وكان من جرائم الخلفاء العبيديين؛ أنهم يتخلصون من كل وزير ينادي بفريضة الجهاد، ويرفع لواءه على وجه السرعة، ويظهر ذلك من خلًال الفترة التي حكموا بها.
فهذا الوزير "الأفضل" لما كان متحالفًا مع الصليبيين كان منهم مقربا، ولما بدأ يتحالف مع الدماشقة الأتراك لمواجهة الصليبيين، قاموا باغتياله في عهد الخليفة الآمر.
وهذا الوزير رضوان بن الولخشي؛ كان من أشد الناس تحمسًا للجهاد ضد الصليبيين، حتى أنه أنشأ ديوانًا جديدًا، أطلق عليه اسم "ديوان الجهاد"، وأخذ يطارد الأرمن ويقصيهم من مناصبهم التي تولوها من قبل الرافضة العبيديين، بل إنه ندد بالخليفة الحافظ العبيدي آنذاك على مواقفه المستكينًة تجاه الصليبيين بالشام.
فعمد الخليفة الحافظ إلى تمكين الأرمن والتعاون معهم سرًا، وأخذ يثير طوائف الجيش الفاطمي ضد الوزير "ابن الولخشي"، الأمر الذي أعاق سير حركة الجهاد التي عزم ابن الولخشي على إدارتها، فاضطر إلى الفرار متحيزًا نحو الشمال حيث يوجد أسد من أسود الجهاد،وهوً عماد الدين زنكي، ليستعين به في جهاده ضد الصليبيين.
وهذا الوزير "ابن السلار" السني الشافعي؛ بذل قصارى جهده لمواجهة الصليبيين، وحاول التعاون مع نور الدين والاتصال به ليتمكنوا من مشغالة الإفرنج في جهة، وضربهم في الجهة أخرى، إلا أن الخليفة آنذاك "الظافر"؛ دبر له مؤامرةً، فاغتاله في عام خمس مائة وثمانية وأربعين للهجرة.
وهذا الوزير العادل طلائع بن رزيك؛ الذي ما لبث بعد توليه الوزارة أن رفع راية الجهاد، وجهز الأساطيل والسرايا لمهاجمة الصليبيين، لكنه ما لبث أن قتل قبل أن يحقق حلمه في تحرير بيت المقدس، من قبل مؤامرة دبرها له "شاور السعدي"، الذي كان واليًا على الصعيد في عهد الخلفة العاضد، عام خمس مائة وثمانية وخمسين للهجرة.
ولما خرج أحد قادة الجيش وهو "أبو الأشبًال الضرغام" على "شاور"، وانتزع منه الوزارة وقتل ولده الأكبر "طي بن شاور"، اضطر "شاور" إلى أن يرسل إلى الملك العادل نور الدين محمود زنكي يستجير به، ويطلب منه النجدة على أن يعطيه ثلث خراج مصر، وأن يكون نائبه بها، حيث قال: (أكون نائبك بها وأقنع بما تعين لي من الضياع والباقي لك).
ومع أن نور الدين كان مترددًا في إرسال حملة عسكرية مع "شاور" إلا أنه استخار فأرسل له أكبر قواده "أسد الدين شركوه"، وأرسل معه ابن أخيه صلاح الدين، وأمر بإعادة "شاور" إلى منصبه، واستطاع "أسد الدين" في حملته أن يقضي على "ضرغام"، وأن يعيد الوزارة إلى "شاور" في شهر رجب عام خمس مائة وتسعة وخمسين للهجرة.
ولكن الغدر والخيانة بدت في محيا "شاور"، فأساء معاملة الناس وتنكب عن وعوده المعسولة لنور الدين، وأراد أن يغدر بـ "أسد الدين شركوه" حيث طلب منه الرجوع إلى الشام، دون أن يرسل إليه ما كان قد استقر بينه وبين نور الدين، ولما رفض "أسد الدين" الرجوع إلى الشام؛ أرسل نوابه إلى مدينة "بلبيس" فتسلمها وتحصن بها، فما كان من "شاور" إلا أن يغدر - كما هي عادة الرافضة - فأرسل إلى ملك بيت المقدس الصليبي يستنجده على "شركوه" ويطمعه في ملك مصر إن هم ساعدوه في إخراج "شركوه"، وبالفعل سارع الصليبيون بالتوجه إلى مصر ومن ثم التقوا بـ "شاور" وعساكره حتى توجهوا جميعاً إلى "بلبيس" وحاصروا أسد الدين فيها.
