كَمْ نُجيدُ الهزائمَ!
يمكنُ لِعاشِقٍ ، من بابِ المُمْكن، أن يقطفَ روحَ وردةٍ جميلةٍ من حديقةِ جارِه النائمِ في حُلْمِه ليُنْبِتَ برحيقِها شهوةً نبيلةً في روحِ جارتِه البعيدةِ، يمكنُ لشاعِرٍ، وهذا أكيدٌ، أن يكتبَ موتَه بالكلامِ الجميلِ ويحيا مدى الدهر في مرايا التواريخ عاليًا "أيْ خاوِيًا" كالنخيلِ.
يمكن أيضًا لعصفورةٍ أن تطيرَ إلى دفْءِ فصلٍ بعيدٍ لكي تشتهي العودة حارّةً لعُصْفورِها من جديدٍ، يمكن لقاتلٍ ، وهذا احتمالٌ كبيرٌ، أن يستلَّ أنفاسَنا، ثم يُسْكِتُنا فتثورُ فينا العظامُ الرّميمُ وترجُمُه بالجحيمِ، يمكن للغزاةِ، أُسْوةً بالغُزاةِ الذين قَضوْوا نَحْبَهم في سجلاّت تاريخنا، أن يحلموا باحتلالِ الترابِ الذي نبتَ فيه أطفالُنا، يمكن مثلاً أن يقومَ زعيمٌ في جهة مَّا من الأرضِ ويطلُبُ طاعَتَنا فَنُطيعُ، أو يطلُبُ ثورتَنا فنثورُ ويأمرُ فينا الدّماءَ أنْ تذهب في سبيلِ أمانيه، ثمّ نُغنّيه لكيْ ينتشي بانتصاراته فينا. ويمكن أيضًا لكلِّ الرياحِ أن تجتمعَ علينا، وقلوبنا شتَّى، فتكسرَ أعناقَ معانينا.
***
كلُّ الاحتمالاتِ ممكنةٌ إلاّ احتمالُ النَّصْرِ. النّصرُ في هذه اللحظةِ العربيةِ لنْ يحدثَ إلاّ في الوهمِ. ولأنّ الشعوبَ على يقينٍ بأنّ النصرَ من عندِ اللهِ، فقد آمنتْ بالله، وآمنت بهزائمِها اتقاءَ الشبهاتِ. فالذي يحلُمُ بالنصرِ يُفْرَدُ أو يدخل المارستان، والذي يدعو إلى النصر يُحرمُ من حقوقِ الإنسان، ومن ثمّة، صارَتِ الغايةُ تصريفَ الهزيمةِ، وتَبْيِيضِها من وسخِ سوءِ نؤيّاتِ الذين يحلمون بالنصرِ من جنسِنا. لِمَ الانتصارُ؟
أعني لِمَ عدمُ الاحتفالِ بهزائمنا؟ إنّ شعبًا، مثلَ شعبنا العربيِّ، لا يمكنُه سوى الاحتفالُ بهزائمِه نكايةً في أعدائِه، وقد فعلنا: وشربنا نخبَ قتلِ أطفالِنا في غزّةَ والعراقِ، شجبنا علانيةً كلّ المقاوماتِ وحرّضنا أعداءَنا في السِرِّ علينا، وأعلنّا الحربَ على الإرهابِ، من وفرةِ ما فينا من رُهابِ أمريكا وإسرائيل، وعددنا موتاهم في الجنّة وعددنا موتانا في النارِ.
***
كم نُجيدُ الهزيمةَ، بل كم نُجيدُ إخفاءَها عن يقيننا حتى لا تطالَها أحلامُنا بالثورةِ، نحنُ فرحون منهزمون، وقد نبكي ونحزن من هكذا انتصارٍ ممكنٍ، بل قد نُعادي انتصاراتِنا، ونَمْحوها من تاريخنا كي لا يشبَّ على لذاذَتِها أحفادُنا فيصنعون الحربَ في هذه الأرضِ.
كم نُجيدُ الهزيمةَ من بابِ التسامُحِ والتواصلِ مع الآخرِ، بل كم نتغنّى بهزائمنا وإعلانَها عربونَ انفتاحٍ سياسيٍّ، لا بل كم نُضحّي بأجسادِنا على مذبحةِ الحضارةِ الهمجيّةِ الراهنةِ حتى نكتب في سجلِّ الطائعين. كم نُجيدُ الهزيمةَ ولا نخشاها.
لأننا نجيد الهزيمة
هذا هو الهدف الحقيقي للحرب
الأخت solef26
دمت