منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الرد على شبهات الخوارج في ‏النصيحة العلنية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-12-06, 23:47   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
جمال البليدي
عضو محترف
 
الصورة الرمزية جمال البليدي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

قواعد مهمة في نصيحة ولاة الأمور:


القاعدة الأولى:وجوب النصيحة لأئمة المسلمين ومعناها:
قال ابن عبد البر-رحمه الله تعالى في الاستذكار-((وأما مناصحة ولاة الأمر، فلم يختلف العلماء في وجوبها)ا.هـ
ويدل لذلك أدلة كثيرة ومنها: ما روى مسلم في صحيحه عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ). وفي رواية في السنن- قالها ثلاثًا- قُلْنَا: لِمَنْ ؟ قَالَ: (للَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ).
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ:قَامَ رَسُولُ اللَّهِ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى فَقَال: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ) رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
ومعنى النصيحة لأئمة المسلمين كما نقل النووي-رحمه الله- عن الخطابي وغيره من العلماء بقوله(( وَأَمَّا النَّصِيحَة لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمُعَاوَنَتهمْ عَلَى الْحَقّ، وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَأَمْرُهُمْ بِهِ، وَتَنْبِيههمْ وَتَذْكِيرهمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ،وَإِعْلَامهمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغهُمْ مِنْ حُقُوق الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْك الْخُرُوج عَلَيْهِمْ، وَتَأَلُّف قُلُوب النَّاس لِطَاعَتِهِمْ.))
قَالَ الْخَطَّابِيُّ-رَحِمَهُ اللَّه-:((وَمِنْ النَّصِيحَة لَهُمْ الصَّلَاة خَلْفهمْ، وَالْجِهَاد مَعَهُمْ، وَأَدَاء الصَّدَقَات إِلَيْهِمْ، وَتَرْك الْخُرُوج بِالسَّيْفِ عَلَيْهِمْ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ سُوءُ عِشْرَة، وَأَنْ لَا يُغَرُّوا بِالثَّنَاءِ الْكَاذِب عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُدْعَى لَهُمْ بِالصَّلَاحِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاء وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَقُوم بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَاب الْوِلَايَاتِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور) ا.هـ من شرح مسلم.
وقال ابن رجب الحنبلي-رحمه الله في جامع العلوم والحكم- عند شرحه حديث تميم الداري: (الدين النصيحة)قال: (وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهة افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعة الله) إلى أن قال -رحمه الله-: (معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به وتنبيههم في رفق ولطف ومجانبة الوثوب عليهم والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك) ا.هـ

القاعدة الثانية: الفرق بين نصيحة ولاة الأمور وبين نصيحة عامة المسلمين.
النصيحة لولي أمر المسلمين تختلف عن النصيحة لعامة المسلمين، وذلك بنص حديث تميم المتقدم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وجوب النصيحة: (لأئمة المسلمين وعامتهم) ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين نصح الولاة وبين نصح عامة المسلمين.
ومن الأدلة التي تقرر الفرق بين نصح ولاة الأمور وبين نصح عامة المسلمين ما رواه البخاري ومسلم عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه حين قِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فَقَال: (أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ...)
قال القاضي عياض -رحمه الله كما في فتح الباري لابن حجر رحمه الله-: (مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به، وينصحه سراً فذلك أجدر بالقبول ) ا.هـ.
وقال القرطبي–رحمه الله في المفهم شرح صحيح مسلم-: (يعني أنه كان يتجنب كلامه بحضرة الناس، ويكلمه إذا خلا به، وهكذا يجب أن يعاتب الكبراء والرؤساء، يعظمون في الملأ، إبقاءً لحرمتهم، وينصحون في الخلاء أداء لما يجب من نصحهم.. وقوله : "لقد كلمته فيما بيني وبينه.." يعني أنه كلمه مشافهةً، كلاماً لطيفاً، لأنه أتقى ما يكون عن المجاهرة بالإنكار والقيام على الأئمة، لعظيم ما يطرأ بسبب ذلك من الفتن والمفاسد" ا.هـ.
وقال الألباني -رحمه الله في تعليقه على مختصر صحيح مسلم-: (يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ، لأن في الإنكار جهاراً ما يُخشى عاقبته كما اتفق في الإنكار على عثمان جهاراً إذ نشأ عنه قتله) ا.هـ.

