منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - رواية
الموضوع: رواية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-02-22, 22:16   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
close friend
عضو جديد
 
إحصائية العضو










Flower2 تكملة للرواية

ذكــريـــات
ـــ ما قصة الغوايش التي كانت لديك يا أمي ؟
لم تكن عائشة تأخذ مهلة من الوقت كي تتذكر أو تتساءل كيف ستتحدث إذا سُألت عن حياتها فقد كانت كل لحظة تعبت فيها في حقبة الاستعمار لا تزال راسخة بذهنها و لذا مباشرة قالت :
ـــ الغوايش نعم ؛ بعد مرض أختك حورية كان خلخال عرسي هو آخر ما تبقى لي من زينة فقد أهلكنا الفقر ، لكن كان علي العمل لكسب لقيمات لأختك فاطمة و حورية فلم يكن محمد قد وُلد بعد و أيضا جدتكم يرحمها الله فبرغم طبعها الحاد الذي سببه كل ما رسمته لها الحياة من لوحات فنية باهتة الألوان و قاتمة لا تبعث على الزهو و الفرح كانت لي خير ونيس أثناء غياب والدكم و سندي الوحيد .
فتُقاطعها ابنتها :
ـــ لماذا لا تقولين غياب أبا القاسم أتخجلين من ذكر اسمه أمامنا ؟
تبتسم بلطف :
ـــ هذا ما عودتني عليه جدتكم مريم يرحمها الله فلم يكن مسموحا للمرأة أن تنطق اسم زوجها احتراما لأهله و له فكان عليها الحياء حتى بالاسم .
تغير الفتاة وضعية جلوسها و هي تقول كمن يعترض :
ـــ عذرا يا أمي و لكنني أراه غباء فلست أفهم ما دخل الحياء بالاسم فلماذا يحمل كل إنسان اسما إذن ؟
تُحرك عائشة إطار نظاراتها الطبية من جديد و هي تقول لها :
ـــ عيب عليك يا ابنتي فلم يكن أجدادك أغبياء و لكن شدة احترامهم للرجل و تعليمهم للمرأة على أن تحترم زوجها هو من جعلهم يتعودون على ذلك .... أه .. لكن من يهتم الآن فالمرأة ليس فقط تناديه باسمه أمام أهله و إنما أيضا تصرخ بوجهه و الله يحفظنا فقد تقول له أنت تكذب في حالة ما إذا كان يتحدث بإحدى المواضيع و بالغ .
ـــ ههههه و أنت طبعا لم تفعلي أبدا هذا مع والدي .
ـــ أعوذ بالله عيب يا ابنتي عيب .
ـــ اعلم يا أمي .. فأنت حتى بعد رحيل جدتي لازلت لا تنطقين اسمه أمامنا فكيف أن تصرخي بوجهه و إذا بالغ في الحديث تقولين ربما اخطأ .
ـــ و هذا ما يجب أن يكون .
ـــ و لكن لم تخبريني كيف تحصلت على المال ؟
ــ اذهبي و القي نظرة على القدر فقد يحترق .
تقوم ابنتها مسرعة إلى المطبخ و هي تقول قبل دخوله :
ـــ طبعا و إلا غضب أبا القاسم إذا احترقت الأكلة أو أقول السي بلقاسم ....
ثم عادت بعده مباشرة لتستلقي بجنب والدتها على السرير :
ـــ إه ... أمي كيف اشتريت الغوايش ؟
ـــ من صناعتي للغربال ، كنت أطعم من هذه الحرفة إخوتك إذا أعطوني قمحا مقابل ذلك و لكن لا أعلم كيف تمكنت من شراء الغوايش التي كانت من فضة و تصدقت بها يوم الاستقلال لبناء البلد مثلما طُلب منا .
كان الخلخال نوعا من الزينة التي تضعها العروس برجلها كي يُحدث صوتا و هي تمشي و كان يُعد من الفضة و لكن عندما مرضت حورية كثيرا اضطرت عائشة لبيعه كي تعالجها فلم يكن يبقى عند عائشة شيئا تبيعه غيره ، كان عزيزا عليها كثيرا و لكن معزة ابنتها أغلى، حورية الطفلة الثانية لها من أبي القاسم ، كانت بالرابعة من العمر فتاة شديدة الشبه بأمها غير أن لون بشرتها تميل إلى الاسمرار قليلا فكان هذا يزيدها جمالا فقد كانت بشرتها أكثر صفاء وكما هو حال أغلبية من أنعم الله عليهم ببشرة سمراء رومانسية ؛ أجل فقد كان دوما أصحاب البشرة السمراء نساء وحتى شبابا الأكثر تغزلا بهم ؛ و رموشا طويلة غزيرة و لكن هذه الفتاة الكثيرة التعلق بوالدها لم تكن تعي ما يحدث لذا لم تعرف قيمة هذا الخلخال عند والدتها إلا عندما كبرت و أخبرت أبناءها عنه و هي في الأربعين من عمرها تُخبرهم عن بعض ما تذكره من طفولتها القاسية و أنهم يعيشون نعيما الآن بظل الاستقلال بعكس ما عانته ؛ فعليهم حمد الله عليه كل حين .
