آثار الذنوب والمعاصي
خطبة لمعالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الوهاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى جميع الأهل والأصحاب، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم المعاد.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحذروا الذنوب والمعاصي، فإنها سبب لزوال النعم وحلول النقم، فما الذي أهلك القرون الأولى، من قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم إلا الذنوب والمعاصي، روى ابن ماجه بسنده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-: (قال كنت عاشر عشرة رهطٍ من المهاجرين عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: -صلى الله عليه وسلم- يا معشر المهاجرين؟ خمس خصالٍ أعوذ بالله أن تدركهن، ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما نقص قوم المكاييل والموازين إلا ابتلوا بشدة المئونة وجور السلطان، وما أخفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا سلط الله بعضهم على بعض) .
أيها المؤمنين: شواهد هذا الحديث ماثلة في العيان الآن، لما ظهرت المعاصي، ولم تنكر، بل وجد من يشجع عليها بحرية الرأي، وعدم التدخل في شؤون الناس كما يقولون، لما وجدت هذه الفواحش في المجتمعات، ووجد من يدافع عنها ومن يروجها، وسكت أهل الخير، أو تخاذلوا؛ ابتلوا بما ترونه من الطواعين: وهي الأمراض الفتاكة التي عجز الطب عنها، وبالأوجاع التي لم تكن في الأمم السابقة، وكم تسمعون من أمراضٍ ما كانت موجودة في الأزمنة السابقة، ولا مذكورة في التواريخ إنها أمراض مستعصية، فتاكة، حديثة، لم يعثر لها الطب على علاج، وهي كثيرة ومنتشرة في المجتمعات، وكل يومٍ يظهر نوع من أنواع الأمراض لم يسبق له مثيل، حتى إنها انتشرت في الطيور، التي يأكل منها الناس أو يلامسونها، وانتشرت في الحيوانات التي يأكلون لحومها ويخالطونها، انتشرت في المياه، انتشرت في البيئات التي يسكن فيها الناس، حتى عجز الطب عنها رغم تقدمه ووفرته، ورغم توفر الأدوية الكثيرة فالأمراض تزداد وتحصد في الأرواح والناس ينظرون إليها مبهوتين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا، لما منع كثير من الناس زكاة أموالهم، الناس عندهم أموال سواءً للأفراد أو للشركات، أموال هائلة تبلغ الملايين والمليارات، أين زكاتها؟ لما منع زكاة أموالهم، ابتلوا بمنع القطر من السماء، وكما تشاهدون، كما تشاهدون الجدب، وكما تشاهدون انحباس المطر، هل ذلك راجع إلى قلة ما بيد الله من الخير والخزائن؟ بل إن خزائن الله ملئى ولكن التقصير والسبب إنما جاء من العباد، ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء الذي به حياتهم ومنه شربهم ومنه مصالحهم، فانتشر الجدب، قريباً وبعيداً ، وحدثت المجاعات، وهلكت الأموال، وهلكت المواشي بسبب انحباس المطر، بل إن البلاد الآن أصبحت يابسة، ليس فيها نبات حتى هلك أهلها وهلكت أموالهم، وصاروا يستجدون بالمساعدات من الناس، وسبب هذا، كما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- منع الزكاة من المال، فلو أن الزكاة أخرجت ووضعت في مواضعها لأنزل الله الأمطار، الدليل أن الزكاة لا تخرج أو لا تُخرج كلها، أن الأموال ضخمة، والأرصدة كثيرة، والمحتاجون لا يزالون في حاجتهم وفقرهم، فأين الزكاة التي جعلها الله حقاً معلوماً في أموال الأغنياء؟ وكذلك بخس الناس حقوقهم في الكيل والوزن، وكذلك بالصدق في المعاملة وعدم الغش، وكذلك المعاملة الشرعية المباحة، الآن فُقِد هذا في كثير من الناس، فالتعامل الآن إنما يتسارع الناس إلى الحيل والمكر والخدع والربا والقمار، وأنواع من الحيل التي يأكلون بها أموال الناس بالباطل، وذهب البيع والشراء والمعاملات النزيهة إلا ما قَل، فلذلك ابتلوا بشدة المؤونة وضيق المعيشة، وهو ما يسمى بالتضخم، الأموال، النقود كثيرة، النقود كثيرة، ولكن الأسعار غالية، الأسعار غالية، بسبب قلة المعروض وقلة الإنتاج، وإن كانت الدراهم كثيرة فهي لا تنفع، ما لم يتوصل المعروضات والمبيعات والمنتجات والزراعة والخضروات والنخيل والثمار والحبوب، فإن كثرة الدراهم قد تكون ضرراً على أصحابها، شدة المؤونة، وأشد من ذلك جور السلاطين والولاة، سلَّط الله ولاة ظلمة، وطواغيت على رقاب الناس، يسوسونهم بغير ما أنزل الله، ويحكمون فيهم بحكم الطواغيت: البعثية، الشيوعية، والعلمانية، وغير ذلك من المحن الباطلة يسوسون بها الناس، المسلمين بالذات، فتجد أن الشعب أغلبهم مسلمون وحكامه، إما شيوعيون، وإما بعثيون، وإما علمانيون، فالشعب في وادي، والولاة في واديٍ آخر إلا ما منَِِّ الله على هذه البلاد ولله الحمد، فأوجد الله فيها، ولله الحمد، فما تزال هذه البلاد من ناحية الحكم في خير ولله الحمد، أما بقية البلاد الأخرى فلا تحتاج أن أشرح لكم وضعها، أنتم تعلمونها، وهذا بسبب تسليط الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الشعوب لما خالفوا أمر ربهم سبحانه وتعالى سلط عليهم من