ومن الأدلة على الفرق بين نصيحة الوالي ونصيحة عامة الناس ما أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن سعيد بن جبير قال: (قلت لابن عباس: آمر إمامي بالمعروف؟ قال ابن عباس: إن كنت فاعلاً ففيما بينك وبينه، ولا تغتب إمامك).
وهذا الأثر الثابت عن ابن عباس صريح في كيفية نصح الولاة وعدم غيبتهم، وأن الكلام في الإمام والسلطان عند الناس حال غيبته، من الغيبة المذمومة.
لذلك لا يجوز لأحد أن يستدل بالأدلة التي فيها جواز غيبة عامة الناس في بعض الصور، على جواز غيبة الإمام والسلطان، فإن الإمام والسلطان يختلف التعامل معهم عن عامة الناس، فهذا ابن عباس ينهى عن غيبة الإمام وإن كان واقعاً في شيء من المنكرات.
ومن الأدلة على الفرق في التعامل ومنه النصيحة بين أئمة المسلمين وعامتهم ما رواه مسلم في صحيحه عن حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ، قَالَ قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ: (تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ).
وهذا الصبر على جور السلطان وأذاه لا يجب لغيره من العامة فدل ذلك على الفرق بين نصيحة أئمة المسلمين وبين نصيحة عامتهم.
ومن الأدلة على الفرق في التعامل ومنه النصيحة بين أئمة المسلمين وعامتهم ما نقل ابن بطال -رحمه الله في شرحه للبخاري- قال:قال ابن المنذر: والذي عليه عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله إذا أريد ظلمًا، لقوله عليه السلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد) ، ولم يخص وقتًا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان، فإن كل من نحفظ عنهم من علماء الحديث كالمجمعين على أن كل من لم يمكنه أن يدفع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته ألا يفعل للآثار التي جاءت عن النبي - عليه السلام - بالأمر بالصبر على ما يكون منه من الجور والظلم، وترك القيام عليهم ما أقاموا الصلاة.)ا.هـ.
فانظر كيف أن دفع الصائل من عامة الناس مشروع، وأما إن كان الصائل عليك هو السلطان فلا يجوز مدافعته بالقوة، بل الواجب الصبر، والدعاء.
قال ابن النحاس -رحمه الله في تنبيه الغافلين-: ( ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام على رؤوس الأشهاد، بل يُوَدُ لو كلمه سراً، ونصحه خفية من غير ثالث لهما ) ا.هـ.
وقال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله في "الرياض الناضرة" : ( وأما النصيحة لأئمة المسلمين، وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير، إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة، فهؤلاء لما كانت مهماتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم، وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم، وذلك باعتقاد إمامتهم والاعتراف بولايتهم، ووجوب طاعتهم بالمعروف، وعدم الخروج عليهم، وحث الرعية على طاعتهم ولزوم أمرهم الذي لا يخالف أمر الله ورسوله، وبذل ما يستطيع الإنسان من نصيحتهم، وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم، كل أحد بحسب حاله، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق، فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم، واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم، فإن في ذلك شراً وضرراً وفساداً كبيراً فمن نصيحتهم الحذر والتحذير من ذلك، وعلى من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سراً لا علناً بلطف وعبارة تليق بالمقام ويحصل بها المقصود، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد، وبالأخص ولاة الأمور، فإن تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصدق والإخلاص.
واحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم : إني نصحتهم وقلت وقلت، فإن هذا عنوان الرياء، وعلامة ضعف الإخلاص، وفيه أضرار أخر معروفة )
ا.هـ.
القاعدة الثالثة: حكم الإنكار العلني على الولاة، وضابطه.
تقدم معنا أن الأصل في نصيحة ولي الأمر أن تكون في السر، كما ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة المتقدمة عن أسامة بن زيد، وابن عباس، وغيرهما، لكن ثبت عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الإنكار على ولاة الأمور علناً، ومنهم:
الأول: أبو سعيد الخدري ، فقد خرج البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أبى سعيد الخدري: (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له غيرتم والله. فقال مروان: أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم).
الثاني: عمارة بن رؤيبة -رضي الله عنه- فقد رأى بشرَ بن مروان -وكان والياً- على المنبر رافعاً يديه، فقال: (قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا. وأشار بإصبعه المسبحة) أخرجه مسلم.
قال ابن القيم -رحمه الله في إعلام الموقعين-: (قال عبادة بن الصامت وغيره: بايعنا رسول الله على أن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في الله لومة لائم، ونحن نشهد بالله أنهم وفوا بهذه البيعة، وقالوا بالحق وصدعوا به، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يكتموا شيئاً منه مخافة سوط ولا عصا ولا أمير ولا وال، كما هو معلوم لمن تأمله من هديهم وسيرتهم، فقد أنكر أبو سعيد على مروان وهو أمير على المدينة، وأنكر عبادة بن الصامت على معاوية وهو خليفة، وأنكر ابن عمر على الحجاج مع سطوته وبأسه، وأنكر على عمرو بن سعيد وهو أمير على المدينة، وهذا كثير جداً من إنكارهم على الأمراء والولاة إذا خرجوا عن العدل).ا.هـ
قال ابن حجر -في الفتح بعد شرحه لحديث أبي سعيد المتقدم-: (فيه إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة) .ا.هـ
وقال العيني -في شرحه لصحيح البخاري- : (فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان المنكرُ عليه والياً ألا ترى أن أبا سعيد كيف أنكر على مروان وهو والٍ بالمدينة).ا.هـ

