الأجوبة النافعة
عن أسئلة
لجنة مسجد الجامعة
تأليف
الإمام محمد ناصر الدين الألباني
رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله تعالى على رسوله وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد ، فقد سلمني أحد الاخوان غرة شهر رمضان سنة 1370 هـ ورقة قد طبع على صفحتها عدة أسئلة بالآلة الكاتبة ، وهي غير موقعة بتوقيع ينبىء عن مصدرها ، وإن كانت الأسئلة نفسها توحي بأن محررها من أعضاء لجنة مسجد الجامعة السورية .
ثم سألت أحدهم عنها فأخبرني : أنها من اللجنة ذاتها .
وقد علمت أنه قدم مثلها إلى كثير من المشايخ وأهل العلم بغية الجواب عنها ، ومن الظاهر أن القصد منذلك استنباط الحق ومعرفته من الأدلة التي سوف يوردها أهل العلم في أجوبتهم على تلك أقواها ، ثم يعملون بمقتضاها ، في مسجدهم الذي صاروا بحكم رعايتهم عليه مسؤولين عنه ،
ومكلفين بتنفيذ الحق فيه ، فيقضون بذلك على الاضطراب المتسمر فيه :
فإنه تارة يؤذن فيه بأذان واحد وعلى باب المسجد كما هو السنة ، وأحياناً يؤذن فيه بأذانين، ثم تارة يؤذن الأول منهما على باب المسجد ، وبالآخر بين يدي الخطيب والمنبر ، وتارة يؤذن بالأول داخل المسجد قريباً من الباب ، وتارة قريباً من المحراب ، وتارة تصلى فيه ما يسمى بـ " سنة الجمعة القبلية " وتارة لا تصلى !
ذلك كان حال المسجد المذكور إبان ابتداء عمارته بالصلاة ، وهو مع ذلك يعتبر المسجد الوحيد في دمشق ، بل ربما في سائر البلاد السورية في كونه قائماً على السنة ، منزهاً عن البدعة إلى حد كبير، فلا ترفع فيه الأصوات ولا تقام فيه صلاة الظهر بعد الجمعة ، وغير ذلك من المحدثات التي تغص بها سائر المساجد . ويعود الفضل في ذلك إلى اللجنة القائمة عليه من الشباب المؤمن الحريص على اتباع السنة ، واجتناب البدعة ، في حدود ما يعلم ، وما يأتيه من علم ، وهذا هو الذي أهاب بهم على أن يوجهوا الأسئلة المشار إليها إلى أفاضل العلماء .
فلما قدمت إلى هذه الأسئلة رأيتني مندفعاً إلى الإجابة عنها ، محاولة مني ومشاركة في جعل مسجد الجامعة أقرب إلى السنة ، وأبعد عن البدعة . ولعله يزول منه الاضطراب المشار إليه ، بعد ورود الأجوبة إلى اللجنة ، ودراستهم إياها ، واستخلاصهم ما كان أقرب إلى الصواب منها ، غير متحيزين إلى فئة ، ولا متبعين لعادة .
فلما فرغت من كتابة الجواب المشار إليه قدمته إلى اللجنة ، ولا أدري إذا كان غيري ممن وجهت إليهم الأسئلة ، قد قدموا أجوبتهم عليها ؛ ولا ماكان موقف اللجنة العلمي من جوابنا .
كان ذلك منذ عشر سنين فبدا لي الآن أن أعود إلى الجواب المذكور فأضيف إليه بعض الفوائد الجديدة ، مما لا يخرج عن موضوع الأسئلة ، ففعلت فكان ذلك كله هذه الرسالة التي تراها بين يديك .
ولما كنت أعتقد أنها حققت القول في كثير من المسائل التي يراها الباحث منبثة في بطون طوال الكتب الفقهية ومبسوطاتها ، ولا يراها مجتمعة محققة في رسالة خاصة ، رأيت أن أقوم بنشرها على الناس ، تنويراً للأذهان ، وتوطئة لإصلاح قد يتولاه بعض الغُيُر من المسؤولين عن المساجد ، أسوة بمصر الشقيقة ، وما تقوم به من إصلاحات بإرشاد وزراة الأوقاف ( 1 ) .
ومما يشجعني على النشر أنه لا بد للقراء من رسالة في هذا الموضوع تعرض عليهم الأجوبة مقرونة بأدلتها من كتاب الله وسنة رسوله،مستشهداً عليها بآثار الصحابة ، وأقوال كبار الأئمة ،
ممن يفتي بقولهم ، ويقتدي بهديهم .
زد على ذلك أن كثيراً من القراء قد كثر سؤالهم عن المسائل التي وردت في هذه الرسالة ، فنشرها مما يوفر علينا كلاماً كثيراً ، ووقتاً طويلاً .
وأيضاً فأنا شخصياً بحاجة إلى من ينبهني إلى ما قد يبدو مني من خطأ أو وهم ، مما لا ينجو منه إنسان ، فإذا نشرت آرائي ، تمكن أهل العلم من الاطلاع عليها ، ومعرفة ما قد يكون من الوهم فيها ، وبينوا ذلك كتابة أو شفهياً فشكرت لهم غيرتهم ، وجزيتهم خيراً .
وسميت هذه الرسالة بـ :
" الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة " .
أسأل الله تعالى أن ينفع بها ، ويثيبني عليها خيراً ، بفضله وكرمه .
دمشق جمادى الآخرة 1380 محمد ناصر الدين الألباني
وإليك نصّ ما في الصفحة :
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله .
وبعد ؛ فامتثالاً لقوله تعالى : ] فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ ، وقوله : ] لتبيننه للناس و لا تكتمونه [ ( 1 )، وقوله r : (( … و عن علمه ماذا عمل به )) ( 2 ) ؛ أتينا نسألكم التكرم بتحقيق المسألة التالية ، ولكم الأجر :
هل ترون الاقتداء بما فعله عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة من الأذان الثاني إطلاقاً ، أم فقط عندما يتوفر السبب الذي دعا سيدنا عثمان لذلك ، لما رأى الناس قد كثروا و انغمسوا في طلب المعاش ؟ أو بعبارة أخرى : إذا وجد مسجد لا حيٌ قريب منه و لا سوق و ليس له إمام راتب
ولا مئذنة ، كالمسجد الذي في داخل ثكنة الحميدية ( 3 )، فهل ترون أن يجرى فيه على سنة سيدنا عثمان ، أو يكتفى بأذان واحد كما هو الحال في عهد الرسول r وصاحبيه ؟
إذا أذيعت الخطبة والأذان من المسجد المذكور بالمذياع ، فهل ترون هذا يغير في الأمر شيئاً ؟
كأن يقال : إن أذان عثمان لا حاجة إليه في مثل هذا المسجد البعيد عن البيوت والأسواق ،
ولكن بما أن إذاعة الأذان تعيد إليه صفة الإعلام و تسمعه لجميع الأنحاء، فيجب العمل به ؟
أو يقال : بما أن الإذاعة تؤمن الإعلام بإذاعة أذان واحد ، فلا حاجة للآخر ؟
هل الأذان الثاني الذي شرعه الرسول r موضعه أمام المنبر أم على باب المسجد المواجه للمنبر؟ وإذا كان هناك أذان آخر : أذان عثمان ، فهل موضعه على الباب ؟
إذا كان هناك أذان واحد فقط ، فمتى وقته ؟ هل هو أول وقت الظهر ، أم ماذا ؟ وإذا كان كذلك ، وكان وقته عند صعود الخطيب ، فمتى تُصَلَّى السنة القبلية إذا ثبتت ، وهل تصلى السنة عقب دخول الوقت بلا أذان ، ثم يصعد الخطيب ويؤذن المؤذن ، أم ماذا ؟
نرجو في كل ما سبق إيراد النصوص التي استندتم إليها في تحقيقكم ولكم منا الشكر ، ومن الله الثواب والأجر ، وفقنا الله وإياكم إلى العلم والفهم والاتباع ، وهو الهادي إلى الرشاد .
الجواب عن الأسئلة
أقول و بالله أستعين :
إني قبل الشروع في الإجابة أرى من المفيد ، بل الضروري أن أسوق هنا الحديث الوارد في أذان عثمان الأول ، لأنه سيكون محور الكلام في المسائل الآتية ؛ كما سترى ، ثم إنه لما كان الحديث المذكور فيه زيادات قد لا توجد عند بعض المخرجين للحديث ؛ رأيت تتميماً للفائدة أن أضيف كل زيادة وقفت عليها إلى أصل الحديث ، مشيراً إليها بجعلها بين قوسين [ ] ، ثم أبين من أخرج الحديث ، والزيادات من الأئمة في التعليق على الحديث ، وهاك نصه :
حديث أذان عثمان :
(( قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى : أخبرني السائب بن يزيد أن الأذان [ الذي ذكره الله في القرآن ] كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر [ وإذا قامت الصلاة ] يوم الجمعة [ على باب المسجد ] في عهد النبي r وأبي بكر وعمر ، فلما كان خلافة عثمان ، وكثر الناس [ وتباعدت المنازل ] أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث ( وفي رواية : الأول ، وفي أخرى : بأذان ثان )
[ على دار [ له ] في السوق يقال لها : الزوراء ] ، فأذن به على الزوراء [ قبل خروجه ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت ] ، فثبت الأمر على ذلك ، [ فلم يعب الناس ذلك عليه ، وقد عابوا عليه حين أتم الصلاة بمنى ] ))([1]).
إذا علمت ما تقدم فلنشرع الآن في الجواب فنقول :
الجواب عن الفقرة الأولى :
لا نرى الاقتداء بما فعله عثمان رضي الله عنه على الإطلاق ودون قيد ، فقد علمنا مما تقدم أنه إنما زاد الأذان الأول لعلة معقولة ، وهي كثرة الناس وتباعد منازلهم عن المسجد النبوي ، فمن صرف النظر عن هذه العلة ، وتمسك بأذان عثمان مطلقاً لا يكون مقتدياً به رضي الله عنه ، بل هو مخالف له ، حيث لم ينظر بعين الاعتبار إلى تلك العلة التي لولاها لما كان لعثمان أن يزيد على سنته عليه الصلاة والسلام وسنة الخليفتين من بعده .