ولكن من رحمة الله تعالى أنه - وأثناء حصارهم لهم - وصلتهم الأنباء بهزيمة الإفرنج على "حارم"، وتملك نور الدين لها، وتقدمه إلى "بانيسا" لأخذها فأصابهم الرعب واضطروا إلى أن يراسلوا أسد الدين المحاصر في "بلبيس" يطلبون منهم الصلح وتسليم ما أخذه سلماً، فاضطر لموافقتهم على ذلك، إذ أن الأقوات قلت عندهم، وعلم عجزه عن مقاومة الفريقين، فصالحهم وخرج من "بلبيس" عام خمسمائة وتسعة وخمسين للهجرة وهوفي غاية القهر.
هذا الأمر وهذه الخيانة من قبل "شاور"، وتحالفه مع الصليبيين؛ جعل الملك الصالح نور الدين محمود، يوجه نظره إلى غزو مصر ثانيةً للقضاء على مصدر الفرقة في العالم الإسلامي ومنبع الخيانة للأمة، ألا وهي الخلافة الفاطمية، بالإضافة إلى رغبته في نشر المذهب السني والقضاء على مذهب الرفض.
فخرجت حملة من "دمشق" في منتصف شهر ربيع الأول من عام خمسمائة واثنين وستين للهجرة بقيادة أسد الدين وابن أخيه صلاح الدين، وكانوا على موعد مع النصر، ومن مقدمات هذا النصر وإرهاصاته أن قذف الله الرعب في قلوب أعداءه من الصليبيين والرافضة المرتدين، وبرغم تحالف "شاور" وقواته مع قوات الصليبيين واستنجاده بهم إلا أنهم قدموا والرجاء يقودهم والخوف يسوقهم.
فبدأت أولى المعارك بين قوات أسد الدين وقوات الصليبيين المتحالفين مع "شاور" في منطقة الصعيد بمكان يعرف باسم "البابين"، فدارت معركة حاسمة انتهت بهزيمة الصليبيين والفاطميين أمام جنود "شركوه"، فكان من أعجب ما يُؤَرخ؛ أن ألفي فارس - عدد أفراد جيش "شركوه" - تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل.
واستمر الكر والفر بين الفريقين، حتى كان من فضل الله تعالى أن بث الله الفرقة والنزاع بين "شاور" والخليفة الفاطمي "العاضد" من جهة، وتنكر الصليبيين للوزير "شاور" من جهة أخرى.
كل ذلك بالإضافة إلى العزم الصادق على جهاد الصليبيين ونشر الدين الإسلامي الصافي على منهج الجماعة الأولى؛ ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أدى بالنهاية إلى انتصار حملة نور الدين بقيادة أسد الدين وابن أخيه صلاح الدين، واستيلائهم على مصر في نهاية المطاف.
ولكن الحقد الرافضي لم ينتهي إلى هذا الحد، بل راح الرافضة يدبرون المؤامرات والمكائد بعد سقوط الدولة العبيدية الفاطمية للتخلص من أسد الدين الذي تولى الوزارة في مصر، ومن بعده ابن أخيه صلاح الدين الذي قطع الخطبة للخليفة الفاطمي في ثاني جمعة من المحرم عام خمسمائة وسبعة وستين للهجرة، وخطب للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله.
