا، كنت من الذين تعاطفوا ولاأزال مع تطلٌعات الشعب الليبي التوٌاق كغيره من الشعوب العربيٌة للحريٌة والحياة الكريمة، ولكن التسلسل المتسارع في تحرٌك الجامعة العربيٌة، التي وبناءً على ضخ إعلامي غير مسبوق "للجزيرة" و"العربيٌة"، اتٌخذت قرار تجميد عضويٌة ليبيا فيها، بناءً على طلب محميٌات الخليج، ولم تمضي على بداية الأحداث في ليبيا سوى أيٌام قليلة، مترافقاً ذلك مع مطالبات زعماء الغرب للقذٌافي بالتٌنحٌي، مع الحرب الإعلاميٌة الغير مسبوقة وعلى مدار السٌاعة والتي كان يعتريها التضخيم والدبلجة، كلٌ هذا كان ينذر بالأعظم، القادم، وحتٌى طلبات النظام الليبي للجامعة والأمم المتٌحدة بإرسال لجان تقصُي حقائق، كانت لاتعار بأيٌ اهتمام، وكأنٌ الموضوع كان قد حسم سابقاً، والآن وقت التطبيق!.
أخذت"الجزيرة" على عاتقها مهمٌة تجييش الرأي العربي والدولي ضدٌ النظام الليبي، عبر سياسة الإعلام التحريضي والموجٌه، فكانت الصور المنقولة والمفبركة في كثير من الأحيان، عن المجازر التي ترتكب بحقٌ المدنيٌين العزٌل تقشعرٌ لها الأبدان، تضع النظام الليبي في مرتبة النازيٌين والفاشيٌين، في حقٌ شعبه، أو حتٌى أشدٌ، وكانت قطر ومعها محميٌات الخليج "المتباكين" الأساسيٌين على الشعب الليبي وما يتعرٌض له من مجازر على أيدي النظام(للتذكير- في عام 2009 تعرض الشعب الفلسطيني لأبشع اعتداء صهيوني، استخدمت فيه كلٌ آلة الحرب الإجراميٌة، والأسلحة والقنابل المحرٌمة دوليٌاً، من ضمنها الفوسفور الأبيض، كلٌ ذلك كان حقيقة مئة بالمئة، مع نقل"الجزيرة" له على الهواء مباشرةً، دون فبركة ودون تضخيم، صور الأطفال المتفحٌمين بالفوسفور، صور المدارس والمستشفيات المدمٌرة، صور الأمٌهات الجرحى، صور الدمار الذي ملئ غزٌة، ولاأحد!!!، لم تعقد الجامعة"العربيٌة" (ولم يهرول شيوخ محميٌات الخليج فيها)ولم تدعو لأيٌ اجتماع لإنقاد غزٌة، بأطفالها وشيوخها ونسائها، ولم تطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لمعاقبة الكيان الصهيوني، فمن أين هذه الحميٌة إذاً على الشعب الليبي، لو لم تكون هناك أجندات غربيٌة يفوح منها النفط؟).
في سوريا يتكرٌر المشهد نفسه، وكما في ليبيا تطالعنا"الجزيرة" عن المجازر اليوميٌة التي يرتكبها النظام، وعن التظاهرات النهاريٌة والليليٌة المطالبة بإسقاطه، وعن القتلى والجرحى والمفقودين على يد أمنه وجيشه، مراسلي القناة شهود عيان وتنسيقيٌات وجمعيٌات حقوق إنسان وغيرها، والهدف، واضح من هرولة الجامعة"العربيٌة"بمحميٌات خليجها، لعقد الإجتماعات الإستثنائيٌة الهادفة إلى "حماية المدنيٌين" السوريٌين، أنٌ المطلوب هو إيصال الموضوع السوري إلى مجلس الأمن واتٌخاذ نفس التدابير، التي اتٌخذت بحقٌ ليبيا. في الحالتين، الليبيٌة والسوريٌة، قزٌمت"الجزيرة" نفسها واقتربت من حجم قناة قطريٌة فقط،، تأتمر بصانعيها وتنفٌذ مايمليه عليها أولي الأمر، حتٌى ولو مثٌل ذلك إنقلاباً على المهنة وأصولها في الأمانة والموضوعيٌة وشرف الإعلام.
من قلم : د. محمود لطيف البطل