فإذن ؛ إنما يكون الاقتداء به رضي الله عنه حقاً عندما يتحقق السبب الذين من أجله زاد عثمان الأذان الأول ، وهو : (( كثره الناس و تباعدهم عن المسجد )) كما تقدم .
وأما ما جاء في السؤال من إضافة علة أخرى إلى الكثرة ؛ وهي ما أفاده بقوله : (( وانغمسوا في طلب المعاش )) فهذه الزيادة لا أصل لها ، فلا يجوز أن يبنى عليها أي حكم إلا بعد إثباتـها ،
ودون ذلك خرط القتاد .
وهذا السبب لا يكاد يتحقق في عصرنا هذا إلا نادراً ، وذلك في مثل بلدة كبيرة تغص بالناس على رحبها ، كما كان الحال في المدينة المنورة ، ليس فيها إلا مسجد واحد ، يجمع الناس فيه ، وقد بعدت لكثرتـهم منازلهم عنه ، فلا يبلغهم صوت المؤذن الذي يؤذن على باب المسجد ،
وأما بلدة فيها جوامع كثيرة كمدينة دمشق مثلاً ، لا يكاد المرء يمشي فيها إلا خطوات حتى يسمع الأذان للجمعة من على المنارات ، وقد وضع على بعضها أو كثير منها الآلات المكبرة للصوت ، فحصل بذلك المقصود الذي من أجله زاد عثمان الأذان ؛ ألا وهو إعلام الناس أن صلاة الجمعة
قد حضرت كما نص عليه في الحديث المتقدم، وهو معنى ما نقله القرطبي في "تفسيره" (18/100)
عن الماوردي : (( فأما الأذان الأول فمُحدَث ، فعله عثمان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة ، وكثرة أهلها )) .
وإذا كان الأمر كذلك ، فالأخذ حينئذ بأذان عثمان من قبيل تحصيل الحاصل ، وهذا لا يجوز ، ولا سيما في مثل هذا الموضع الذي فيه التزيُّد على سنة رسول الله r دون سبب مسوغ ، وكأنه لذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو بالكوفة يقتصر على السنة ، ولا يأخذ بزيادة عثمان ؛ كما في (( القرطبي )) .
وقال ابن عمر : (( إنما كان النبي r إذا صعد المنبر أذن بلال ، فإذا فرغ النبي r من خطبته أقام الصلاة ، والأذان الأول بدعة )) رواه أبو طاهر المخلص في "فوائده" (ورقة 229/ 1- 2).
والخلاصة ؛ أننا نرى أن يُكتفى بالأذان المحمدي ، وأن يكون عند خروج الإمام وصعوده على المنبر ؛ لزوال السبب المسوغ لزيادة عثمان ، واتباعاً لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو القائل: (( فمن رغب عن سنتي فليس مني )) ، متفق عليه .([2])
وبنحو ما ذكرنا قال الإمام الشافعي ، ففي كتابه " الأم " (1/172–173) ما نصه : (( وأحب أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يدخل الإمام المسجد ويجلس على المنبر ، فإذا فعل أخذ المؤذن في الأذان ، فإذا فرغ قام ، فخطب لا يزيد عليه )) .
ثم ذكر حديث السائب المتقدم ، ثم قال : (( وقد كان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدثه ، ويقول : أحدثه معاوية ([3]) ، و أيهما كان ؛ فالأمر الذي كان على عهد رسول الله r أحب إلي ، فإن أذن جماعة من المؤذنين والإمام على المنبر ، وأذن كما يؤذن اليوم أّذان قبل أذان المؤذنين إذا جلس الإمام على المنبر ؛ كرهت ذلك له ، ولا يفسد شيء من صلاته )) .
وكذلك نقول في المسجد الوارد ذكره في السؤال:إنه ينبغي أن يُجرى فيه على سنة النبي r
لا على سنة عثمان ، وذلك لأمرين :
الأمر الأول : أن الأذان فيه لا يسمع من سكان البيوت؛ لبعدها كما جاء في السؤال، بل ولايسمع حتى من المارة في الطريق الذي يلي الثكنة من الناحية الشرقية والجنوبية ، فالأخذ حينئذ بأذان عثمان لا يحصّل الغاية التي أرادها به عثمان ، فيكون عبثاً في الشرع ينزه عنه المسلم .
الأمر الآخر: أن الذين يأتون إلى هذا المسجد ، إنما يقصدونه قصداً ، ولو من مسافات شاسعة، فهؤلاء – و لو فرض أنـهم سمعوا الأذان – فليس هو الذي يجلبهم ويجعلهم يدركون الخطبة والصلاة ، فإنه – لبعد المسافة بينهم و بين المسجد – لا بد لهم من أن يخرجوا قبل الأذان بمدة تختلف باختلاف المسافة طولاً و قصراً ، حتى يدركوا الصلاة ، شأنـهم في ذلك شأنـهم في صلاة العيدين في المصلى أو المساجد التي لا يشرع لها أذان و لا إعلام بدخول الوقت .
نعم ؛ لا نرى مانعاً من هذا الأذان العثماني إذا جُعل عند باب الثكنة الخارجي ؛ لأنه يُسمع المارة على الجادة ، ويُعلِمهم أن في الثكنة مسجداً تقام فيه الصلاة ، فيؤمونه ، ويصلون فيه ،
كما قد يسمع من يكون في البيوت القريبة من الجادة([4]) ، ولكن ينبغي أن لا يُفصل بين الأذانين
إلا بوقت قليل ، لأن السنة الشروع في الخطبة أول الزوال بعد الأذان ، كما يشير إلى ذلك قوله في الحديث السابق : (( أن الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر ، وإذا قامت الصلاة ))،
أي : قام سببها ، وهو الزوال ، وفي ذلك أحاديث أخرى أصرح من هذا ؛ سيأتي ذكرها عند الجواب عن الفقرة الرابعة إن شاء الله تعالى .
ولا يفوتني أن أقول : إن هذا الذي ذهبنا إليه إنما هو إذا لم يُذَع الأذان عند باب المسجد بالمذياع أو مكبر الصوت ، وإلا فلا نرى جوازه ؛ لأنه حينئذ تحصيل حاصل كما سبق بيانه .
الجواب عن الفقرة الثانية
إن إذاعة الأذان من المسجد المذكور بالمذياع لا يغير من حكم المسألة شيئاً؛ لما سبق بيانه قريباً، ونزيد هنا فنقول :
قد مضى أن عثمان رضي الله عنه إنما زاد الأذان الأول((ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت))، فإذا أذيع الأذان المحمدي بالمذياع ، فقد حصلت الغاية التي رمى إليها عثمان بأذانه ، وأعتقد أنه
لو كان المذياع في عهد عثمان ، وكان يرى جواز استعماله كما نعتقد ، لكان رضي الله عنه اكتفى بإذاعة الأذان المحمدي ، وأغناه ذلك عن زيادته .
الجواب عن الفقرة الثالثة
يفهم الجواب عن هذه الفقرة مما تقدم في الحديث : (( أن الأذان في عهد النبي r وأبي بكر وعمر كان على باب المسجد ، وأن أذان عثمان كان على الزوراء )) ، فإن وجد السبب المقتضي للأخذ بأذانه حسبما تقدم تفصيله ؛ وضع مكان الحاجة و المصلحة ، لا على الباب ، فإنه موضع الأذان النبوي ، ولا في المسجد عند المنبر ، فإنه بدعة أموية كما يأتي ، وهو غير محقق للمعنى المقصود من الأذان ، وهو الإعلام ، ونقل ابن عبد البر عن مالك : (( إن الأذان بين يدي الإمام ليس من الأمر القديم )) ، أي أنه بدعة .
وقد صرح بذلك ابن عابدين في "الحاشية" (1/362) ، وابن الحاج في "المدخل" (2/208) ،
وغيرهما ممن هو أقدم و أعلم منهما ، قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/146– 147) ما ملخصه :
( قال ابن رشد : الأذان بين يدي الإمام في الجمعة مكروه ؛ لأنه محدث ، وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك ، فإنه نقل الأذان الذي كان بالزوراء إلى المشرفة ، ونقل الأذان الذي كان بالمشرفة بين يديه ، وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا هذا ، قال : وهو بدعة ، والذي فعله رسول الله r والخلفاء الراشدون بعده هو السنة ، وذكر ابن حبيب ما كان فعله r وفعل الخلفاء الراشدون بعده كما ذكر ابن رشد ، وذكر قصة هشام ، ثم قال : والذي كان فعل رسول الله r هو السنة ، وما قاله ابن حبيب أن الأذان عند صعود الإمام على المنبر كان باقياً في زمان عثمان رضي الله عنه ؛ موافق لما نقله أرباب النقل الصحيح ، وأن عثمان لم يزد على ما كان قبله
إلا الأذان على الزوراء ، فصار إذن نقل هشام الأذان المشروع في المنارة إلى ما بين يديه بدعة في ذلك المشروع )) .
وينبغي أن يعلم أنه لم ينقل البتة أن الأذان النبوي كان بين يدي المنبر قريباً منه ، قال العلامة الكشميري : (( ولم أجد على كون هذا الأذان داخل المسجد دليلاً عند المذاهب الأربعة ،
إلا ما قال صاحب "الهداية" : إنه جرى به التوارث ، ثم نقله الآخرون أيضاً ، ففهمت منه أنـهم ليس عندهم دليل غير ما قاله صاحب "الهداية" ، و لذا يلجؤون إلى التوارث )) ([5]) .