يسوموهم سوء العذاب، كما هي سنته مع الظلمة والمتجبرين عن طاعته سبحانه وتعالى، وفي الأثر إذا عصاني من يعرفني سلّطت عليه من لا يعرفني، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)، وكذلك: (ما أخفر قوم العهد)، العهد: هو الميثاق الذي يبرمونه إما مع الله جل وعلا، قال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)، وقد عاهدوا الله على أن يعبدوه وحده لا شريك، فعبدوا غيره، وتركوا طاعته، وتركوا أمره، وخالفوا نهيه، فهذا إخفار لعهد الله جل وعلا، وكذلك العهد مع ولاة الأمور، فمن عاهد ولي الأمر وجب عليه أن يفي بعهده وأن يسمع ويطيع سواءً عاهد هو، أو عاهد أهل الحل والعقد، فهو تابع لهم، فهو من أمتهم ومن دولتهم، فيلزم الجميع السمع والطاعة بالمعروف، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الطاعة بالمعروف)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، أما إذا لم يكن أمر بمعصية فتجب طاعته، لأن الله جل وعلا يقول: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)، قال صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، وكذلك الأمر الأخير: وهو ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، والأئمة يراد بهم الولاة ويراد بهم العلماء، ما لم يحكم الجميع من الولاة والعلماء، ما لم يحكموا بشرع الله وبكتاب الله سبحانه، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا جعل الله بأسهم بينهم، وسلط بعضهم على بعض، كما تشاهدون من التعارك الآن بين الدول الإسلامية، من المشاحنات والمهاترات والتهديدات، كل ذلك بسبب أنهم تركوا الحكم بما أنزل الله وسلط الله بعضهم على بعض.
فاتقوا الله عباد الله: تأملوا في هذا الحديث وفي غيره، وعلى الإنسان أن يصلح نفسه أولاَ، ثم عليه أن يصلح في الناس ما استطاع، وأن يبين، وأن يأمر بالمعروف، و ينهى عن المنكر في أولاده وفي بيته وفي جيرانه وأهل مسجده ومع عموم المسلمين، قال -صلى الله عليه وسلم-: (الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم).
فاتقوا الله عباد الله: واحذروا من هذه الخصال الخمس التي حذر منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاتَّقُوافِتْنَةًلاتُصِيبَنَّالَّذِينَ ظَلَمُوامِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وإمتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداَ عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: فاتقوا الله تعالى، واعلموا أن العقوبات قد تكون مصلحة، وقد تكون هلاكاً، تكون مصلحة لمن اتعظ بها وانزجر بها، تكون تمحيصاَ لذنوبه، مغفرة لذنوبه، وتكون منبهة له إلى التوبة، وإصلاح العمل في المستقبل، فتكون خيراً له، فتنقلب المحنة إلى منحة، وإما تكون هلاكاً لمن لم يتب، ولم يرجع إلى ربه سبحانه وتعالى، فإنها تكون هلاك له عاجلاًَ، وما عند الله له من الهلاك أشد وأبقى، إذا لم يتب إلى الله عز وجل، وكذلك النعم تكون أحياناً خيراً للإنسان، إذا شكرها وقام بحقها، وأدى ما أوجب الله عليه فيها، فإنها تكون خيراَ له، وقد تكون عقوبة ومحنة إذا كفر النعمة وبطر: (وَلا يَحْسَبَنَّالَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِيلَهُمْلِيَزْدَادُواإِثْمًا)، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُلَهُمْفِيالْخَيْرَاتِبَلْلايَشْعُرُونَ)، فالنعم قد تكون استدراجاً: (فَلَمَّانَسُوامَاذُكِّرُوابِهِفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَافَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ، شذ في النار، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال عز وعلا: ( إِنَّاللَّهَوَمَلائِكَتَهُيُصَلُّونَعَلَىالنَّبِيّ ِيَا أَيُّهَا الَّذِينَآمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( .
اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزًّ الإسلام والمسلمين وأذلًّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئنا، وسائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين.
اللهم ولِّي علينا خيارنا، واكفنا شرَّ شرارنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم اصلح بطانتهم وأبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين.
اللهم دمر أعداءك أعداء الدين، من اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين، ومن شايعهم وأعانهم من المنافقين والمرتدين، اللهم شتِّت شملهم وخالف بين كلمتهم واجعل تدميرهم في تدبيرهم وسلط بعضهم على بعض واشغلهم بأنفسهم واجعل كيدهم في نحورهم إنك على كل شيء قدير.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
اللهم اسقي عبادك وبلادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت واجعل ما أنزلته خيراً لنا وبلاغاً إلى حين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاَ، إن الله يعلم ما تفعلون، فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.