وأما الضابط لذلك الإنكار العلني على الولاة: فقد بينته السنة، وفعل الصحابة السابق، وطريقة السلف الصالح، فقد روى أحمد وغيره من حديث أبي سعيد الخدري وأبي أُمامة وطارق بن شهاب رضي الله عنهم وصححه النووي والألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر). فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنكار على السلطان الجائر يكون عنده وفي حال حضوره.
كما أن الإنكار المتقدم من الصحابة رضي الله عنهم على ولاتهم راعوا فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وهو أن يكون في حضرة ولي الأمر كما وقع من أبي سعيد مع مروان، وكما وقع من عمارة مع بشر، وغيرهما.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله في لقاء الباب المفتوح اللقاء الثاني والستون- في بيان هذا الضابط المهم: (إن إنكار المنكرات الشائعة مطلوب ولا شيء في ذلك، ولكن كلامنا على الإنكار على الحاكم مثل أن يقوم إنسان في المسجد ويقول مثلاً: الدولة ظلمت، الدولة فعلت، فيتكلم في الحكام بهذه الصورة العلنية، مع أن الذي يتكلم عليهم غير موجودين في المجلس، وهناك فرق بين أن يكون الأمير أو الحاكم الذي تريد أن تتكلم عليه بين يديك وبين أن يكون غائباً، لأن جميع الإنكارات الواردة عن السلف كانت حاصلة بين يدي الأمير أو الحاكم.
الفرق أنه إذا كان حاضراً أمكنه أن يدافع عن نفسه، ويبين وجهة نظره، وقد يكون مصيباً ونحن المخطئون، لكن إذا كان غائباً لم يستطع أن يدافع عن نفسه وهذا من الظلم، فالواجب أن لا يتكلم على أحدٍ من ولاة الأمور في غيبته، فإذا كنت حريصاً على الخير فاذهب إليه وقابله وانصحه بينك وبينه
) ا.هـ.
القاعدة الرابعة : الفرق بين الإنكار العلني على ولاة الأمور بحضرتهم، وبين ذكر أخطائهم ومنكراتهم حال غيبتهم.