قلت : وليس يخفى على البصير أنه لا قيمة لمثل هذا التوارث ؛ لأمرين :
الأول : أنه مخالف لسنة النبي r والخلفاء الراشدين من بعده .
والآخر : أن ابتداءه من عهد هشام لا من عهد الصحابة كما عرفت ، وقد قال ابن عابدين في "الحاشية" (1/769) : (( ولا عبرة بالعرف الحادث إذا خالف النص ؛ لأن التعارف إنما يصلح دليلاً على الحل إذا كان عاماً من عهد الصحابة و المجتهدين كما صرحوا به )) .
فتبين مما سلف أن جعل الأذان العثماني على الباب ، و الأذان المحمدي في المسجد ؛ بدعة
لا يجوز اتباعها ، فيجب إزالتها من مسجد الجامعة ، إحياءً لسنة النبي r .
هذا وقد مضى في كلام الشاطبي ومن نقل عنهم أن الأذان النبوي كان يوم الجمعة على المنارة ،
وقد صرح بذلك ابن الحاج أيضاً في "المدخل" ، فقال ما مختصره : (( إن السنة في أذان الجمعة إذا صعد الإمام على المنبر أن يكون المؤذن على المنارة ، كذلك كان على عهد النبي r وأبي بكر
وعمر و صدراً من خلافة عثمان ، ثم زاد عثمان أذاناً آخر بالزوراء ؛ لما كثر الناس ، وأبقى الأذان الذي كان على عهد رسول الله r على المنارة و الخطيب على المنبر إذ ذاك )) ، ثم ذكر قصة نقل هشام للأذان نحو ما تقدم نقله عن الشاطبي .
قلت : ولم أقف على ما يدل صراحة أن الأذان النبوي كان على المنارة ؛ إلا ما تقدم في الحديث أنه كان على باب المسجد ، فإن ظاهره أنه على سطحه عند الباب ، ويؤيد هذا أن من المعروف أنه كان لبلال – وهو الذي يؤذن يوم الجمعة – شيء يرقى عليه ليؤذن ، ففي "صحيح البخاري"
(4/110) عن القاسم بن محمد عائشة رضي الله عنها : (( إن بلالاً كان يؤذن بليل ، فقال رسول الله r : (( كلوا و اشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر )) ، قال القاسم : ولم يكن بين أذانـهما إلا أن يرقى هذا وينزل ذا )) .
فلعله كان هناك عند الباب على السطح شيء مرتفع ، يشبه المنارة ، وقد يشهد لهذا
ما أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (8/307) بإسناده عن أم زيد بن ثابت قالت : (( كان بيتي أطول بيت حول المسجد ، فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن ، إلى أن بنى رسول الله r مسجده ، فكان يؤذن بعدُ على ظهر المسجد ، وقد رفع له شيء فوق ظهره )) .
لكن إسناده ضعيف ، وقد رواه أبو داود بإسناد حسن دون قوله : (( وقد رفع له شيء فوق ظهره )) ، والله أعلم .
والذي تلخص عندي في هذا الموضوع ؛ أنه لم يثبت أن المنارة في المسجد كانت معروفة في عهده r ([6]) ، ولكن من المقطوع به أن الأذان كان حينذاك في مكان مرتفع على المسجد يرقى إليه كما تقدم ، ومن المحتمل أن الرقي المذكور إنما هو إلى ظهر المسجد فقط([7]) ، ومن المحتمل أنه إلى شيء كان فوق ظهره كما في حديث أم زيد ، وسواء كان الواقع هذا أو ذاك ، فالذي نجزم به أن المنارة المعروفة اليوم ليست من السنة في شيء ، غير أن المعنى المقصود منها – وهو التبليغ – أمر مشروع بلا ريب ، فإذا كان التبليغ لا يحصل إلا بـها ، فهي حينئذ مشروعة ؛ لما تقرر في علم الأصول : أن ما لا يقوم الواجب إلا به ؛ فهو واجب ، و لكن ترفع بقدر الحاجة .
غير أن من رأيي أن وجود الآلات المكبرة للصوت اليوم يغني عن اتخاذ المئذنة كأداة للتبليغ ،
ولا سيما أنـها تكلف أموالاً طائلة ، فبناؤها والحالة هذه – مع كونه بدعة ، ووجود ما يغني عنه– غير مشروع ؛ لما فيه من إسراف و تضييع للمال ، ومما يدل دلالة قاطعة على أنـها صارت اليوم عديمة الفائدة ؛ أن المؤذنين لا يصعدون إليها البتة ، مستغنين عنها بمكبرات الصوت .
لكننا نعتقد أن الأذان في المسجد أمام المكبر لا يشرع ؛ لأمور :
منها : التشويش على من فيه من التالين و المصلين والذاكرين .
ومنها: عدم ظهور المؤذن بجسمه ، فإن ذلك من تمام هذا الشعار الإسلامي العظيم ( الأذان ) .
لذلك نرى أنه لا بد للمؤذن من البروز على المسجد، والتأذين أمام المكبر، فيجمع بين المصلحتين، وهذا التحقيق يقتضي اتخاذ مكان خاص فوق المسجد يصعد إليه المؤذن ، ويوصل إليه مكبر الصوت ، فيؤذن أمامه ، وهو ظاهر للناس .
ومن فائدة ذلك أنه قد تنقطع القوة الكهربائية ( 1 )، ويستمر المؤذن على أذانه وتبليغه إياه إلى الناس من فوق المسجد ، بينما هذا لا يحصل – والحالة هذه – إذا كان يؤذن في المسجد ؛
كما هو ظاهر .
ولا بد من التذكير هنا بأنه لا بد للمؤذنين من المحافظة على سنة الالتفات يمنة ويسرة عند الحيعلتين ، فإنـهم كادوا أن يُطبِقوا على ترك هذه السنة ؛ تقيداً منهم باستقبال لاقط الصوت ،
ولذلك نقترح وضع لاقطين على اليمين واليسار قليلاً بحيث يجمع بين تحقيق السنة المشار إليها ،
والتبليغ الكامل .
ولا يقال : إن القصد من الالتفات هو التبليغ فقط ، وحينئذ فلا داعي إليه مع وجود المكبر ؛ لأننا نقول : إنه لا دليل على ذلك ، فيمكن أن يكون في الأمر مقاصد أخرى قد تخفى على الناس ، فالأولى المحافظة على هذه السنة على كل حال .
الجواب عن الفقرة الرابعة
للأذان المحمدي وقتان :
الأول : بعد الزوال مباشرة و عند صعود الخطيب .
والآخر: قبل الزوال عند صعود الخطيب أيضاً، وهذا مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره.
أما الأول : فدليله ما تقدم في حديث السائب : (( أن الأذان كان أوله حين يجلس على المنبر
وإذا قامت الصلاة )) .
فهذا صريح في أن الأذان كان حين قيام سبب الصلاة ، وهو زوال الشمس – كما تقدم – مع جلوس الإمام على المنبر في ذلك الوقت ، و يشهد لهذا أحاديث :
(( عن سعد القرظ مؤذن النبي r أنه كان يؤذن يوم الجمعة على عهد رسول الله r إذا كان الفيء مثل الشراك ))( 1 ) .أخرجه ابن ماجه (1/342) ، والحاكم (3/607) .
قال الحافظ ابن حجر : (( في النسائي : أن خروج الإمام بعد الساعة السادسة ، وهو أول
الزوال )) ( 2 ) .
وأما الوقت الآخر ؛ ففيه أحاديث :
عن سلمة بن الأكوع قال : (( كنا نجمع([8]) مع رسول الله r إذا زالت الشمس ، ثم نرجع نتتبع الفيء )) .أخرجه البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/207/1) .
عن أنس
( أن رسول الله r كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس )) ، رواه البخاري وغيره.
عن جابر رضي الله عنه : (( كان رسول الله r إذا زالت الشمس صلى الجمعة )) ، رواه الطبراني في "الأوسط" وإسناده حسن .
وهذه الأحاديث ظاهرة الدلالة على ما ذكرنا ، وذلك أنه من المعلوم أنه r كان يخطب قبل الصلاة خطبتين يقرأ فيهما القرآن ويذكّر الناس ، حتى كان أحياناً يقرأ فيها ] ق.والقرآن المجيد[ ، ففي "صحيح مسلم" (3/13) عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت : (( ما أخذت ] ق . والقرآن المجيد[ إلا عن لسان رسول الله r، يقرأها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس )).
وصح عنه أنه قرأ فيها سورة براءة .رواه ابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم وصححه ، ووافقه الذهبي وغيره .
فإذا تذكرنا هذا ؛ علمنا أن الأذان كان قبل الزوال حتماً ، وكذا الخطبة ، طالما أن الصلاة كانت حين الزوال ، وهذا بيّن لا يخفى والحمد لله .
وأصرح من هذه الأحاديث في الدلالة على المطلوب حديث جابر الآخر ، وهو :
وعنه قال : (( كان رسول الله r يصلي الجمعة ، ثم نذهب إلى جمالنا ، فنريحها حين تزول الشمس ، يعني : النواضح )) ، أخرجه مسلم (3/ 8 – 9) ، والنسائي (1/206) ، والبيهقي
(3/190) ، وأحمد (3/331) ، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/207/1) .
فهذا صريح في أن الصلاة كانت قبل الزوال ، فكيف بالخطبة ؟ فكيف بالأذان ؟ .
ويشهد لذلك آثار من عمل الصحابة ، نذكر بعضها للاستشهاد بـها .
عن عبد الله بن سيدان السلمي قال : (( شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق ، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار ، ثم شهدنا مع عمر ، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول : انتصف النهار ، ثم شهدنا مع عثمان ، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول زال النهار ، فما رأيت أحداً عاب ذلك و لا أنكره )) ، رواه ابن أبي شيبة (1/206/2) ، والدارقطني (169) .