فتمت عدة محاولات لاغتيال القائد صلاح الدين؛
ففي عام خمسمائة وأربعة وسبعين للهجرة من شهر ذي القعدة؛ اتفق مؤتمن الخلافة - وهو خصي كان بقصر "العاضد"، وكان الحكم في القصر إليه مع جماعة من المصريين - على مكاتبة الإفرنج مع شخص يثقون به، يقترحون فيه عليهم أن يتوجه الصليبيون إلى الديار المصرية، فإذا وصلوا إليها وأراد صلاح الدين الخروج إليهم؛ قام هو ومن معه من المصريين في الداخل بقتل مخالفيهم من أنصار صلاح الدين، ثم يخرجون جميعاً في إثره حتى يأتونه من الخلف فيقتلونه ومن معه من العسكر.
ولكن الله تعالى أفشل مخططهم ذلك وانكشف حامل الرسالة، فأرسل صلاح الدين من فوره جماعةً من أصحابه إلى مؤتمن الخلافة - حيث كان يتنزه في قرية له - فأخذوه وقتلوه وأتوا برأسه، وعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر قصر الخلافة.
ثم جاءت المحاولة الثانية لاغتيال صلاح الدين من قبل الرافضة؛ لما ثار جند السودان الذين كانوا بمصر لمقتل مؤتمن الخلافة، لأنه كان يتعصب لهم، فجمعوا خمسين ألفاً من رجالهم وساروا لحرب صلاح الدين، فدارت بينهم عدة معارك، وكثر القتل في الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة بـ "المنصورة" فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم، فلما علموا بذلك ولوا منهزمين، فركبهم السيف وظل القتل فيهم مستمراً إلى أن قضى على آخرهم؛ "توران شاه" - أخو صلاح الدين - في منطقة الجيزة.
ولم يستكن الرافضة إلى هذا الحد؛ بل اتفق جماعة من شيعة العلويين بمصر ومنهم "عمارة اليمني" الشاعر المعروف و "عبد الصمد" الكاتب والقاضي "العويرسي" وداعي الدعاة "عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوي" وقاضي القضاة "هبة الله بن كامل" ومعهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من "صقلية" ومن ساحل الشام إلى الديار المصرية على شيء يبذلونه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد وخرج إليهم صلاح الدين لمقاتلتهم؛ ثاروا هم من الداخل في القاهرة ومصر وأعادوا الدولة الفاطمية.
ولكن من لطف الله تعالى بأمة الإسلام أن كشف مخططهم قبل أن يتم، حيث كان من ضمن من أدخلوه معهم في المؤامرة وأطلعوه على خبيئتهم؛ الأمير زين الدين علي بن الواعظ، الذي أبت نفسه أن تقبل بهذه الدنيئة وهذه الخيانة، فأخبر صلاح الدين بما تعاقد عليه القوم، فكافأه على ذلك، ثم استدعاهم واحداً واحدا، وقررهم بذلك فأقروا، ثم اعتقلهم واستفتى الفقهاء في أمرهم؛ فأفتوه بقتلهم، فقتل رؤوسهم وأعيانهم وعفى عن أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيديين إلى أقصى البلاد.
وبذلك تكون مصر قد بدأت صفحةً منيرةً من تاريخها، إذ أعاد صلاح الدين البلاد إلى المذهب السني من جديد، وأرجع تبعيتها للدولة العباسية، ثم راح يرتب صفوفه من جديد.
ولولا مشاغلة الرافضة له ومحاولاتهم العديدة في تدبير المؤامرات لاغتياله؛ لما تأخر بعد ذلك النصر الكبير للأمة الإسلامية إلى عام خمسمائة وثلاثة وثمانين للهجرة، حيث انشغل صلاح الدين بقتال الرافضة، ولما تمكن من القضاء عليهم كدولة وكقوة، استطاع بعدها أن يتفرغ لقتال الصليبيين، ومن ثم استعادة بيت المقدس من أيديهم في موقعة "حطين" الفاصلة.
ولهذا كله؛ فإن شخصية صلاح الدين رحمه الله تعالى، بقدر ما هي تمثل الرمز الناصر لدين الله والمجدد لعز هذه الأمة عند أهل السنة، بقدر ما تغيظ منها رؤوس الرافضة وبقدر ما يبغضون هذه الشخصية.