كانت عائشة تقوم بصنع الغربال للنساء و لا تتقاضى عليه أجرا بل كمية من القمح تصنع منه خبزا لأولادها و بعد فترة رُزقت بولد آخر أسمته محمد فقد كان معروفا عندهم انه أول مولود من البنات تُسمى فاطمة أو فاطمة الزهراء و أول مولود من الذكور يُسمى محمد أو أحمد و لأنه على اسم عمه محمد الشهيد فكان محمد بعد بنتين جميلتين عاشتا فقرا قاسيا مع أمهما التي لم تكن تحب ذكر حالتهم عند زيارتها لوالديها؛ فقد كانت عائشة فور وصولها عند أهلها تسأل عن أحوالهم أكثر مما تشتكي من ضيق الحال بحياتها لكن ميلود الوالد الذي تجاوز الثمانين يُحس بابنته فيطيل السؤال عنهم و تستمر هي في شكر الله و حمده ؛ ربما أكثر ما كانت تشكو منه هو شدة شقاوة ابنتها فاطمة لكونها لا تسكت أبدا ليلا و نهارا فاطمة فتاة شديدة البياض و شعر أشقر كوالدتها ذات انف طويل ربما شبها بوالدها و حاجبين رقيقين مرسومين كالهلال و عمره يومين .
ـــ لقد أتعبتني يا والدي إنها لا تتوقف عن البكاء و هي بين ذراعي و هي بفراشها ... ليلا و نهارا إنها حقا شقية .
بعد تناولهم للعشاء تُطعم عائشة فاطمة حليبا من صنع رباني و ذلك من ثديها و تظل الطفلة هادئة فيُلفت هذا انتباه الوالد :
ـــ الم تكوني تقولين أنها شقية و لا تسكت ؟
تمد عائشة يدها إلى فاطمة لتلف اللحاف عليها و هي تقول :
ـــ أجل عندما أكون ببيتي لا تسكت و لكن عندما آتي إليكم لا أعلم لماذا تصبح هادئة كما ترى .
فتفطّن الوالد لما يحدث و قال لها :
ـــ ألهذا الحد أنتم فقراء يا ابنتي ؟
فتخشى عائشة أن يعلم والدها بالأمر و يقلق عليها فتُسرع بالقول :
ـــ لا يا والدي نحن بخير و الحمد لله .
كانت حقيقة الأمر أنها حقا تعيش فقرا شديدا فلم يكن أبا القاسم رجلا ذا مال فقد توفي والدهم و هم صغار و تكفلت أمهم مريم بهم و لم يكن لها عائل ؛ فمن أين لهم بالمال ، حتى الإرث الكبير الذي كان من نصيبهم ضاع بين الأعمام فلم يكن له و لإخوته أي نصيب .
كانت فاطمة ببيت أبيها يشتد عليها الجوع كون أمها لا تأكل فمن أين تصنع لها حليبا تسقيها إياه من ثديها و لذا لا تتوقف عن الصراخ جوعا و ليس شقاوة في حين عندما تتواجد ببيت جدها و تأكل عائشة و تشبع فيمكنها بذلك أن تُدر بالحليب الذي يشبع الصغيرة فتبقى هادئة هانئة ، لكن عائشة كعادتها شدة احترامها لوالدها و خوفها من أن يقلق عليها جعلاها تكتم الأمر عنه فهي ترى أنه يكفيه أن يتكفل بشراء الأقمشة لها لتصنع منها ألبسة و بعضا من الألبسة و هي عائدة إلى بيت زوجها فلم يكن هو الآخر غنيا و لكن كانت تُطرح البركة بماله كثيرا اعتقادا منها .
ميلود رجل شديد الاحترام من الناس فلا يقام شيء بمنطقتهم إلا بحضرته كان يقول الشعر الملحون و هذا أول ما ورثته عنه عائشة ابنته (التي كانت تقوله من حين لآخر بكل مناسبة تحدث خاصة المناسبات التي كانت تتألم فيها فتخرج منها أبياتا تنفس بها عن ما بداخلها ) توفى كل إخوته قبله فتكفل بكل الأيتام الذين تركوهم من أولاد و أحفاد ، عاش طويلا إلى أن تجاوز السنة الخامسة بعد المائة .