قلت : وإسناده محتمل للتحسين ، بل هو حسن على طريقة بعض العلماء كابن رجب وغيره ، فإن رجاله ثقات غير عبد الله بن سيدان ، قال الحافظ في "الفتح" (2/321) : (( تابعي كبير ، إلا أنه غير معروف العدالة )) .
قلت : قد روى عنه أربعة من الثقات ، وهم ثابت ابن الحجاج ، وجعفر بن برقان ؛ كما في "الجرح والتعديل" (2/2/68) ، وميمون بن مهران ، وحبيب ابن أبي مرزوق كما في "ثقات ابن حبان" (5/31 –32).
وقول الحافظ بعد أن ساق له هذا الأثر : (( وقال البخاري : لا يتابع على حديثه ، بل عارضه ما هو أقوى منه )) ، ثم ذكر آثاراً صحيحة عن أبي بكر و عمر في التجميع بعد الزوال .
فأقول : لا تعارض بينها وبين هذا الأثر كما لا تعارض بين الأحاديث الموافقة له ، وبين الأحاديث الموافقة لها ، فالصحابة تلقوا الأمرين عن رسول الله r ، فكانوا – مثله عليه السلام – يفعلون هذا تارة ، وتارة هذا .
عن عبد الله بن سلمة قال
( صلى بنا عبد الله الجمعة ضحى، وقال خشيت عليكم الحر )) أخرجه ابن أبي شيبة .
قلت : ورجاله ثقات غير عبد الله بن سلمة ، قال الحافظ في "الفتح" : (( صدوق ؛ إلا أنه ممن تغير لما كبر )) .
قلت : ومثله إنما يخشى منه الخطأ في رفع الحديث ، أو في روايته عن غيره ، مما لم يشاهد ،
وهو هنا يروي حادثة شاهدها بنفسه ، وهي في الواقع غريبة لمخالفتها للمعهود من الصلاة بعد الزوال ، فاجتماع هذه الأمور ؛ مما يرجح حفظه لما شاهد ، فالأرجح أن هذا الأثر صحيح ،
ولعله من أجل ما ذكرنا احتج به الإمام أحمد ، فقال ابنه عبد الله في "مسائله عنه" (ص112) :
(( سئل عن وقت صلاة الجمعة ؟ قال : إن صلى قبل الزوال فلا بأس ، حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة أن عبد الله صلى بـهم يوم الجمعة ضحى ، وحديث سهل بن سعد : كنا نصلي ونتغدى بعد الجمعة ، كأنه يدل على أنه قبل الزوال )) .
عن سعيد بن سويد قال : (( صلى بنا معاوية الجمعة ضحى )) ، رواه ابن أبي شيبة عن عمرو بن مرة عنه .
قلت : وسعيد هذا لم يذكروا له راوياً غير عمرو هذا ، ومع ذلك ذكره ابن حبان في "الثقات"
(4/280) .
عن بلال العبسي : (( أن عماراً صلى بالناس الجمعة ، والناس فريقان : بعضهم يقول : زالت الشمس ، وبعضهم يقول : لم تزل )) ، رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح .
عن أبي رزين قال : (( كنا نصلي مع علي الجمعة ، فأحياناً نجد فيئاً ، وأحياناً لا نجده )) ، رواه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح على شرط مسلم .
قلت : وهذا يدل لمشروعية الأمرين ، الصلاة قبل الزوال ، والصلاة بعده ، كما هو ظاهر([9]) .
ولهذه الأحاديث والآثار كان الإمام أحمد رحمه الله يذهب إلى جواز صلاة الجمعة قبل الزوال كما سبق ، وهو الحق كما قال الشوكاني وغيره ، وتفصيل القول في هذه المسألة لا تحتمله هذه العجالة ، فلتراجع في المطولات كـ "نيل الأوطار" ، و "السيل الجرار" (1/296–297) ، وغيره .
ومما سبق تعلم الجواب عن السؤال الثاني الوارد في الفقرة الرابعة : (( فمتى تصلى السنة القبلية إذا ثبتت ؟ )) .
وهو أنه لا أصل لهذه السنة في السنة الصحيحة ، ولا مكان لها فيها ، فقد عملت من الأحاديث المتقدمة أن الزوال فالأذان فالخطبة فالصلاة ؛ سلسلة متصلة آخذ بعضها برقاب بعض ، فأين وقت هذه السنة ؟! ولهذا المعنى يشير كلام الحافظ العراقي : (( لم ينقل عن النبي r أنه كان يصلي قبل الجمعة ؛ لأنه كان يخرج إليها ، فيؤذن بين يديه ، ثم يخطب ))([10]) .
وقد انتبه لهذا بعض علماء الحنفية ؛ حين ذهبوا إلى أنه إنما يجب السعي وترك البيع يوم الجمعة بالأذان الأول ، الذي يكون قبل صعود الخطيب ، وقالوا : إنه هو الصحيح في المذهب ، مع علمهم أنه لم يكن في زمن النبي r زمن نزول الآية : ] إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الآية ، و أنـها نزلت في الأذان الذي عند صعود الخطيب على المنبر كما تقدم ، علموا هذا كله لشهرته في كتب السنة ، ولم يكتفوا بذلك ، بل وضعفوا قول الطحاوي منهم الذي وافق ما في السنة بقوله : إن الأذان الذي يجب به ترك البيع إنما هو الذي عند صعود الخطيب ، فقالوا : (( لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من السنة القبلية … الخ ))([11]) !.
فهذا اعتراف ضمني بأن السنة القبلية المزعومة لم تكن معروفة في العهد النبوي ، وأن الصحابة كانوا لا يصلونـها ؛ لأنه لم يكن آنئذ الوقت الذي يتمكنون فيه من أدائها ، وهذا أمر صحيح ،
ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد في هدي خير العباد" : (( ومن ظن أنـهم كانوا إذا فرغ بلال من الأذان ، قاموا كلهم فركعوا ركعتين ؛ فهو أجهل الناس بالسنة )) .
وتعقبه الكمال ابن الهمام في "فتح القدير" (1/422) ، فقال بعد أن نقل معنى كلامه دون أن يعزوه إليه : (( وهذا مدفوع بأن خروجه r كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما يصلي الأربع ، ويجب الحكم بوقوع هذا المجوز ؛ لما قدمنا في باب النوافل من عموم أنه كان يصلي إذا زالت الشمس أربعاً ، ويقول : (( هذه ساعة تفتح فيها أبواب السماء ، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح )) ، وكذا يجب في حقهم ؛ لأنـهم أيضاً يعلمون الزوال )) .
قلت : وهذا التعقب لا طائل تحته ، وهو مردود من وجوه :
أولاً : أنه بناه على أن خروجه r كان بعد الزوال بالضرورة ، وليس كذلك على الإطلاق ،
بل كان يخرج أحياناً قبل الزوال كما تقدم .
ثانياً : تقدم أنه r كان يبادر إلى الصعود على المنبر عقب الزوال مباشرة ، فأين الوقت الذي يتسع لهذا الأمر المجوز ؟! .
ثالثاً : لو أن النبي r كان يصلي أربع ركعات بعد الزوال ، و قبل الأذان لنقل ذلك عنه ،
ولا سيما أن فيه أمراً غريباً غير معهود مثله في بقية الصلوات ، وهو الصلاة قبل الأذان ، ومثله صلاة الصحابة جميعاً لهذه السُنّة في وقت واحد في المسجد الجامع ، فإن هذا كله مما تتوافر الدواعي على نقله ، وتتضافر الروايات على حكايته ، فإذا لم ينقل شيء من ذلك ، دل على أنه
لم يقع ، وقد قال أبو شامة في كتابه : "الباعث على إنكار البدع والحوادث" : (( فإن قلت : لعله r صلى السُنّة في بيته بعد زوال الشمس ثم خرج ؟ ، قلت : لو جرى ذلك لنَقَلَه أزواجه رضي الله عنهن ، كما نقلن سائر صلواته في بيته ليلاً ونـهاراً ، وكيفية تـهجده وقيامه بالليل ، وحيث
لم ينقل شيء من ذلك فالأصل عدمه ، ودل على أنه لم يقع وأنه غير مشروع )) .
قلت : وأما الحديث الذي رواه أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن ياسر في (( حديث أبي القاسم علي بن يعقوب )) (108) ، عن إسحق بن إدريس : ثنا أبان : ثنا عاصم الأحول عن نافع عن عائشة مرفوعاً بلفظ : (( كان يصلي قبل الجمعة ركعتين في أهله )) ، فهو باطل موضوع ، وآفته إسحق هذا ؛ وهو الأسواري البصري ، قال ابن معين : (( كذاب يضع الحديث )) .
قلت : وتفرد هذا الكذاب برواية هذا الحديث من الأدلة الظاهرة على صدق قول أبي شامة : إنه لو جرى ذلك لنقله أزواجه ، وذلك لأنه لو وقع لنقله الثقات الذين تقوم بـهم الحجة ، ولا يعقل أن يصرفهم الله عن نقله ، ويخص به أمثال هذا الكذاب ، فذلك دليل على اختلاقه لهذا الحديث ،
وأنه لا أصل له .
رابعاً : أن العموم الذي ادعاه في الحديث الذي أشار إليه غير صحيح عند التأمل في نصه الوارد في كتب السنة المطهرة ، بل هو خاص بصلاة الظهر ، وإنما جره إلى هذا الخطأ خطأ آخر وقع له في نقل الحديث في المكان الذي أشار إليه وأحال عليه ، فقد قال فيه (1/317) : (( أخرج أبو داود في "سننه" ، والترمذي في "الشمائل" عن أبي أيوب الأنصاري عنه r قال : (( أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم ، تفتح لهن أبواب السماء )) ، وضعف بعبيدة من معتب الضبي .