الإنكار المتقدم من الصحابة رضي الله عنهم على ولاتهم راعوا فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر). فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنكار على السلطان الجائر يكون عنده وفي حال حضوره، لا من ورائه وحال غيبته كما يفعل ذلك كثير من المنسوبين للدعوة والحسبة بزعم الإصلاح والشجاعة في قول الحق، وكثير منهم يستدل على ذلك بالأحاديث المتقدمة التي فيها الإنكار العلني على الوالي في حضرته، وذلك بسبب خطئهم في فهم تلك الأدلة، فلم يفرقوا بين الإنكار علانية عند السلطان الجائر، الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه، وبين الغيبة المذمومة لولاة الأمر التي نهى الله ورسوله عنها فهذه الطريقة في الإنكار على الولاة: أعني ذكرَ ظلمهم أو ذنوبهم أو أخطائهم على رؤوس الملأ، طريقة محرمة، دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن ذلك:
قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).
قال ابن كثير -رحمه الله في تفسيره- قوله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: (قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).ا.هـ(رواه مسلم)
فنهى الله عز و جل و رسوله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة و لا شك أن الكلام في و لي الأمر حال غيبته من الغيبة إن كان حقاً فإن كان كذباً فهو بهتان.
ومما يدل على تحريم ذلك ما أخرج مسلم في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ : الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ) ولا شك أن هذه الصورة تدخل في القالة بين الناس لما يترتب عليها من الفتنة والبلبلة وإيغار الصدور على ولاة الأمور.
ومما يدل على تحريم غيبة الولاة بخصوصها ما أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن سعيد بن جبير قال: (قلت لابن عباس: آمر إمامي بالمعروف؟ قال ابن عباس: إن كنت فاعلاً ففيما بينك وبينه، ولا تغتب إمامك).
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: (غيبة العلماء ليست كغيبة عامة الناس لأنّ العلماء لهم من الفضل والتقدير والاحترام ما يليق بحالهم ولأن غيبة العلماء تؤدي إلى احتقارهم وسقوطهم من أعين الناس وبالتالي إلى احتقار ما يقولون من شريعة الله وعدم اعتبارها وحينئذ تضيع الشريعة بسبب غِيبة العلماء ويلجأ الناس إلى جهالٍ يفتون بغير علم، وكذلك غيبة الأمراء وولاة الأمور الذين جعل الله لهم الولاية على الخلق فإن غيبتهم تتضاعف لأن غيبتهم توجب احتقارهم عند الناس وسقوط هيبتهم وإذا سقطت هيبة السلطان فسدت البلدان وحلت الفوضى والفتن والشر والفساد ولو كان هذا الذي يغتاب ولاة الأمور بقصد الإصلاح فإن ما يفسد أكثر مما يصلح، وما يترتب على غيبته لولاة الأمور أعظم من ذنب ارتكبوه لأنه كلما هان شأن السلطان في قلوب الناس تمردوا عليه ولم يعبأوا بمخالفته ولا بمنابذته وهذا بلا شك ليس إصلاحاً بل هو إفساد وزعزعة للأمن ونشر للفوضى).ا.هـ
ومن الأدلة على تحريم هذه الطريقة، أنها تؤدي إلى الخروج على ولي الأمر، فلا يمكن أن يحصل الخروج على ولي الأمر إلا إذا سبقه الطعن فيه بذكر مساويه، وأخطائه، ومنكراته، وفي تاريخ الرسل لابن جرير قال عبد الله بن سبأ اليهودي : (ابدءوا فِي الطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ تستميلوا الناس، وادعوهم إلَى هذا الأمر. -أي للخروج على الولاة-
).ا.هـ
وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن عبدالله بن عكيم رضي الله عنه أنه قال: (لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان. فقيل له : يا أبا معبد أو أعنت على دمه؟ فيقول : إني أعد ذكر مساويه عوناً على دمه).
فانظر كيف عد عبدالله بن عكيم ذكر مساوي الوالي إعانةً على قتله، وذنباً أعلن رضي الله عنه توبته منه وعدم رجوعه إليه.
