بسم الله الواحد الأحد و الصلاة والسلام على سيدنا محمد و على آله وصحبه
أمّا بعد , أخي أرى أنّ كلمة "السلفية" أعطت تأثيرها في كثير من الناس مع أن الطائفة الملقبة بذلك الاسم لا تمثل عقيدة السلف.
و أما إدعاؤك أني أبغض السلف "فإني مسامح لك حتى لا تزداد إثما على إثم و لإنّي أعلم أنّه يخيل إليك أنّك تدعو إلى الحق ولكن الواقع خلاف ذلك" فالله وحده يعلم كم حبي لسلف الأمة و كم بغضي لمن ينتسب إليهم كذبا و زورا.
و خاصة إن زاد على ذلك دعوة إلى الباطل بأسمائهم وأقوالهم.
فطائفة السلفية لا تمثل مذهب السلف لا من قريب ولا من بعيد و إن كانت في الظاهر على بعض مما كانوا عليه.
أمّا عن الإمام الأشعري فالعلماء كلهم ذكروا أنّه تاب من الاعتزال إلى مذهب الأهل السنة (لا توجد أي مرحلة أخرى) وناظر عنه ومن يحاول من متأخري طائفة السلفية ادعاء غير ذلك فهو يفتري على إمام من أجلّ أئمة أهل السنة فليتحمل مسؤوليته أمام الله في كلّ كلمة يذكرها فيه.
و انقل هذا الكلام فقط و أسأل الله أنّ ينزع عن قلوبنا كل غشاء يحجبها عن الحق حيث كان:
(فإن الإمام أبا الحسن علياً بن إسماعيل الأشعري (260-330هـ) واحد من عيون رجال السلف، ومن أبرزهم علماً واستقامةً على نهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن تجاهل هذه الحقيقة فقد خاصم التاريخ وتعامى عن الواقع المرئيِّ لكل ذي عينين.
وإن الإمام الأشعري لم يبتدع رأياً، ولم ينشئ مذهباً، وإنما كان مقرراً لمذهب السلف، مناضلاً عن الحق الذي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه، شهد له بذلك كل أئمة التفسير والحديث والفقه الذي كانوا في عصره.
فمن ركب رأسه في إنكار هذا الذي شهد له به أئمة السلف، فهو مفتئتٌ على السلف، كاذب في دعوى اقتدائه بهم ومحبته لهم. وإن أتباعه الذين جاؤوا من بعده، لم يكونوا في سيرهم على نهجه إلا كأتباعه الذين اتبعوه وأحدقوا به في عصره، فمن سفههم أو انتقصهم أو نسبهم إلى ابتداع، فقد رمى بذلك الأئمة الذين هم لباب السلف وخيرتهم في عصره، والذين كانوا السواد الأعظم والأمناء على كتاب الله وسنة رسوله.
وقد سألت واحداً من هؤلاء الذي يبدِّعون أتباع الإمام الأشعري ويسفهونهم، ويلقون الكلام في ذلك على عواهنه: ما الذي تنقمه منهم؟ وما البدعة التي ابتدعوها ففسقتهم؟
فقال لي: تعطيلهم القرآن بالتأويل الذي ابتدعوه...
قلت له: ما من كلمة أوَّلُوها إلا وفي أئمة السلف من أوَّلها، إذ كان السبيل إلى فهمها اجتهاداً يتسع لأكثر من فهم واحد.
ألا تعلم أن في السلف من أوَّل كلمة "استوى" في مثل قوله تعالى:
(ثم استوى إلى السماء وهى دخان )
ومن اول كلمة "الوجه" في قوله تعالى: ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )
وأول "الضحك" في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضحك ربكما الليلة من فعالكما". (1).
وأوّل الفراغ فى قوله تعالى : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان )
وهل في هؤلاء الذين يعتزون بنسبتهم وَحْدَهُم إلى السلف من لم يؤول كلمة "يحبهم" في قوله تعالى
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) . ومن لم يؤول "المعية" في قوله تعالى: ( وهو معكم أينما كنتم ) . ومن لم يؤول "القرب" في قوله تعالى: ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) .
فلماذا تبررون لأنفسكم هذا الذي لا تبررونه لمن هم ليسوا أقل منكم علماً، بل إنكم لتعلمون أنهم القدوة الصالحة لهذه الأمة؟!..
لماذا يكون تأويل الأشاعرة لما بَرْهَن الدليل الاجتهادي على صحة تأويله تعطيلاً وابتداعاً، ويكون تأويلكم لما قد لا نؤيدكم فيه سلفية صافية ملتزمة لا تعطيل فيها ولا تأويل؟!
كنا نقول بالأمس: قاتل الله الجهالة، كم تحجب العقل عن الحق، ولكنا نقول اليوم: قاتل الله العصبية العمياء، كم تحجب العين المبصرة عن رؤية الشمس صافيةً لألاءةً في كبد السماء!..
على كلٍّ، إني أشكر لهذين الأخوين جهودهما في إبراز البدهيات والتدليل عليها، وإنها لجهود شاقَّة تقتضي مع الشكر عليها الإعجاب بها، ألم يقولوا من قبل: مِن أشكل المشكلات إيضاح الواضحات؟! فلقد استطاعا أن يخترقا هذا الإشكال وأن يزيدا هذا الحقيقة الواضحة وضوحاً، وأن يضاعفا من بداهتها أمام سائر العقول والأبصار.
وإني لعلى يقين بأن الجهل لا يستطيع أن يقاوم هذه البداهة ويتغلب عليها... أما العصبية العمياء فإني لعلى يقين بأنها على استعداد لأن تكتسح في طريقها كلاًَ من الدنيا والآخرة، وأن لا تبقي أمامها إلا أطيافاً من الوهم، تتعامل معها وتدافع عنها.
إني بمقدار ما أشكر هذين الأخوين وأدعو الله لهما، أدعو لمن يقبعون في سجن هذه العصبية أن يكرمهم الله بانطلاقه آمنة وسريعة منه، قبل أن يفوت الأوان وَيَدْلَهِمَّ من حولهم الليل، ويختلط ظلام السجن الذي يتطوحون فيه بظلام العاقبة التي لا يجدي معها أي شيء. الشيخ أ.د محمد سعيد رمضان البوطي
1انظر الأسماء والصفات للبيهقي، وانظر شرح أبي داود للخطابي عند شرحه لحديث: "ضحك ربكما الليلة من فعالكما".) اهـ
والله أسأل أن يهدي كل طالب للحق الذي لم يعم بصيرته التعصب و التأثر بمشايخهم الذين يرون فيهم "العصمة".
و صلى الله وسلام على سيد الكونين والثقلين وعلى آله وصحبه.