وله طريق آخر ؛ قال محمد بن الحسن في "الموطأ" : حدثنا بكر بن عامر البجلي عن إبراهيم
والشعبي عن أبي أيوب الأنصاري أنه r كان يصلي أربعاً إذا زالت الشمس ، فسأله أبو أيوب عن ذلك ؟ فقال : إن أبواب السماء تفتح في هذه الساعة ، فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير، قلت : أفي كلهن قراءة ؟ قال : نعم ، قلت : أيفصل بينهن بسلام ؟ قال : لا )) ، والعموم الذي سبق أن أشار إليه هو قوله : (( كان يصلي أربعاً إذا زالت الشمس )) ، وصحيح أن هذا عموم ، وأنه يشمل زوال الجمعة كما يشمل زوال الظهر ، ولكن ليس صحيحاً نقله بـهذا اللفظ الشامل ، فإن سياقه في "موطأ محمد"(ص158) هكذا: (( كان يصلي قبل الظهر أربعاً إذا زالت الشمس )) الحديث ، وهكذا نقله الزيلعي في "نصب الراية" (2/142) عن "الموطأ" ، فقد عاد الحديث إلى أنه خاص بصلاة الظهر وزواله ، كما رجع حجة عليه ، لا له .
ومثل هذا الحديث ، بل أصرح منه حديث عبد الله ابن السائب : (( أن رسول الله r كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر ، وقال : إنـها ساعة تفتح فيها أبواب السماء ،
وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح )) .
أخرجه أحمد (3/411)، والترمذي (2/343) وحسنه ، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
فانظر إلى النكتة في قوله : (( قبل الظهر )) ، عقب قوله : (( بعد أن تزول الشمس )) ، فإن كل أحد يعلم أن الزوال إنما يكون قبل الظهر ، فإنما قيّده بذلك ليخرج من عموم : (( بعد أن تزول الشمس )) صلاة الجمعة ، فقد آب الحديث متفقاً مع الأحاديث المتقدمة النافية لسنة الجمعة القبلية .
خامساً : لو سلمنا بـ (( عمومية الحديث )) لقلنا بأنه من العام المخصوص بدليل النصوص المتقدمة ، ولهذا لا يقال : إن العلة المذكورة فيه : (( إنـها ساعة … الخ )) تقتضي أنه r كان يصلي قبل الجمعة أيضاً ؛ لأنا نقول : يمنع من ذلك الأدلة المشار إليها ، على أن غاية ما تفيده هذه العلة محبته r أن يصعد له في تلك الساعة عمل صالح ، ولا نشك في أن ذلك كان حاصلاً له r يوم الجمعة أكثر من غيره من الأيام ، ذلك لأنه في تلك الساعة كان يخطب خطبة الجمعة التي لا بد منها ، يعظ الناس ، ويذكرهم بربـهم ، ويعلمهم أمور دينهم ، فذلك أفضل له r من أربع ركعات فائدتـها خاصة به ، بينما تلك فائدتـها عائدة إلى المجموع ، فكانت أفضل .
سادساً : روى البخاري (1/394) عن ابن عمر قال : (( صليت مع رسول الله r ركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعد الظهر ، وركعتين بعد الجمعة ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء )) ، ورواه مسلم (2/162) ، وزاد : (( فأما المغرب والعشاء والجمعة ، فصليت مع النبي r في بيته )) .
فهذا كالنص على أنه r كان لا يصلي قبل الجمعة شيئاً لا في البيت ولا في المسجد ، إذ لو كان شيء من ذلك ؛ لنقله لنا ابن عمر رضي الله عنه كما نقل سنتها البعدية ، وسنة الظهر القبلية ، فذكر هذه السنة للظهر دون الجمعة أكبر دليل على أنه ليس لها سنة قبلية ، فبطل بذلك دعوى وقوع (( هذا المجوز )) ! كما يبطل به دعوى قياس الجمعة على الظهر في السنة القبلية ! .
لم يقل أحد من الأئمة بالسنة القبلية :
فثبت مما تقدم أن لا دليل في حديث أبي أيوب على سنية أربع ركعات قبل الجمعة بعد الزوال ، (( ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة موقتة بوقت ، مقدرة بعدد ؛ لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي r أو فعله ، وهو لم يسن في ذلك شيئاً ، لا بقوله ولا بفعله ، وهذا مذهب مالك و الشافعي وأكثر أصحابه ، وهو المشهور في مذهب أحمد ))([12]) .
وقال العراقي : (( ولم أر للأئمة الثلاثة ندب سنة قبلها ))([13]).
وأما الحديث الذي أخرجه ابن ماجه (1/347) عن ابن عباس قال : (( كان النبي r يركع قبل الجمعة أربعاً ، لا يفصل في شيء منهن )) .
فإسناده ضعيف جداً ؛ كما قال الزيلعي في "نصب الراية" (2/206) ، وابن حجر في "التلخيص" (4/626) ، وقال النووي في "الخلاصة" : (( إنه حديث باطل )) .
وتفصيل القول في ضعفه يراجع في "زاد المعاد" (1/170–171) ، و"الباعث" (ص75) ،
و"سلسلة الأحاديث الضعيفة" رقم (1001) من المجلد الثالث ، وقد صدر حديثاً ، و الحمد لله.
ولا يغيب عنا أن في الباب أحاديث أخرى عن ابن عباس ، ولكن أسانيدها ضعيفة أيضاً ، فإن مدارها على ضعفاء و مجاهيل ، و قد ضعفها كلها الحافظ في "الفتح" (2/341) ، فاقصده إن شئت .
ثم تكلمت بصورة خاصة مفصّلة على حديث ابن مسعود وحديث أبي هريرة في المجلد المذكور آنفاً برقم (1016 و1017) .
ولذلك رأيت ابن الهمام فيما سبق ينصرف عن الاحتجاج بشيء منها إلى الاحتجاج بما صح سنده ، ولكن ليس له علاقة بالباب ، وقد سبقه إلى نحو ذلك النووي رحمه الله ، فاحتج بحديث آخر صحيح ، لكنه غير صريح في دلالته ، وهو ما أخرجه أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح على شرط البخاري عن أيوب عن نافع قال : (( كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ، و يصلي بعدها ركعتين في بيته ، ويحدث أن رسول الله r كان يفعل ذلك )) .
فهذا ظاهره أنه r كان يفعل كلاً من الأمرين : الصلاة قبل الجمعة ، والصلاة بعدها ، ولكن الأول غير مراد ؛ كما سبق في رواية البخاري عن ابن عمر (ص 54 – 55) ، وكما بيَّنَتْهُ رواية أخرى ؛ قال الحافظ في "الفتح" (2/341) : (( احتج به النووي في "الخلاصة" على إثبات سنة الجمعة التي قبلها ، وتعقب بأن قوله : (( كان يفعل ذلك )) عائد على قوله : (( ويصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته )) ، ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله أنه كان إذا صلى الجمعة ؛ انصرف فسجد سجدتين في بيته ، ثم قال : كان رسول الله r يصنع ذلك )) ، أخرجه مسلم .
قال الحافظ : (( وأما قوله : (( كان يطيل الصلاة قبل الجمعة )) ، فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعاً ؛ لأنه r كان يخرج إذا زالت الشمس ، فيشتغل بالخطبة ،
ثم بصلاة الجمعة ، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة ، لا صلاة راتبة ، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها ، بل هو نفل مطلق ، وقد ورد الترغيب فيه كما تقدم في حديث سلمان وغيره ، حيث قال فيه : ثم صلى ما كتب له )) .
وحديث سلمان المشار إليه آنفاً في كلام الحافظ لفظه عند البخاري: (( لا يغتسل رجل يوم الجمعة ، ويتطهر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهن ، أو يمس من طيب بيته ، ثم يخرج ،
فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام ؛ إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى )) ، وأخرجه النسائي والدارمي .
قلت : فهذا الحديث يبين بجلاء وظيفة الداخل إلى المسجد يوم الجمعة في أي وقت كان ، وهي أن يصلي ما قدر له ، ( و في حديث آخر : (( ما بدا له )) ) حتى يخرج الإمام ، فينصت له ، فهو دليل صريح أو كالصريح على جواز الصلاة قبل الزوال يوم الجمعة ، وذلك من خصوصيات هذا اليوم كما بين المحقق ابن القيم في "الزاد" (1/143) ، واحتج له بـهذا الحديث ، فقال عقبه :
(( فندبه إلى صلاة ما كتب له ، و لم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام ، لا انتصاف النهار )) .
ثم ذكر مذاهب العلماء في الصلاة قبل الزوال ، وهي ثلاثة : مباح مطلقاً يوم الجمعة وغيره ،
ومكروه مطلقاً ، والثالث أنه وقت كراهة إلا يوم الجمعة ، وهو مذهب الشافعي ، وهو الحق الذي اختاره جماعة من الحنفيين وغيرهم ، وهو قول الإمام أبي يوسف رحمه الله ، وهو المعتمد المصحح في المذهب كما في "الأشباه والنظائر"، وعليه الفتوى كما في الطحطاوي على "مراقي الفلاح" .([14])
وعلى هذا جرى عمل الصحابة رضي الله عنهم ، فروى ابن سعد في "الطبقات" (8/360) بإسناد صحيح على شرط مسلم عن صافية قالت : (( رأيت صفية بنت حيي ( وهي من أزواج النبي r ماتت في ولاية معاوية ) ، صلت أربعاً قبل خروج الإمام ، وصلت الجمعة مع الإمام ركعتين )) .
وفي "الزاد" قال ابن المنذر : روينا عن ابن عمر أنه كان يصلي قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة ،
وعن ابن عباس أنه كان يصلي ثمان ركعات ، وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق ، ولذلك اختلف العدد المروي عنهم في ذلك ، وقال الترمذي : (( وروي عن ابن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعاً ، وبعدها أربعاً ، وإليه ذهب ابن المبارك والثوري )) .
