وهذي قصة أخرى ..
الدواء
نحن اليوم في آخر أيام الاعتكاف .. أيام جميلة لا تسمع فيها إلا باكيا أو مستغفرا .. ولا ترى فيها إلا راكعا أو طائفا .. إنها أيام الصفاء .. وليالي السماء ..
خرجت من الحرم .. وأنا أنظر إليه نظرة مودع .. أريد أن أشبع عيني من رؤيته .. وأروي نفسي من معينه .. الله أعلم ! لعله آخر اعتكاف ..
الشوارع خاليه .. إلا من بعض الزوار .. يحملون أمتعتهم .. ويشدون رحالهم .. استعدادا للسفر .. كنت أودّ أن أسلم على كل واحد منهم .. وأعانق كل رجل منهم .. الفراق صعب .. وطعمه مر .. كانت رجلاي تقودني إلى سكني بدون شعور عندما رأيت السكن .. تذكرت .. لقد تركت ابني أحمد طريح الفراش في الرابعة من عمره .. كزهرة الحياة .. دخلت .. يا أم أحمد .. كيف حال أحمد ؟ هو هو .. ما زالت السخونة مرتفعة .. لا بأس إن شاء الله .. لعلنا إن وصلنا جدة ذهب هذا كله .. فذلك من أثر الازدحام وحرارة الجو ..
في جدة .. عرضته على طبيب .. سخونة بسيطة .. هذا الدواء .. وسيذهب كله .. أسبوع مضى .. وما زالت السخونة كما هي .. طبيب آخر .. طبيبان .. أطباء .. أصبح الوضع محيرا .. ابني جثة بلا حراك .. أصبح فؤاد أمه فارغا .. أخذته إلى أكبر مستشفى .. التقرير بعد يومين .. وفي الموعد المحدد جئنا إلى المستشفى .. أمه تمشي بدون شعور .. رجلاها لا تقوى على حملها .. لا تتبين مواضع قدميها .. تنظر إلى الأمام كأنما تريد أن تستشف الغيب وأنا أثبت نفسي ببعض الاستغفار والتسبيح ..
بشّر يا دكتور .. كيف النتيجة ..
خير إن شاء الله .. وهذا قضاء الله .. ابنك أحمد عنده سرطان في الدم .. اختلطت الألوان أمامي والأشياء .. أفقت سريعا .. أمسكت بالأم .. كانت قوية صابرة .. استمر الدكتور .. خلايا السرطان تنتشر في جسم الصغير سريعا لابد من العلاج والعلاج في الرياض .. حجزنا .. ذهبنا سريعا .. وصلنا المستشفى ..
التقرير الطبي يقول : الخلايا السرطانية تمتد أكثر وأكثر والعلاج يطول لابد من تغيير الدم كل فترة .. وبدأت رحلة العلاج الطويلة .. رجعنا إلى جدة .. تحسن ابني وعادت له الحياة مرة أخرى .. أشرقت شمس الأمل في نفوسنا .. استعدنا أنفاسنا بعد أن أنفقناها في الجري خلف الأفكار الرديئة .. لكن بعد فترة .. عادت السخونة .. قدمت إجازة من عملي ..
سافرنا .. وفي المستشفى خرج التقرير .. الخلايا السرطانية تمتد أكثر من السابق .. الأمل ضعيف في الحياة .. نزلنا في فندق هناك .. نام الطفل على سريره .. أجلستُ أمه المنهكة من الخوف .. والقلق .. وأشباح الموت .. بقيت وحدي .. كالنائم المستيقظ .. والمستيقظ النائم .. لم أنتبه إلا بالنداء الخالد .. يدعونا إلى بيت الواحد .. توضأت .. فنزل مع الوضوء تعب أمس ..
وفي المسجد .. وجدت أحد الأحبة .. كان زميلي في جدة .. لكنه نقل إلى هنا .. تجاذبنا أطراف الحديث .. شكوت غليه بثي وحزني .. كان هادئا حكيما .. في ختام كلامي .. قال بهدوء .. ألم تجرب القرآن .. هنا شيخ يؤمه الناس .. فيقرأ عليهم القرآن .. فيشفون من أمراضهم وأدوائهم .. بقدرة الله عز وجل ثم بسبب ما يتلوه عليهم من آيات .. وقفت أمامه مندهشا .. وكادت أن تخرج عيناي .. ماذا تقول ؟! أقول لك .. أكابر المستشفيات عجزت .. وكبار الأطباء لم يفلحوا .. وتقول شيخ !!
سبحان الله .. ألم تسمع يا أبا أحمد قول الله عز وجل : " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " ..
نعم نعم .. ولكنه السرطان .. سرطان الدم .. الخلايا السرطانية ..!!
سبحان الله .. السرطان أكبر أم الله .. أتشك يا أبا أحمد في كلام الله ..
لا .. لا .. أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم ..
خرجت من المسجد .. أفكر .. وأفكر .. رفعت بصري إلى الأفق .. فشهدت انبلاج الفجر المنير .. وذهاب الليل المظلم فاستبشرت خيرا .. وتفاءلت فلاحا ..
وفي الضحى .. أخذت ابني وهو جثة بلا حراك .. كأنه في سكرات الموت .. ونهاية الحياة .. قبّلت أمه رأسه .. ودعت لنا .. وصلنا إلى الشيخ .. أخبرته بالقصة .. أمسك ناصية أحمد .. وقرأ بثبات ..
سبحان الله .. ما أشد ثقته بربه .. وبكلام ربه .. بعد القراءة قال لي : تعال إلينا كل يوم لمدة أسبوع .. وهو إلى شفاء إن شاء الله .. كنت آتيه كل يوم .. وصدري منشرح .. وقلبي يعمره الأمل .. وبدأت صحة ابني ترجع إليه .. بدأ ينتفض من رقدته .. كما ينتفض العصفور .. وما مرت السبعة أيام .. إلا وهو يمرح ويلهو .. أخذ يلعب بالمنزل أمام نظر أمه التي شفيت بشفائه .. السعادة تغمرني .. كنت أريد أن أتأكد .. أخذته إلى المستشفى .. خرج التقرير .. لا توجد خلايا سرطانية تماما !!!
سجدت سجدة شكر لله .. تجمع الأطباء .. كل الأطباء .. سألوني .. من شفاه ؟!
قلت : ربي شفاه ..