.../...
أيها الإخوة الصوماليون:
إن نبيكم الكريم صلى الله عليه وسلم اعتمد على معاني الأخوة وعمل على تحقيقها وجعلها من الوسائل المهمة في بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.
إن تحقيق مبادئ العدالة والمساواة بين الأفراد لا يتم ما لم تقم على أساس من التآخي والمحبة فيما بينهم، بل إن هذه المبادئ لا تعدو أن تكون حينئذ مصدر أحقاد وضغائن تشيع بين أفراد ذلك المجتمع ومن شأنها أن تحمل في طيها بذور الظلم والطغيان في أشد الصور والأشكال.
أيها الإخوة الصوماليون:
إن اتخاذكم من حقيقة التآخي بين المسلمين أساساً لمبادئ ونظم دولتكم تعطي فرصة عظيمة لتحقيق السلام والعدالة والمساواة والحريات ومقاصد الشريعة الكبرى في بلادكم الجريحة.
5- إصلاح ذات البين:
أيها الإخوة الفضلاء، إن اتحادكم على أسس من ديننا العظيم أمل كل المسلمين الصادقين في كل مكان، قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).
إن الله ربكم جعل إصلاح ذات البين من أعظم الجهاد، فبه يتحقق تأليف قلوب المسلمين واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية، فالله عز وجل أمر بكل ما يحفظ على المسلمين جماعتهم وألفتهم ونهى عن كل ما يعكر هذا الأمر العظيم.
إن ما حصل من فرقة في الصومال وتدابر وتقاطع وتناحر بسبب عدم مراعاة هذا الأصل وضوابطه، مما ترتب عليه تفرق في الصفوف وضعف في الاتحاد وهذا الأمر وإن كان مما قدّره الله عز وجل نحونا ووقع كما قّدر؛ إلا أنه سبحانه لم يأمر به شرعاً، فوحدة المسلمين واجتماعهم مطلب شرعي، ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة، بل من أسباب الاستقرار والأمن وحفظ الدين والنفوس والعقول والأعراض والأموال والأوطان، ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
أيها الإخوة الصوماليون:
إن من القربات العظيمة لله عز وجل، ومن واجبات الوقت عليكم أن تتضافر جهودكم في إصلاح ذات البين إصلاحاً حقيقياً لا تلفيقياً.
6- الله الله.. في الدماء:6- الله الله.. في الدماء:6- الله الله.. في الدماء:6- الله الله.. في الدماء:
كفانا سفكاً للدماء، إن الله عز وجل جعل من مقاصد الشريعة حفظ النفوس وتحريم الاعتداء عليها، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا). وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكبر اجتماع للمسلمين في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا". وقال صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله تعالى من قبل مؤمن بغير حق". وقال صلى الله عليه وسلم: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ملام يصب دماً حراماً".
ألا يكفينا ما حدث من سفك لدماء وتهجير وتشريد وتمزق، وما ترتب على ذلك من خسائر اقتصادية وسياسية واجتماعية... إلخ.
7- التنازل وإيثار المصالح العامة:
إن آخر ما ينزع من نفوس الصالحين حب الجاه والسلطة، ولكم في الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قدوة حسنة في الحرص على الصلح.
ودوافع وأسباب الصلح عديدة منها:
1) الرغبة فيما عند الله وإرادة الإصلاح:
قال الحسن بن علي ردا على نفير الحضرمي، عندما قال له: قال الحسن بن علي ردا على نفير الحضرمي عندما قال له: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة، فقال: كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله.
إن الدرس المستفاد من موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما في أهمية إرادة وجه الله وتقديم ذلك والحرص على إصلاح ذات البين من أسباب الصلح ودوافعه، فمكانة الصلح عظيمة وهو من أجل الأخلاق الاجتماعية، إذ به يرفع الخلاف وينهي المنازعة التي تنشأ بيني المتحاملين ماديا أو اجتماعيا، ويعود بسببه الود والإخاء بين المتنازعين، لكونه يرضي طرفي النزاع ويقطع دابر الخصام، ولذلك فإن الصلح من أسمى المطالب الشرعية، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال الله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). وقال الله تعالى: (تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا). وقال تعالى: (لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين. وقال صلى الله عليه وسلم : " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". فالحريصون على إصلاح ذات البين هم سادة الشعب الصومالي.
2) والدافع الثاني للحسن بن علي رضي الله عنهما في الصلح، حقن الدماء. قال الحسن رضي الله عنه: خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفاً أو أكثر أو أقل، كلهم تنضح وجوههم دما، كلهم يستعدي الله فيما أريق من دمه. وقال أيضاً إني ما أحسب أن لي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه هجمة من دم، قد علمت ما ينفعني مما يضرني. ونلحظ من كلام الحسن بن علي شدة خوفه من الله، ذلك الخوف الذي دفعه إلى الصلح. وقد مدح الله أنبياءه وأولياءه بمخافتهم الله تعالى (زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ).
3) حرصه رضي الله عنه على وحدة الصف:
قام الحسن بن علي ابن أبي طالب خطيباً في إحدى مراحل الصلح فقال: أيها الناس إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة، وإني ناظر لكم كنظري لنفسي، وأرى رأياً، فلا تردوا علي رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة.