وقال أبو شامة (ص70) بعد أن نقل قول ابن المنذر المذكور : (( ولذلك اختلف العدد المروي عنهم ، وباب التطوع مفتوح ، ولعل ذلك كان يقع منهم أو معظمه قبل الأذان ودخول وقت الجمعة ؛ لأنـهم كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج الإمام ، وقد فعلوا مثل ذلك في صلاة العيد ، وقد علم قطعاً أن صلاة العيد لا سنة لها ، وكانوا يصلون بعد ارتفاع الشمس في المصلى ، وفي البيوت ، ثم يصلون العيد، روي ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، وبوب له الحافظ البيهقي باباً في "سننه" ثم الدليل على صحة ذلك أن النبي r كان يخرج من بيته يوم الجمعة فيصعد منبره ، ثم يؤذن المؤذن فإذا فرغ ؛ أخذ النبي r في خطبته ، ولو كان للجمعة سنة قبلها لأمرهم بعد الأذان بصلاة السنة ، وفعلها هو r، ولم يكن في زمن النبي r غير هذا الأذان، وعلى ذلك مذهب المالكية إلى الآن)).
وقد يشير إلى أنه لا سنة للجمعة قبلها قوله r : (( إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً ))([15]).
فإنه لو كان قبلها سنة لذكرها في هذا الحديث مع السنة البعدية ، فهو أليق مكان لذكرها .
والخلاصة : إن المستحب لمن دخل المسجد يوم الجمعة في أي وقت أن يصلي قبل أن يجلس
ما شاء نفلاً مطلقاً غير مقيد بعدد ، ولا موقت بوقت ، حتى يخرج الإمام ، أما أن يجلس عند الدخول بعد صلاة التحية أو قبلها، فإذا أذن المؤذن بالأذان الأول ؛ قام الناس يصلون أربع ركعات ؛ فمما لا أصل له في السنة ، بل هو أمر محدث ، و حكمه معروف .
وقد يتوهم متوهم أن هذا القيام و الصلاة كان معروفاً على عهد عثمان ، وأن من أسباب أمره بالأذان الأول هو إيجاد فسحة من الوقت بينه وبين الأذان الثاني ؛ ليتمكنوا من السنة القبلية !
وهذا مع أنه مما لا دليل عليه وإنما هو مجرد ظن ، والظن لا يغني من الحق شيئاً – ومع أنه لم ينقل – فإن في حديث السائب السابق ما يبعد وقوعه ، ففيه : (( أن الأذان الأول كان في السوق )) ،
والسنة القبلية لا تكون في السوق عادة ، بل في المسجد ، ومن كان فيه لا يسمعه حتى يصلي حينئذ ! ثم إنه لم ينقل أيضاً أن هشاماً لما نقل الأذان العثماني من الزوراء إلى باب المسجد ، ونقل الأذان النبوي منه إلى داخل المسجد كما تقدم ، لم ينقل أنـهم كانوا يصلون بين الأذانين ، ولو فعلوا
لما كان في ذلك حجة ؛ لأنه بعد انقراض عهد الصحابة ، وما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ؛ كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى .
ولذلك قال ابن الحاج في "المدخل" (2/239) : (( وينهى الناس عما أحدثوه من الركوع بعد الأذان الأول للجمعة ؛ لأنه مخالف لما كان عليه السلف رضوان الله عليهم ؛ لأنـهم كانوا على قسمين : فمنهم من كان يركع حين دخوله المسجد ، ولا يزال كذلك حتى يصعد الإمام المنبر ، فإذا جلس عليه قطعوا تنفلهم ، ومنهم من كان يركع و يجلس حتى يصلي الجمعة ، ولم يحدثوا ركوعاً بعد الأذان الأول ولا غيره ، فلا المتنفل يعيب على الجالس ، ولا الجالس يعيب على المتنفل ،
وهذا بخلاف ما هم اليوم يفعلونه ، فإنـهم يجلسون حتى إذا أذن المؤذن قاموا للركوع ([16]) ! فإن قال قائل : هذا وقت يجوز فيه الركوع ، فقد روى الإمام البخاري عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : بين كل أذانين صلاة ، قالها ثلاثاً ، وقال في الثالثة : لمن شاء ، فالجواب أن السلف رضوان الله عليهم أفقه بالحال ، وأعرف بالمقال ، فما يسعنا إلا اتباعهم فيما فعلوه )).
قلت : وهذا الجواب غير كاف ولا شاف ؛ لأنـه أوهم التسليم بأن الحديث يدل على مشروعية قصد الصلاة بين أذان عثمان والأذان النبوي، وليس كذلك ، فلا بد إذن من توضيح ذلك، فأقول :
إن الحديث لا يدل على ذلك البتة ؛ لأن معنى قوله فيه : (( أذانين )) ، أي : أذان وإقامة ، قال الحافظ : (( وقد جرى الشراح على أن هذا من باب التغليب ، كقولهم : ( القمرين ) للشمس
والقمر ، ويحتمل أن يكون أطلق على الإقامة أذان ؛ لأنـها إعلان بحضور فعل الصلاة ، كما أن الأذان إعلام بدخول الوقت )) .
قلت : و سواء كان هذا أو ذاك ، فالمراد بالأذان الثاني فيه الإقامة قولاً واحداً ، فإذا كان الأمر كذلك فلا يصلح دليلاً لما ذهب إليه القائل المذكور .
ثم إننا لو فرضنا أن الحديث على ظاهره ، وأنه يشمل أذان عثمان ، مع أنه لم يكن في عهده r اتفاقاً ؛ لما دل إلا على استحباب صلاة مطلقة غير مقيدة بعدد ، وليس البحث في ذلك ، وإنما هو في كونـها سنة راتبة مؤكدة ، وفي كونـها أربع ركعات ، فهذا مما لا يقوم بصحته دليل ، لا هذا الحديث ولا غيره ؛ كما تقدم بيانه مفصلاً .
ويؤيد ما ذكرته أن أحداً من العلماء لم يستدل بالحديث المذكور على سنية صلاة معينة بركعات محدودة بين الأذانين ، وخاصة أذان المغرب وإقامته ، بل غاية ما قالوا : إنه يدل على الندب فقط ، وعلى صلاة مطلقة غير محدودة الركعات ، فليكن الأمر كذلك هنا على الفرض الذي ذكرنا ،
وهذا ظاهر لمن أنصف .
ولكن الحق أن الحديث لا يدل على مشروعية التنفل إطلاقاً بين أذاني الجمعة ؛ كما سبق بيانه في أول البحث ، فهو المعتمد .
هذا ؛ وأما قول السائل في هذه الفقرة : وهل تصلى السنة عقب دخول الوقت بلا أذان ؟ )).
فنقول : يجب أن يتولى الإجابة عن هذا الذين يذهبون إلى مشروعية هذه السنة ، وأما نحن الذين لا نرى مشروعيتها ؛ فالسؤال غير وارد علينا ، وإنما نقول كلمة موجزة ، وهي كالخلاصة لهذا البحث المتقدم :
إن الثابت في السنة ، والذي جرى عليه عمل الصحابة هو الصلاة قبل الأذان وقبل الوقت صلاة مطلقة غير مقيدة بوقت ولا بعدد ، فمن كان مقتدياً فبهداهم فليقتد ، فإن خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتـها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
والخلاصة ؛ أن الذي ثبت في السنة و جرى عليه السلف الصالح رضي الله عنهم هو :
أولاً : الاكتفاء بالأذان الواحد ، عند صعود الخطيب على المنبر .
ثانياً : أن يكون خارج المسجد على مكان مرتفع .
ثالثاً : أنه إن احتيج إلى أذان عثمان ؛ فمحله خارج المسجد أيضاً في المكان الذي تقتضيه المصلحة ، ويحصل به التسميع أكثر .
رابعاً : إن الأذان في المسجد بدعة على كل حال ، وإن لصلاة الجمعة وقتين بعد الزوال
وقبله .
خامساً : إن من دخل المسجد قبل الأذان صلى نفلاً مطلقاً ما شاء من الركعات .
سادساً : إن قصد الصلاة بين الأذان المشروع والأذان المحدث – تلك التي يسمونـها سنة الجمعة القبلية – لا أصل لها في السنة ، ولم يقل بـها أحد من الصحابة والأئمة .
وهذا آخر ما تيسر تحريره من الإجابة على الأسئلة المقدمة ، أرجو من الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وسبباً للفوز بالنعيم المقيم ، ونجاة من عذاب الجحيم ، إنه هو البر الرحيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
دمشق : نـهار الخميس 24رمضان 1370هـ
28حزيران 1951م
كتبه
خادم السنة المطهرة
محمد ناصر الدين نوح الألباني
أبو عبد الرحمن
أحكام الجمعة
ثم إنني بعد أن قدمت رسالة "الأجوبة النافعة" للطبع ، وقفت على كتاب "الموعظة الحسنة
بما يخطب في شهور السنة" ( 1 ) تأليف العلامة المحقق أبو الطيب صديق حسن خان ، فرأيت فيه فصلاً خاصاً في ( الكلام على صلاة الجمعة ) (ص7 – 35) ، تكلم فيه كما قال : " على أمهات مسائل ، ثبتت من السنة المطهرة ، وصح دليلها ، وغالبها مما حقق القول فيه في كتابه الآخر "الروضة الندية" ، بل هو أحياناً ينقل منها بعض المسائل بالحرف الواحد .
فرأيت أن ألخص جل تلك المسائل ، وأذيل بها هذه الرسالة لما فيها من التحقيق والتدقيق الذي عرف به المؤلف رحمه الله تعالى ، وكان لا بد من التعليق على بعضها ، حينما يقتضي ذلك التحقيق العلمي ، والنصح الديني ، وأعرضت عن ذكر بعضها ، إما لأنه مما لا ضرورة إلهيا ،
أو لم يقم الدليل العلمي على صحتها .
والله أسأل أن يجزي المؤلف ، والمنفق على طبعه والقائم عليه خير الجزاء ، وأن ينفع به القراء ، إنه خير مسؤول .