عاش طويلا و لم يكن له غير بنتين شريفة و عائشة و أتى بعدهما احمد .
كما كان يُلقب بالمقدم لأن كل القوم كانوا يقدمونه بكل أمر كان إما أمرا يخصهم ببيوتهم أو أمرا عاما بين الناس لحكمته و فراسته .
كان لميلود من زوجته الأولى المتوفاة ولد واحد و لكن لم تنس عائشة يوم كانت صغيرة جدا و قد أمرت فرنسا بأخذ شباب الجزائر للمشاركة بالحرب العالمية الثانية و لم يكن وقتها لميلود إلا هذا الولد الذي كان يكنى بمحمد و هو لا يرغب بمساعدته للاستعمار الذي وعد كذبا أنه :
ــــ بعد مشاركتكم لنا بهذه الحرب ضد النازية سنمنحكم الاستقلال .
ميلود الرجل الحكيم الذي رفض و ادعى فقدان البصر من سنوات من قبل عندما كانت فرنسا تجبر الشباب الجزائري للتجنيد فقال أنه لا يملك إلا هذا الولد فمن سيهتم به و هو الكفيف الأعمى ، لكن العسكر الفرنسي كان لئيما فلم يكن يصدق كل ما يقال له من الجزائريين لذا أتوا الجنود الفرنسيين بشمعة و هم يريدون بذلك التأكد من صحة كلامه و قربوها من عينيه فظل ميلود صابرا لا يحرك جفنا مخافة أن يكشفوا أمره إلى ان اقتربت الشمعة من عينيه قربا شديدا فلامست أهدابه فكادت أن تحرقه و هو لا زال يتظاهر بعدم رأيته لها و للهيبها الذي ما كان سيعادل لهيب قلبه إذا فقد ولده لأجل فرنسا و هنا أحس الجنود الفرنسيين أنه صادق لكنهم أخذوه رغم ذلك ؛ فأشعر قائلا عندما كان يشتاق إليه فيلومونه الناس على شوقه هذا قائلين أنه مبالغ فيه فكان من بين ما قال :
خُوتي خُوتي يا الي راكم حُضاروانا ولدي طار من قدامي صد
خلىَّ النيران شاعلة بلا دخـــــــان و الله لحتى اجربوها بالواحد
أي أنه سيجرب كل واحد فيكم هذا الإحساس الذي أشعر به الآن و تلومونني عليه و لن يكون ذلك إلا يوم يكبر أولادكم فتجبرهم الحكومة الفرنسية أيضا على الالتحاق بجيشها للتجنيد .
ثم كان كلما يرى الجمع من أخواله الملقبين بالأشواف و أقاربه مجتمعون عدى ولده الذي يفتقد بقوة فكان يقول :
ما اعظم يوم الخميس يا ذوك الخُطار و الدنيا جاية ارْدافـــو تــشاهد
احسبناهم قع جاوا فلان و فلان و مـن الأشواف كاملين قعــد واحــد .
سيدي قدور ياااه يا مول الــــــبــرهانو يا مول الزاوية ألي ثم تعبد
عاوني في النصارى و الكــــفــــــــار يهديهم ربي ايجيني مــــحـمد .
كان ميلود محقا في ما اعتقده فلم تكن فرنسا إلا ناقضة للوعود مثل عادتها فقد كان ردها على مساعدة الجزائريين بحربها ضد النازية هدية غير متوقعة فكانت مجازر قالمة و خراطة ؛ حيث أبادت 45000 امرأة و طفلا و شابا و شيخا من المدنيين في أقل من أسبوع بعد انتصار الحلفاء على دول المحور أثناء الحرب العالمية الثانية باليوم الثامن من شهر ماي سنة 1945 م مجازاة لهم على ما قدموه من فلذات أكبادهم بتلك الحرب فكان بهذا ميلود أدرى من من اعتقدوا أن فرنسا ستهبهم الحرية عقب هذا النصر الذي توجته بمجازر لجثث الأطفال و النساء .
فقال احدهم وقتها لميلود :
ـــ لهذا نحن نلجأ لشيخنا ميلود و نقدمه بكل أمورنا لأنه حكيم ذا بعد نظر و ذا فراسة لما يمكن أن يحدث مستقبلا .









رد مع اقتباس