ـــ مرت علينا أحداثا كثيرة غريبة .
تقول عائشة تتوقف كمن يفكر أو ربما كشارد لا يقدر ان ينسى كلما سُأل عن حياته :
ـــ و لكن اغرب ما اذكر هو عندما ألقى العسكر القبض على عبد القادر مختار فقد كانوا يُكبلونه ليلا و عند قدومهم صباحا يجدونه مفكوك القيود دونا عن أصحابه و تكرر الأمر عدة ليال فأطلق العسكر سراحه فيما بعد و طلبوا منه أن يبقى معهم تبركا به و قالوا هذا مارابو أي رجل مبارك و محفوظ من الأسياد و البسوه لبسهم و سلموه سلاحا كي يعمل معهم لم يقل عبد القادر شيئا و لم يكن يعلم أي شخص فينا إلى يومنا هذا ما إذا كان قد تعاون مع فرنسا حقا أم انه كان يتظاهر بذلك .
فاعتدلت ابنتها بمجلسها :
ـــ لكن ما الذي فعله فجعلك تعتقدين هذا ؟
تعود عائشة لتعديل نظارتها كعادتها و هي تقول :
ـــ أذكر عندما كان يُرسل إلي من القُومية كي اذهب إليهم ؛ كنت أخاف كثيرا بل أرتعب فاذهب و أنا أدعو طول الطريق بأن يحفظني ربي و يسترني فقد كانوا يفعلون بكل امرأة غاب رجلها ما لا يمكنني ذكره لك و لكن فور أن أراه أحس و كأنني رأيت أبًّوي من شدة إحساسي بالأمان و هو أيضا كان فور أن يراني يتظاهر بالغضب أمامهم و يصرخ بوجهي و هو يقول :
ـــ أيتها الغبية من الذي طلب منك الحضور نحن لم نطلبك هيا اغربي عنا لم يكن ينقصنا غيرك هيا اذهبي .
و يدفعني بعيدا عنهم و بذلك لا يقترب أي واحد منهم صوبي ، لقد كان سترا لي بفضل الله و لكن كنا نسمع عن الكثير من النساء كم تعرضن للاعتداء من هؤلاء الكلاب .
كم تعرض الشعب الجزائري للنهب و الاضطهاد و كم أهانته فرنسا ... كم اعتدت على نساءه و كم جهّلت أبناءه و كم قتلت منه ليس مليون و نصف بل الملايين الذين لم يتم تسجيلهم .
فرنسا من يتباهى كل من درس بها أو من أقام فيها و كم سموا عاصمتها بمدينة الملائكة و عالم العطور الراقية .
فرنسا من استحيت نساء و قتّلت أطفالا من قللت احتراما لشعب كان يعيش بنعيم و لكونها لم تكن تقدر على سداد دَينه لجأت لاحتلاله ، أجل فقد كانت مدينة للجزائر بدَين طال أمده و عندما طالبها الباي الجزائري برد الدين تحججت بحادثة المروحة و أنزلت سفنها بسيدي فرج سنة 1830 كي تبدأ رحلة النهب العلني و التقتيل المباح و الحرمان الذي ألقته على شعب لا حول له و لا قوة إلا انه أراد استرجاع ماله الذي أعارها إياه .
فرنسا السارقة فرنسا القاتلة فرنسا من عيّشت شعبا بأسره جهلا دام قرنا و اثنان و ثلاثين سنة ثم ادعت أنها دخلت لتعليمه و إخراجه من الأمية و الجهل ، فلم تكن سرقتها لخيراته كافية بل و منعه من التعلم ؛ أبسط الحقوق لكل إنسان ؛ فجعلت منه شعبا محروما ماديا و علما ، لكن الشعب المحاصر من كل ركن تمكن من التغلب على كل ذلك و تعلم و قاوم و انتصر و لو بعد طول انتظار ، ثم يقال اليوم فرنسا بلد الحقوق و بلد الحرية و بلد التطور و هي من بَنت كل صغير و كبير بباريس و غيرها من خيرات الجزائر فكم حمّلت من خيرات هذا البلد الثمين و قطعت البحر لتُعمر بلدها فكل ما يوجد بباريس هو من الجزائر و كل ما يوجد بفرنسا هو من الجزائر .
لم يكن بإمكان أي شخص أن يبيت عند أقاربه أو حتى جاره إلا بتصريح من العسكر فلو تمر دورية الليل و يجدون بالبيت أحدا زيادة عن العدد المسجل لديهم فإنهم يفتحون تحقيقا طويلا و شديدا لمعرفة سبب وجوده هنا ، أما إذا أراد احدهم الذهاب إلى احد أقاربه بقرية أخرى فعليه طلب تصريح مسبق و أن يحدد الأيام التي سيقضيها هناك و يُنظر فيما بعد بأمره و إذا وافقوا فعليه أن يكمل كل الأيام التي طلبها لأنه إذا عاد قبل موعده فيُفتح تحقيقا آخر ليذكر سبب سرعة عودته و تغييره لبرنامجه و ذلك لشدة شكوكهم بكل ما كان يحدث من صغيرة و كبيرة ؛ مثلما كان يقام تحقيقا للتعريف عن سبب الزيارة فلم يكن يحق للجزائري التحرك و لو شبرا بأرضه إلا بتصريح من العسكر الفرنسي عسكر بلد الحرية و التطور و الانفتاح .
لذلك كان عندما يشتد الجوع على عائشة و أبناءها تجد صعوبة في طلب التصريح للذهاب إلى أحد أقاربها في الوقت الذي كان أبا القاسم يتنقل مع الجنود من جبل إلى آخر و أحيانا من مدينة إلى أخرى لخوض المعارك فقد كان هو يسعى لنيل حرية الشعب و تسعى عائشة لسد ثغرة غيابه بشتى الطرق بالرغم من أن مريم والدته لم تكن تتركهم فقد كانت مسؤولة عليهم بغياب ولدها و لكن ما عساها أن تفعل أكثر .