حكم صلاة الجمعة ( 1 ) :
1 – الجمعة حق على كل مكلف ، واجبة على كل محتلم ، بالأدلة المصرحة بأن الجمعة حق على كل مكلف ، وبالوعيد الشديد على تاركها ، وبهمه r بإحراق المتخلفين عنها( 2 ).
وليس بعد الأمر القرآني المتناول لكل فرد في قوله تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [ ]الجمعة : 9 [حجة بينة واضحة . وقد أخرج أبو دواود من حديث طارق بن شهاب أن النبي r قال: (( الجمعة حق واجب على كل مسلم]في جماعة[إلا أربعة : عبد مملوك ، أو امرأة ، أو صبي ، أو مريض )) . وقد صححه غير واحد من الأئمة.
الإمام الأعظم ! :
2 – لا يشترط الإمام الأعظم للجمعة ، ولو كان مجرد إقامتها ـ r أو بمن هو من جهته ـ يستلزم اشتراط الإمام الأعظم فيها ، لكان الإمام الأعظم شرطاً في سائر الصلوات ، لأنها لم تقم إلا به في عصره r أو بمن يأمره بذلك ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله .
والحاصل أنه ليس على هذا الاشتراط أثارة من علم ، بل لم يصح ما يروى في ذلك عن بعض السلف ، فضلاً عن أن يصح فيه شيء عن النبي r ومن طول المقال في هذا المقام فلم يأت بطائل قط ( 3 ) .
العدد في الجمعة :
3 – صلاة الجماعة قد صحت بواحد مع الإمام ، وصلاة الجمعة هي صلاة من الصلوات ، فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة ، فعليه الدليل ، ولا دليل ، والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد حتى بلغت إلى خمس عشر قولاً ، ليس على شيء منها دليل يستدل له قط ،
إلا قول من قال : إنها تنعقد جماعة الجمعة بما تنعقد به سائر الجماعة ، كيف والشروط إنما تثبت بأدلة خاصة تدل على انعدام المشروط عند انعدام شرطه ، فإثبات مثل هذه الشروط بما ليس بدليل أصلاً ، فضلاً على أن يكون دليلاً على الشرطية مجازفة بالغة ، وجرأة على التقول على الله وعلى رسوله r وعلى شريعته .
لا أزال أكثر التعجب من وقوع مثل هذا للمصنفين ، وتصديره في كتب الهداية ، وأمر العوام والمقصرين باعتقاده والعمل به ، وهو على شفا جرف هاو ، ولم يختص هذه بمذهب من المذاهب، ولا بقطر من الأقطار ، ولا بعصر من العصور، بل تبع فيه الآخر الأول ، كأنه أخذه من أم الكتاب ! وهو حديث خرافة !
فيا ليت شعري ما بال هذه العبادة من بين سائر العبادات تثبت لها شروط وفروض وأركان بأمور لا يستحل العالم المحقق بكيفية الاستدلال أن يجعل أكثرها سنناً ومندوبات ؛ فضلاً عن فرائض وواجبات ، فضلاً عن شرائط ؟ !
والحق أن هذه الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه ، وشعار من شعائر الإسلام ، وصلاة
من الصلوات ، فمن زعم أنه يعتبر فيها ، ما لا يعتبر في غيرها من الصلوات ، لم يسمع منه ذلك
إلا بدليل.
فإذا لم يكن في المكان إلا رجلان ، قام أحدهما يخطب ، واستمع له الآخر ثم قاما فصليا
] فقد صليا [( 1 )صلاة الجمعة .
والحاصل أن جميع الأمكنة صالحة لتأدية هذه الفريضة ( 2 )، إذا سكن فيها رجلان مسلمان كسائر الجماعات ـ بل لو قال قائل : إن الأدلة الدالة على صحة صلاة المنفرد شاملة لصلاة الجمعة ـ لم يكن بعيداً عن الصواب ( 3 ) .
تعدد الجمعة في البلد الواحد :
4 – صلاة الجمعة صلاة من الصلوات ، يجوز أن تقام في وقت واحد جمع متعددة في مصر واحد ، كما تقام جماعات سائر الصلوات في المصر الواحد ، ومن زعم خلاف هذا ، كان مستند زعمه مجرد الرأي ، وليس ذلك بحجة على أحد ، وإن كان مستند زعمه الراوية ، فلا رواية .
والحاصل أن المنع من جمعتين في مصر واحد ، إن كان لكون من شرط صلاة الجمعة أن لا يقع مثلها في موضع واحد أو أكثر فمن أين هذا ؟! وما الذي دل عليه ؟! فإن كان مجرد أنه r
لم يأذن فإقامة جمعته في المدينة وما كان يتصل لها بها من القرى ، فهذا مع كونه لا يصح الاستدلال على الشرطية المقتضية للبطلان ، بل ولا على الوجوب الذي هو دونها ، يستلزم أن يكون الحكم هكذا في سائر الصلوات الخمس ( 1 ) فلا تصح الصلاة جماعة في موضع لم يأذن النبي r بإقامة الجماعة فيه ، وهذا من أبطل الباطلات . وإن كان الحكم ببطلان المتأخرة من الجمعتين ( 2 ) إن علمت ـ وكلتيهما مع اللبس ـ لأجل حدوث مانع فما هو ؟ فإن الأصل صحة الأحكام التعبدية في كل مكان وزمان إلا أن يدل الدليل على المنع ، وليس ههنا من ذلك شيء البتة ( 3 ) .
من فاتته الجمعة ماذا يصلي ؟
5 – الجمعة فريضة من الله عز وجل فرضها على عباده ، فإذا فأتت لعذر فلابد من دليل على وجوب صلاة الظهر ، وفي حديث ابن مسعود (( ومن فاتته الركعتان فليصل أربعاً )) ( 1 ). فهذا يدل على أن ما فاتته الجمعة صلىَّ ظهراً .
وأما ما ذكره أهل الفروع من فوائد الخلاف في هذه المسألة ، فلا أصل لشيء من ذلك .
بماذا تدرك الجمعة :
6 – أخرج النسائي من حديث أبي هريرة بلفظ : (( من أدرك ركعة من الجمعة ، فقد أدرك الجمعة )) .
ولهذا الحديث أثنا عشر طريقاً ، صحح الحاكم ثلاثاً منها . قال في "البدر المنير" : هذه الطرق الثلاث أحسن طرق هذا الحديث والباقي ضعاف .
وأخرجه النسائي وابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عمر ، وله طرق ، وقال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام" : ( إسناده صحيح ] ولكن قوَّى [( 1 ) أبو حاتم إرساله ) . فهذه الأحاديث تقوم بها الحجة ) ( 2 ) .
حكم الجمعة في يوم العيد :
7 ـ ظاهر حديث زيد ابن أرقم عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ : (( أنه r صلىَّ العيد ، ثم رخص في الجمعة ، فقال : من شاء أن يصلي فليصل )) . يدل على أن الجمعة تصير بعد صلاة العيد رخصة لكل الناس ( 1 )، فإن تركها الناس جميعاً ، فقد عملوا بالرخصة ، وإن فعلها بعضهم فقد استحق الأجر ، وليست بواجبة عليه من غير فرق بين الإمام وغيره .
وهذا الحديث قد صححه ابن المديني ، وحسنه النووي . وقال ابن الجوزي : هو أصح ما في الباب( 2 ).
وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم عن واهب بن كيسان قال : اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير ، فأخر الخروج حتى تعالى النهار ، ثم خرج فخطب ، فأطال الخطبة ، ثم نزل فصلى ،
ولم يصلِّ الناس يومئذ الجمعة ، فذكر ذلك لابن عباس رضي الله عنهما ، فقال : أصاب السنة. ورجاله رجال الصحيح .
وأخرجه أيضاً أبو داود عن عطاء بنحو ما قال وهب بن كيسان.ورجاله رجال الصحيح ( 1 ).
وجميع ما ذكرناه يدل على أن الجمعة بعد العيد رخصة لكل أحد ، وقد تركها ابن الزبير في أيام خلافته كما تقدم ؛ ولم ينكر عليه الصحابة ذلك .
حكم غسل الجمعة :
8 ـ الأحاديث الصحيحة الثابتة في "الصحيحين" وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قاضية بوجوب الغسل للجمعة ، ولكنه ورد ما يدل على عدم الوجوب أيضاً عند أصحاب "السنن" ، يقوي بعضه بعضاً ، فوجب تأويله على أن المراد بـ ( الوجوب ) تأكيد المشروعية جمعاً بين الأحاديث ، وإن كان لفظ " واجب " لا يصرف عن معناه ، إلا إذا ورد ما يدل على صرفه
كما نحن بصدده ، لكن الجمع مقدم على الترجيح ، ولو كان بوجه بعيد ( 2 ) .
واعلم أن حديث (( إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل )) يدل على أن الغسل لصلاة الجمعة؛ وأن من فعله لغيرها لم يظفر بالمشروعية ، سواء فعله في أول اليوم أو في وسطه أو في آخره .
ويؤيد هذا ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان مرفوعاً : (( من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل )) زاد ابن خزيمة : (( ومن لم يأتها فليس عليها غسل )) .
حكم خطبة الجمعة :
9 ـ قد ثبت ثبوتاً يفيد القطع أن النبي r ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة التي شرعها الله سبحانه وتعالى . وقد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إلى ذكر الله عز وجل ، والخطبة من ذكر الله ، إذا لم تكن هي المرادة بالذكر ، فالخطبة سنة ، لا فريضة .