فقد ارتأى رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة حقنا لدماء المسلمين وتجنباً للمفاسد العظيمة التي ستلحق الأمة كلها إذا بقيّ مصراً على موقفه من استمرار الفتنة وسفك الدماء وقطع الأرحام واضطراب السبل، وتعطيل الثغور وغيرها ... وقد تحقق بحمد الله وحدة الأمة بتنازله عن عرض زائل من أعراض الدنيا، حتى سمي ذلك العام عام الجماعة، وهذا يدل على فقه الحسن في معرفته لاعتبار المآلات ومراعاته نتائج التفرقات، ولهذا الفقه مظاهره في كتاب الله وشواهد، فقد رتب المولى عز وجل الحكم على مقتضى النتائج والشواهد.
4) من نتائج الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما:
سجل في ذاكرة الأمة عام الجماعة، وأصبح هذا الحدث من مفاخرها، التي تزهو به على مر العصور وتوالي الدهور، فقد التقت الأمة على زعامة معاوية ورضيت به أميرًا عليها، وابتهج المسلمون بهذه الوحدة الجامعة، بعد الفرقة المشتتة، وكان الفضل لله ثم للسيد الكبير الذي قاد المشروع الإصلاحي، الحسن بن علي رضي الله عنهما، وتحقق ـ بفضل الله ثم بجهوده ـ مقصد عظيم من مقاصد الشريعة من وحدة المسلمين، وعادت الفتوحات الإسلامية إلى ما كانت عليه.
إن الحسن بن علي قدوة للمسلمين في الترفع عن حطام الدنيا، وطلب ما عند الله تعلى واحتساب الأجر والمثوبة، فالزهد في المناصب والكراسي من الأمور الثقيلة على النفس البشرية، فالإخوان والأصحاب والأقارب يتقاتلون على الكراسي والمناصب، والزهد في الرئاسة أقل ما يكون في دنيا الناس، وكم من أناس زهدوا في المال والنساء وغيرها من الأمور، لكنهم أمام الزعامة والرئاسة والمناصب ينهزمون. وقد قيل إنه آخر ما ينزع من صدور الفاتحين، وتأملوا قول سفيان الثوري: "ما رأيت الزهد في شيء أقل منه من الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع حامى عليها وعادى"، فإياكم وحب الرياسة، فإن حب الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء، فتفقدوا في أنفسكم أيها الإخوة الصوماليون، واعملوا بنية خالصة لله، فالحسن بن علي رمز لنكران الذات ومعلم للإيثار، ومدرسة وفخر للأمة عبر الأجيال في تقديمه مصلحة الأمة ووحدتها وحفظ دمائها على أي مصلحة أخرى.
لقد نجح الحسن بن علي في قيادة الأمة بأسرها لتحقيق مشروعه العظيم، ولم يتأثر بضغوط القواعد الشعبية ولا بغيرها، وهكذا القادة الربانيون يفعلون، وكان يرد على منتقديه بأدب جمّ وحجة ظاهرة، فعندما قال له أبو عامر سفيان بن الليل: السلام عليك يا مُذل المؤمنين، فقال له الحسن : لا تقل هذا يا أبا عامر، لست بمُذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك. وعندما قيل له يا عار المؤمنين، قال: العار خير من النار.
فقول الحسن بن علي " العار خير من النار" يفتح لنا آفاقا واسعة في فقه القدوم على الله تعالى، فقد كان رضي الله عنه عاملا في حياته مستوعباً لإيجاده، ويظهر ذلك في سكناته وحركاته واختياراته.
8- جهود الإصلاح والمصالحة:
إن بصيصاً من الأمل يطل من هذا البلد الذي أكلته الحرب على مدى أكثر من عشرين عاماً، وحفظ سمعة أهل الإسلام تقتضي منا الإصرار على اغتنام الفرصة الإقليمية والدولية التي تجعل من عودة الاستقرار لهذا البلد العربي المسلم مطلباً متفقاً عليه.
والذي أعلمه أن ثمت جهوداً ترتب ومحاولات تبذل لجمع الفرقاء وتحقيق المصالحة بينهم، وعسى أن تؤتي أكلها بصدق النية في الإصلاح من جميع الأطراف كما قال ربنا: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء: من الآية35).
إن العاقل يدرك بالحكمة الصبر ما لا يدركه بالحرب والقتال، وليس من الشريعة أن يمضي الناس في القتال فيما بينهم، ولا أن يتأولوا لأنفسهم ما صدعت نصوص الشريعة بتحريمه، والله لا يصلح عمل المفسدين، وعلى الباغي الذي يُضمر الكيد تدور الدوائر، ولا يحق المكر السيئ إلا بأهله.. فليعلم الله في قلوبكم أيها الفضلاء صدق النية والعزم على التراضي والتسامح والتنازل والتجرد من حظوظ النفوس.
وأسأل الله جل جلاله أن يحفظ هذا البلد وأهله وأن يكتب على أيديكم الخير الكثير، ويجنبكم المزالق التي عثر بها من قبلكم، إخوان لكم في أفغانستان وفي غيرها، فذهب الجهد أدراج الرياح وظلت الدماء تنزف لسنين طويلة، والناس لا يأمنون أن يذهبوا إلى مساجدهم أو مدارسهم أو أسواقهم ..
اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا واهدِ أهل الصومال جميعاً لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، والحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أخوكم ومحبكم سلمان بن فهد العودة، الرياض، 19/2/ 1430هـ
المصدر: مجلة العصر
نقله للنشر وتعميم الفائدة اخوكم / ابو ابراهيم