فما كان خروج قط ولا يكون إلا إن كانت هذه الأمور مبادئه، وكل حركات الخروج عبر التاريخ إنما بدأت بعيب الحاكم، والحط عليه لمنكرات وقع فيها، أو لجور حصل منه واستئثار بالدنيا، ثم آلت الأمور إلى الخروج وسفك الدماء، وأما محاولة التفريق بين تأليب العامة وحشد الناس لمنكر وقع، أو ظلم حصل وبين الخروج بالسيف والقتال فهذا من الأوهام الكبيرة، فإن أّول الخروج القيام على السلطان باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وباسم رفع الظلم والمطالبة بالحقوق، ومن أشهرها قصة مقتل عثمان رضي الله عنه، وخروج الخوارج على علي رضي الله عنه، وفتنة ابن الأشعث، وغير ذلك من الحركات والثورات التي قد سطر التاريخ ويلاتها.
جاء في "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" رسالة للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ و الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، والشيخ عمر بن محمد بن سليم، رحمهم الله جميعاً قولهم : (وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها : مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح، وأئمة الدين ) ا.هـ.
وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله في مجموع فتاواه-: (ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر، لأن ذلك يفضي إلى الفوضى، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير. وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل، فينكر الزنا وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها لا حاكم و لا غير حاكم. ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه ألا تنكر على عثمان؟ قال : لا أنكر عليه عند الناس؟! لكن أنكر عليه بيني وبينه، ولا أفتح باب شرٍ على الناس.
ولما فتحوا الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين عليٍ ومعاوية، وَقُتِلَ عثمان وعلي بأسباب ذلك، وقتل جم كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً، حتى أبغض الناس ولي أمرهم وقتلوه نسأل الله العافية
) ا.هـ.
وقال ابن عثيمين -رحمه الله في رسالة بعنوان حقوق الراعي والرعية مستلة من خطب الشيخ-: (ومن حقوق الرعاة على رعيتهم أن يناصحوهم ويرشدوهم , وأن لا يجعلوا من خطئهم إذا أخطأوا سلما للقدح فيهم ونشر عيوبهم بين الناس، فإن ذلك يوجب التنفير عنهم وكراهتهم وكراهة ما يقومون به من أعمال وإن كان حقاً ويوجب عدم السمع والطاعة لهم).ا.هـ
وقال -رحمه الله في نفس المصدر-: (إن بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمور والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك عمّا لهم من محاسن أو صواب ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد الأمر إلا شدة فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة وإنما يزيد البلاء بلاء ويوجب بغض الولاة وكراهتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها).ا.هـ
فهذا منهج السلف رحمهم الله في نصح ولاة الأمور، فهم لا يسكتون على الأخطاء بل ينصحون، ولكن بالطريقة الشرعية وهي نصح ولي الأمر سراً، أو علناً إذا دعت المصلحة الشرعية لذلك وكان بحضرة الوالي.
ومن الأدلة على تحريم ذلك ما يترتب عليه من تطاول أصحاب المعتقدات الفاسدة والمناهج المنحرفة على ولاة الأمور، بنفس حجة هؤلاء الدعاة، وهي المطالبة بالحقوق المزعومة، لا سيما أن هؤلاء المنسوبين للدعوة يُشرعون المنكر، بمعنى أنهم يجعلون هذا المنكر مشروعاً، فيغرون بذلك السفهاء والعامة على أن يسلكوا مثل سلوكهم، فالرافضة والقبورية والتغريبيون كل فئة من هؤلاء الضالين يزعم أن الحق معه، كما يزعم هؤلاء الدعاة أن الحق معهم، فإذا فتح هؤلاء الدعاة باب التحريض وغيبة السلطان، ولج منه كل مخالف للوصول إلى مآربهم.
ومن الأدلة على تحريم ذلك ما يترتب عليه من إيغار صدور الولاة على أهل الخير والعلم والدعوة، وتطاول أهل الفجور عليهم عند الولاة، حيث يستغل أهل الفجور وبطانة السوء الفرصة ليصوروا أهل العلم والدعوة بصورة المبغض للولاة، والساعي لإسقاطهم، فيقوم الولاة على إثر ذلك بمحاربة العلم الشرعي وأهله، ومحاربة الدعوة والدعاة كما حصل في كثير من بلاد المسلمين.









 


رد مع اقتباس