وأما كونها شرطاً من شروط الصلاة فلا ؛ فإنا لم نجد حرفاً من هذا في السنة المطهرة ، بل لم نجد فيها قولاً يشتمل على الأمر بها الذي يستفاد منه الوجوب فضلاً عن الشرطية ؛ وليس هناك إلا مجرد أفعال محكية عن رسول الله r أنه خطب ، وقال في خطبته كذا ؛ وقرأ كذا . وهذا غاية ما فيه أن تكون الخطبة قبل صلاة الجمعة سنة من السنن المؤكدة ، لا واجبة ، فضلاً عن أن تكون شرطاً للصلاة . والفعل الذي وقعت المداومة عليه ، لا يستفاد منه الوجوب ، بل يستفاد منه أنه سنة من السنن المؤكدة . فالخطبة في الجمعة سنة من السنن المؤكدة ، وشعار من شعائر الإسلام لم تترك منذ شرعت إلى موته r ( 1 ).
صفة الخطبة وما يعلم فيها :
10 ـ اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده r من ترغيب الناس وترهيبهم ، فهذا في الحقيقة هو روح الخطبة الذي لأجله شرعت .
وأما اشتراط الحمد لله ، أو الصلاة على رسول الله r ، أو قراءة شيء القرآن فجميعه خارج عن معظم المقصود ، من شرعية الخطبة ، واتفاق مثل ذلك في خطبه r ، لا يدل على أنه مقصود متحتم ، وشرط لازم ، ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة عليه r . وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً ويقول مقالاً، شرع بالثناء على الله والصلاة على رسوله ، وما أحسن هذا وأولاه ! ولكن ليس هو المقصود ، بل المقصود ما بعده .
والوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث ، فإذا فعله الخطيب فقد فعل الفعل المشروع ، إلا أنه إذا قدم الثناء على الله ، ] والصلاة [على رسوله ، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان اتم وأحسن ، وأما قصر الوجوب بل الشرطية على الحمد والصلاة ، وجعل الوعظ من الأمور المندوبة فقط ، فمن قلب الكلام ، وإخراجه عن الأسلوب الذي تقبله الاعلام .
والحاصل : أن روج الخطبة هو الموعظة الحسنة ، من قرآن أو غيره . وكان رسول الله r يأتي في خطبته بالحمد لله تعالى والصلاة على رسوله r ( 1 ) ، وبالشهادتين ، وبسورة كاملة ، والمقصود الموعظة بالقرآن ، وإيراد ما يمكن من زواجره ؛ وذلك لا يختص بسورة كاملة .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله r إذا خطب ، احمرت عيناه، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم ، ويقول :
أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد r ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة )) أخرجه مسلم .
( وفي رواية له ) : " كانت خطبة النبي r يوم الجمعة يحمد الله ، ويثني عليه ، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته " .
( وفي آخرى له ) : (( من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له )) ( 1 ). وللنسائي عن جابر : (( وكل ضلالة في النار )) ( 2 ) أي بعد قوله : (( كل بدعة ضلالة )) . والمراد بقوله: (( وكل بدعة ضلالة )) صاحبها .
والبدعة لغة ما عمل على غير مثال ، والمراد هنا ما عمل من دون أن سبق له شرعية من كتاب أو سنة .
وفي الحديث دلالة على ضلالة كل بدعة ، وعلى أن قوله هذا ليس عاماً مخصوصاً كما زعم بعضهم .
وفيه دليل على أنه يستحب للخطيب أن يرفع بالخطبة صوته ، ويجزل كلامه ، ويأتي بجوامع الكلم من الترغيب والترهيب . ويأتي بقوله : ( أما بعد ) .
وظاهره أنه كان r يلازمها في جميع خطبه . وذلك بعد الحمد والثناء والتشهد ، كما تفيدها الرواية المشار إليها بقوله : ( وفي رواية له ) الخ. وفيه إشارة إلى أنه كان r يلازم قوله : (( أما بعد فإن خير الحديث )) الخ ، في جميع خطبه( 1 ).
وثبت أنه r قال : " كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء " ( 2 ) .
وكان r يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض أمر أو نهي ، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين ؛ ويذكر معالم الشرائع في الخطبة؛ والجنة والنار والمعاد ، فيأمر بتقوى الله ، ويحذر من غضبه ، ويرغب في موجبات رضاه ، وقد ورد قراءة آية ، ففي حديث مسلم : (( كان لرسول الله r خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويذكر الناس ويحذر )) .
وظاهر محافظته على ما ذكر في الخطبة وجوب ذلك ، لأن فعله بيان لما أجمل في آية الجمعة، وقد قال r : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) ( 3 ). وقد ذهب إلى هذا الشافعي . وقال بعضهم : مواظبته r دليل على الوجوب . قال في "البدر التمام"
وهو الأظهر ). والله أعلم.( 4 )
قصر الخطبة واطالة الصلاة :
11 ـ وعن عمار بن ياسر قال : سمعت رسول الله r يقول : (( إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه )) . رواه مسلم أي مما يعرف به فقه الرجل . وكل شيء دل على شيء فهو مئنة له . وإنما كان قصر الخطبة علامة على ذلك ، لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني وجوامع الألفاظ ، فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة ، ولذلك كان من تمام رواية هذا الحديث : (( فأطيلوا الصلاة ، واقصروا الخطبة ، وإن من البيان لسحرا )) .
والمراد من طول الصلاة الطول الذي لا يدخل فاعله تحت النهي ، وقد كان r يصلي الجمعة
بـ ( الجمعة ) و ( المنافقون ) ، كما عند مسلم عن ابن عباس وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه : (( كان r يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( هل أتاك حديث الغاشية ) )) ( 1 ).
وذلك طول بالنسبة إلى خطبته ، وليس بالطول المنهي عنه . وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت : " ما أخذت ( ق والقرآن المجيد ) إلا من لسان رسول الله r ؛ يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس ) رواه مسلم . وفيه دليل على مشروعية قراءة سورة أو بعضها في الخطبة كل جمعة . وكان محافظته r على هذه السورة اختياراً منه لما هو أحسن في الوعظ والتذكير ، وفيه دلالة على ترديد الوعظ في الخطبة .
أحكام متفرقة :
12 ـ وكان إذا عرضت له حاجة أو سأله سائل ، قطع خطبته وقضى الحاجة ، وأجاب السائل، ثم أتمها ، وكان إذا رأى في الجماعة فقيراً أو ذا حاجة أمر بالتصدق وحرض على ذلك.
وكان إذا ذكر الله تعالى أشار بالسبابة .
وكان إذا اجتمعت الجماعة خرج للخطبة وحده ، ولم يكن بين يديه حاجب ولا خادم ، ولم يكن من عادته لبس الطرحة ولا الطيلسان ، ولا الثوب الأسود المعتاد .
وكان إذا دخل المسجد سلم على الحاضرين لديه ، وإذا صعد المنبر أدار وجهه إلى الجماعة وسلم ثانياً ثم قعد( 1 ) .
تحية المسجد أثناء الخطبة :
13 ـ حاصل ما يستفاد من الأدلة أن الكلام منهي عنه حال الخطبة نهياً عاماً وقد خصص هذا بما يقع من الكلام في صلاة التحية من قراءة وتسبيح وتشهد ودعاء ، والأحاديث المخصصة لمثل ذلك صحيحة ؛ فلا محيص لمن دخل المسجد حال الخطبة من صلاة ركعتي التحية إن أراد القيام بهذه السنة الموكدة والوفاء بما دلت عليه الأدلة ، فإنه r سليكاً الغطفاني لما وصل إلى المسجد حال الخطبة فقعد ولم يصل التحية ، بأن يقوم فيصلي ، فدل هذا على كون ذلك من المشروعات المؤكدة ، بل من الواجبات .
ومن جملة مخصصات التحية حديث : (( إذا جاء أحدكم ]يوم الجمعة [والإمام يخطب فليصلِّ ركعتين )) ( 1 )، وهو حديث صحيح ، متضمن للنص في محل النزاع . وأما ما عدا صلاة التحية من الأذكار والأدعية والمتابعة للخطيب في الصلاة على النبي r وإن وردت بها أدلة قاضية بمشروعيتها فهي أعم من أحاديث منع الكلام حال الخطبة من وجه ، وأخص منها من وجه ، فيتعارض العمومان ، وينظر في الراجح منهما ، وهذا إذا كان اللغو المذكور في حديث: ( ( ومن لغا فلا جمعة له ))( 2 ) يشمل جميع أنواع الكلام ، وأما إذا كان مختصاً بنوع منه ، وهو ما لا فائدة فيه، فليس مما يدل على منع الذكر والدعاء والمتابعة في الصلاة عليه r .
يقول ملخصه محمد ناصر الدين :
والأرجح من الإحتمالين الأول،بدليل قوله r
( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة : أنصت فقد لغوت )) أخرجه الشيخان وغيرهما .
فإن قول القائل : أنصت ، لا يعد لغة من اللغو ، لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومع ذلك فقد سماه عليه الصلاة والسلام : لغواً لا يجوز ، وذلك من باب ترجيح الأهم ، وهو الإنصات لموعظة الخطيب ، على المهم ، وهو الأمر بالمعروف في أثناء الخطبة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكل ما كان في مرتبة الأمر بالمعروف ، فحكمة حكم الأمر بالمعروف ، فكيف إذا كان دونه في الرتبة ، فلا شك أنه حينئذ بالمنع أولى وأحرى ، وهي من اللغو شرعاً . وأما قول المصنف ( ص27 ) وفي "الروضة" ( 140 ) :
" ويمكن أن يقال : إن ذلك الذي قال : ( أنصت ) لم يؤمر في ذلك الوقت بأن يقول هذه المقالة . فكان كلامه لغواً حقيقة من هذه الحيثية " .
فأقول : وكذلك شأن الأذكار التي تررد المؤلف في حكمها هي مما لم يؤمر بها في ذلك الوقت فكانت لغواً أيضاً . والله أعلم .
وبهذا ينتهي تلخيص هذه المسائل من "الموعظة الحسنة" مع ما تيسر من التعليق عليها ، وكان الفراغ من ذلك مساء السبت ، الثاني عشر من شهر صفر سنة 1382 هـ .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين .
محمد ناصر الدين الألباني