- حكم الإسبال للخيلاء ولغير الخيلاء
لا يخلو أن يكون الإسبال للخيلاء أو لغير الخيلاء ، فإن كان الإسبال للخيلاء فلا خلاف بين العلماء في تحريمه ( )، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب ( )، وذلك للأحاديث الكثيرة التي فيها الوعيد الشديد لمن أسبل لباسه خيلاء ومنها :
1- ما جاء في الصحيحين ( ) عن أبي عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " .
2- ما جاء في صحيح مسلم ( ) عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابُ أليم " قال : فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال أبو ذر : خابوا وخسروا من هم يا رسول الله ؟ قال : المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " وفي رواية لمسلم ( ) أيضاً : " المسبل إزاره " .
3- حديث أبي جُريّ جابر بن سليم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " .. إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة .. " الحديث ( ).
4- عن هبيب بن مغفل ( ) رضي الله عنه أنه رأى رجلاً قام فجرَّ إزاره فقال هبيب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من وطئه خيلاء وطئه في النار " ( ).
وأما إن كان الإسبال لغير الخيلاء فلا يخلو ذلك من إحدى حالين
الحال الأولى : ألا يوجد قصد الإسبال ، وإنما يسترخي الثوب وما في حكمه عَرضاً من غير قصد فيتجاوز الحد المقرر له شرعاً ، لسبب من الأسباب كفزع وعجلة ونسيان ونحو ذلك، فهذا لا بأس به ولا يأثم فاعله ( ) ، ويدل لذلك ما يأتي :
1- ما جاء في صحيح البخاري ( ) عن أبي بكر رضي الله عنه قال : خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد ، الحديث .
2- ما جاء في صحيح مسلم ( ) عن عمران بن حصين رضي الله عنه –في قصة حديث ذي اليدين في سهو النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العصر– وفيه : وخرج صلى الله عليه وسلم غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس ، الحديث .
3- ما جاء في صحيح البخاري ( ) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إنَّ أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لست ممن يصنعه خيلاء " ففي هذا الحديث أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ما قد يحصل منه من استرخاء إزاره من غير قصد عند عدم تعاهده ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ ذلك الاسترخاء لا يدخل في الخيلاء وليس بذريعة إليه فلم يدخل في النهي ( ).
4- ما جاء في صحيح مسلم ( ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان فصرخ به فخرج يجر إزاره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعجلنا الرجل .. " الحديث .
فقد أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم عتبان على جر إزاره ، إذْ لم يُنقل ما يدل على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه ذلك ، وذلك لأنه قد حصل منه جر إزاره من غير قصد الإسبال ، وإنما استعجالاً لإجابة نداء النبي صلى الله عليه وسلم كما يدل لذلك سياق الحديث .
الحال الثاني : أن يقصد الإسبال ، لكنه لا يريد به الخيلاء ، فيرخي لباسه ويتجاوز به الحد المقرر شرعاً لغير قصد الخيلاء ، وإنما إتباعاً لعرف ، أو من باب التساهل أو نحو ذلك ، فقد اختلف العلماء في حكم الإسبال في هذا الحال على قولين :
- القول الأول : أنه يحرم ، وهو رواية عند الحنابلة ( )، ومذهب الظاهرية ( ).
- القول الثاني : أنه مكروه كراهة تنزيه ، وإليه ذهب الحنفية ( )، والمالكية ( )، والشافعية ( )، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة ( ).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدل أصحاب هذا القول على تحريم الإسبال لغير الخيلاء بأدلة من السنة ، ومن المعقول .
أ- من السنة :
وقد ورد في السنة عدة أحاديث تدل على تحريم الإسبال لغير الخيلاء ، وقد جاءت على ثلاثة أنواع:
- النوع الأول : الأحاديث التي جاء فيها الوعيد بالنار لمن أسبل من غير تقييد ذلك بالخيلاء، ومنها :
(1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار " ( ).
(2) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إزرة المؤمن إلى نصف الساقين ، ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، وما أسفل من ذلك ففي النار " ( ).
(3) حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار " ( ).
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد بالنار لمن أسبل ثوبه أسفل من الكعبين ولم يقيد ذلك بالخيلاء ، فيعم ذلك الوعيد الإسبال مطلقاً سواء كان للخيلاء أو لغير الخيلاء ( ).
- النوع الثاني : الأحاديث التي جاءت بالنهي عن الإسبال مطلقاً من غير تقييد لذلك الإسبال بالخيلاء ، ومنها :
(1) حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بِحُجْزة( )
سفيان بن أبي سهل فقال : يا سفيان لا تسبل إزارك فإن الله لا يحب المسبلين " ( ).
(2) حديث أبي جُرَي جار بن سليم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياك
وإسبال الإزار فإنها من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة .. " الحديث ( ) .
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين عن مطلق الإسبال – ولم يقيد ذلك بالخيلاء - وبين عليه الصلاة والسلام في حديث جابر بن سليم رضي الله عنه أن الإسبال
من المخيلة ، وذلك لأن الإسبال يستلزم جر الثوب ، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء ( ).
- النوع الثالث : الأحاديث التي فيها الأمر برفع الإزار فوق الكعبين ومنها :
(1) حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي إزاري استرخاء فقال : " يا عبد الله ارفع إزارك " فرفعته ثم قال : " زد " فزدت فما زلت أتحراها بعد ، فقال بعض القوم : إلي أين ؟ فقال إلى أنصاف الساقين : [أخرجه مسلم في صحيحه] ( ) .
(2) حديث الشرِّيد بن سويد رضي الله عنه قال : أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يجر إزاره فقال : " ارفع إزارك واتق الله " قال : إني أحنف ( ) تصطك ركبتاي قال : " ارفع إزارك فكلُّ خلق الله حسن " قال: فما رؤي ذلك الرجل بعد إلا وإزاره يصيب أنصاف ساقيه( ).
ب- من المعقول :
علل أصحاب هذا القول لقولهم بعدة تعليلات منها :
1- أن الإسبال مظنة للخيلاء وذريعة إليها ، وقد جاءت الشريعة بسد ذرائع المحرمات ( )، ومما يدل لذلك حديث جابر بن سليم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة .. " ( ) فجعل النبي إسبال الإزار من المخيلة ، فإن الإسبال وإن كان لغير الخيلاء إلا أنه مظنة للخيلاء ، قال الحافظ ابن حجر ( ) – رحمه الله - : " الإسبال يستلزم جرَّ الثوب ، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء " أهـ .
2- أن الإسبال – ولو كان بغير قصد الخيلاء- فيه إسراف ، والإسراف محرم لقوله تعالى : وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف – 31]
قال الحافظ ابن حجر ( ) – رحمه الله - : "إن كان الثوب زائداً على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم " أهـ .
3- أنَّ المسبل لا يأمن من تعلق النجاسة بلباسه ، وقد جاء في صحيح البخاري ( ) في قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنَّ عمر – بعدما طُعِن- رأى شاباً يمس إزاره الأرض فقال : ردوا عليَّ الغلام ثم قال له : " يا ابن أخي : ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك واتقى لربك " فقد أوصى عمر رضي الله عنه هذا الشاب أن يرفع ثوبه وذكر لذلك فائدتين :
- الأولى : أنه أنقى لثوبه من تعلق النجاسات به .
- الثانية : أنه أتقى لله عز وجل ، لأن رفع الثوب امتثال لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فيكون ذلك من تقوى الله عز وجل ( ).
يتبع ان شاء الله