السلآمـُ عليكمـْ ورحمــ،ـهـُ الله وبركــ،ـآتُهـُ :
بين ليل وصباح
أسكت يا قلبي فالفضاءُ لا يسمعك.
أسكت فالأثير المثقل بالنواح والعويل لن يحمل أغانيك واناشيدك.
أسكت فأشباح الليل لا تحفل بهمس أسرارك ومواكب الظلام لا تقف أمام أحلامـكْ.
أسكت يا قلبي، أسكت حتى الصباح ، فمن يترقب الصباح صابرا يلاقي الصباح قويا. ومن يهوى النور فالنور يهواه.
أسكت يا قلبي واسمعني متكلما.
في الحلم رأيت شحرورا يغرد فوق فوهة بركان ثائر.
ورأيت زنبقة ترفع رأسها بين الثلوج.
ورأيت حورية عارية ترقص بين القبور.
ورأيت طفلا يلعب بالجماجم وهو يضحك.
رأيت جميع هذه الصور في الحلم ، ولما استيقظت ونظرت حولي رأيت البركان هائجـا ولكنني لم أسمع الشحرور مغردا ولا رأيتهُ مرفرفـا.
ورأيت الفضاء ينثر الثلوج على الحقول والأودية ساترا بأكفانه البيضاء أجسام الزنابق الهامده.
ورأيت القبور صفوفا منتصبة أمام سكينة الدهور وليس بينها من يتمايل راقصا ولا من يجثو مصليا.
ورأيت رابية من الجماجم وليس هناك من ضاحك سوى الريح.
في اليقظة رأيت الحزن والأسى فأين ذهبت أفراح الحلم ومسراته ؟
أنى توارت بهجة المنام وكيف إضمحلت رسومه ؟ وكيف تتجلد النفس حتى يعيد النوم اشباح أمانيها وآمالها ؟
أصغ يا قلبي وأسمعني متكلما :
كانت نفسي بالأمس شجرة قوية مسنة تمتد عروقها إلى أعماق الأرض وتتعالى غصونها نحو اللانهاية .
ولقد أزهرت نفسي في الربيع وأثمرت في الصيف ولما جاء جاء الخريف جمعت أثمارها في طبق من الفضة ووضعتها على قارعة الطريق ، فكان العابرون يتناولون منها ويأكلون ثم يسيرون في سبيلهم .
ولما انقضى الخريف وتحولت تهاليله إلى الندب والولولة نظرت فلم أرَ في أطباقي سوى ثمرة واحدة أبقاها الناس لي فتناولتها وأكلتُ فألفيتها مرة كالعلقم ، حامضة كالحصرم . فقلت لنفسي :
ويحي لقد وضعت في أفواه الناس لعنة ، وفي أجوافهم عداء ، فماذا ترى فعلت يا نفسي بالحلاوة التي امتصتها عروقك من أحشاء الأرض ، وبالأريج الذي تشربته قضبانك من نور الشمس ؟
بعد ذلك اقتلعت شجرة نفسي القوية المسنة .
اقتلعتها بعروقها من التربة التي نمت فيها وترعرعت .
اقتلعتها من ماضيها ونزعت عنها ذكرى ألف ربيع وألف خريف .
وعدتُ فزرعتُ شجرة نفسي في مكان آخر .
زرعتها في حقل بعيد عن سبل الزمن ، وكنت أسهر بجانبها قائلا : إن السهر يدنينا من النجوم . وكنت أسقيها بدمي ودموعي قائلا : إن في الدم نكهة ، وفي الدموع حلاوة . ولما عاد الربيع أزهرت نفسي ثانية .
وفي الصيف أثمرت نفسي . ولما جاء الخريف جمعت أثمارها الناضجة بأطباق من الذهب ووضعتها على ملتقى السبل فمر الناس أفرادا وجماعات ولكن لم يمد أحد يده ليتناول منها.
فأخدت إذ ذاك ثمرة وأكلتُ ، فوجدتها حلوة كالشهد ، لذيذة كالكوثر ، طيبة كالخمرة البابلية ، عطرة كأنفاس الياسمين . فصرخت قائلا :
إن الناس لا يريدون البركة في أفواههم ولا الحق في أجوافهم ، لأن البركة ابنة الدموع ، والحق ابن الدماء .
ثم عدت وجلستُ في ظل شجرة نفسي المنفردة في حقل بعيد عن سبل الزمن .