تتمة لما سبق
ثم قال- رحمه الله- تحت الحديث رقم ( 314 ) عن أنس بن مالك :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -:
" لا تصلوا عند طلوع الشمس ، و لا عند غروبها فإنها تطلع و تغرب على قرن شيطان و صلوا بين ذلك ما شئتم ".......
و للحديث شاهد من حديث علي مرفوعا بلفظ :
" لا تصلوا بعد العصر ، إلا أن تصلوا و الشمس مرتفعة "....
و في هذين الحديثين دليل على أن ما اشتهر في كتب الفقه من المنع عن الصلاة بعد
العصر مطلقا و لو كانت الشمس مرتفعة نقية مخالف لصريح هذين الحديثين و حجتهم في
ذلك الأحاديث المعروفة في النهي عن الصلاة بعد العصر ، مطلقا ، غير أن الحديثين
المذكورين يقيدان تلك الأحاديث فاعلمه .
وقال في " السلسلة الصحيحة " (6 / 1010) :
أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " ( 2 / 352 ) : حدثنا عفان قال : أخبرنا أبو
عوانة قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه :
"أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين"
، فقيل له ؟ فقال : لو لم أصلهما إلا أني رأيت مسروقا يصليهما
لكان ثقة ، و لكني سألت عائشة ؟ فقالت :
( كان لا يدع ركعتين قبل الفجر ، و ركعتين بعد العصر) .
قلت : و هذا إسناد صحيح
غاية على شرط الشيخين ، و أبو عوانة اسمه الوضاح اليشكري ، و هو ثقة ثبت كما
قال الحافظ في " التقريب " . و قد خالفه شعبة في متنه فرواه عن إبراهيم به ،
إلا أنه قال : " .. أربعا قبل الظهر " ، مكان الركعتين بعد العصر . أخرجه
البخاري و غيره ، و هو مخرج في " صحيح أبي داود " رقم ( 1139 ) . و يظهر لي - و
الله أعلم - أن كلا من الروايتين محفوظ لثقة رواتهما و حفظهما ، و لأن للركعتين
طرقا كثيرة عن عائشة يأتي ذكر بعضها بإذن الله تعالى . و قد أخرجه الطحاوي في "
شرح المعاني " ( 1 / 177 ) من طريق هلال بن يحيى قال : حدثنا أبو عوانة به ،
إلا أنه أدخل بين محمد بن المنتشر و عائشة - مسروقا . و هلال هذا ضعيف . قال
ابن حبان في " الضعفاء " ( 3 / 88 ) : " كان يخطىء كثيرا على قلة روايته " .
نعم لحديث مسروق أصل صحيح برواية أخرى ، فكأنها اختلطت عليه بهذه ، فقال الإمام
أحمد ( 6 / 241 ) : حدثنا إسحاق بن يوسف قال : حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن
أبي الضحى عن مسروق قال : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد العصر . و هذا إسناد صحيح
أيضا على شرط الشيخين ، و قد أخرجاه من طريق أخرى عن مسروق مقرونا مع الأسود
بلفظ : " ما من يوم يأتي علي النبي صلى الله عليه وسلم إلا صلى بعد العصر
ركعتين " . و في رواية بلفظ : " ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدعهما سرا و لا علانية : ركعتان قبل صلاة الصبح ، و ركعتان بعد العصر " . و هو
مخرج في " الإرواء " ( 2 / 188 - 189 ) و الذي قبله في " صحيح أبي داود "
(1160) و قد تابع إسحاق بن يوسف - و هو الأزرق - جعفر بن عون ، إلا أنه خالفه
في إسناده فقال : عن مسعر عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الضحى به . أخرجه ابن أبي
شيبة ( 2 / 353 ) و أبو العباس السراج في " مسنده " ( ق 132 / 1 ) و جعفر بن
عون صدوق من رجال الشيخين ، فإن كان حفظه فيكون لمسعر فيه شيخان ، و إلا فرواية
الأزرق أصح . هذا و قد روى ابن أبي شيبة عن جماعة من السلف أنهم كانوا يصلون
هاتين الركعتين بعد العصر ، منهم أبو بردة بن أبي موسى و أبو الشعثاء و عمرو بن
ميمون و الأسود ابن يزيد و أبو وائل ، رواه بالسند الصحيح عنهم ، و منهم محمد
بن المنتشر و مسروق كما تقدم آنفا . و أما ضرب عمر من يصليهما ، فهو من
اجتهاداته القائمة على باب سد الذريعة ، كما يشعر بذلك روايتان ذكرهما الحافظ
في " الفتح " ( 2 / 65 ) : إحداهما في " مصنف عبد الرزاق " ( 2 / 431 - 432 ) و
" مسند أحمد " ( 4 / 155 ) و الطبراني ( 5 / 260 ) و حسنه الهيثمي ( 2 / 223 )
. و الأخرى عند أحمد ( 4 / 102 ) أيضا ، و الطبراني في " المعجم الكبير " ( 2 /
58 - 59) ، و " الأوسط " ( 8848 - بترقيمي ) . و قد وقفت على رواية ثالثة تشد
من عضدهما ، و هي من رواية إسرائيل عن المقدام ابن شريح عن أبيه قال : سألت
عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يصلي ؟ [ قالت : ] " كان
يصلي الهجير ثم يصلي بعدها ركعتين ، ثم يصلي العصر ثم يصلي بعدها ركعتين . فقلت
: فقد كان [ عمر ] يضرب عليهما و ينهى عنهما ؟ فقالت : قد كان عمر يصليهما ، و
قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كان ] يصليهما ، و لكن قومك أهل
الدين قوم طغام ، يصلون الظهر ، ثم يصلون ما بين الظهر و العصر ، و يصلون العصر
ثم يصلون ما بين العصر و المغرب ، فضربهم عمر ، و قد أحسن " . أخرجه أبو العباس
السراج في " مسنده " ( ق 132 / 1 ) . قلت : و إسناده صحيح ، و هو شاهد قوي
للأثرين المشار إليهما آنفا ، و هو نص صريح أن نهي عمر رضي الله عنه عن
الركعتين ليس لذاتهما كما يتوهم الكثيرون ، و إنما هو خشية الاستمرار في الصلاة
بعدهما ، أو تأخيرهما إلى وقت الكراهة و هو اصفرار الشمس ، و هذا الوقت هو
المراد بالنهي عن الصلاة بعد العصر الذي صح في أحاديث كما سبق بيانه تحت
الحديثين المتقدمين برقم ( 200 و 314 ) .
و بالله التوفيق .
قبل آذان المغرب بخمس دقائق