نتابع أقوال علماء أهل السنة في فوقيته على العرش وأنه بائن عن خلقه لا كما يقول الزنادقة الذين يشبهون الله بالمعدومات تعالى الله عما يقول الظالمون علو كبيرا
57- أبو الحسن الأشعريُّ (324هـ)
قالَ الإمامُ أبو الحسن الأشعريُّ رحمه الله فِي كتابِ «الإبانةِ فِي أصولِ الدِّيانةِ» فِي بابِ الاسْتِوَاءِ: إنْ قالَ قائلٌ: «ما تقولونَ في الاستواءِ؟ قِيلَ لهُ: نقولُ: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مستوٍ عَلَى عرشهِ، كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقدْ قَالَ الله عزَّ وجلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقالَ عزَّ وجلَّ: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقالَ حكايةً عنْ فرعونَ:{يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]، كذَّبَ موسى عليه السلام فِي قولهِ: إنَّ الله عزَّ وجلَّ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ. وقال عزَّ وجلَّ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]، فالسَّماواتُ فوقَهَا العرشُ. فلمَّا كَانَ العرشُ فَوْقَ السَّمَاوَات قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، لأنَّهُ مستوٍ عَلَى العرشِ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وكُلُّ مَا عَلا فهو سماء. فالعرشُ أعلى السَّماوات وليسَ إِذَا قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، يعني جميعَ السَّمَاوَاتِ، وإنَّما أرادَ العرشَ الَّذِي هُوَ أعلى السَّمَاوَاتِ. ألاَ ترى أنَّ الله عزَّ وجلَّ ذكرَ السَّمَاوَاتِ فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16]، ولم يُرِدْ أنَّ القمرَ يملأهنَّ جميعًا وأنَّهُ فيهنَّ جميعًا.
وقدْ قالَ قائلونَ من المعتزلةِ والجهميَّةِ والحروريةِ: إنَّ قولَ الله عزَّ وجلَّ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، إنَّه استولى وملكَ وقهرَ، وإنَّهُ عزَّ وجلَّ في كلِّ مكانٍ، وجحدوا أنْ يكونَ الله عزَّ وجلَّ على عرشهِ كمَا قالَ أهلُ الحقِّ، وذهبوا في «الاستواءِ» إلى القدرةِ، ولو كانَ هذا كما ذكروهُ كانَ لا فرقَ بينَ العرشِ والأرضِ، فالله سبحانهُ قادرٌ عليها وعلى الحشوشِ وعلى كلِّ ما في العالمِ. فلو كانَ الله مستويًا على العرشِ بمعنى الاستيلاءِ - وهو سبحانهُ مُسْتَوْلٍ على الأشياءِ كلِّها - لكانَ مستويًا على العرشِ وعلى الأرضِ وعلى السَّمَاءِ وعلى الحشوشِ والأقذارِ، لأنَّه قادرٌ على الأشياءِ مُسْتَوْلٍ عليهَا، وإذا كانَ قادرًا على الأشياءِ كلِّها - ولم يَجِزْ عندَ أحدٍ منَ المسلمينَ أنْ يقولَ: إنَّ الله عزَّ وجلَّ مستوٍ على الحشوشِ والأخليةِ - لم يَجِزْ أنْ يكونَ الاستواءُ على العرشِ الاستيلاءَ الذي هو عامٌّ في الأشياءِ كلِّها، ووجبَ أنْ يكونَ معناهُ استواءً يختصُّ العرشَ دونَ الأشياءِ كلِّها»[1].
قَالَ الذهبيُّ رحمه الله: «لو انتهى أصحابُنا المتكلِّمونَ إِلَى مقالةِ أبي الحسنِ هذهِ ولَزِمُوهَا لأحسنوا، ولكنَّهم خاضُوا كخوضِ حكماءِ الأوائلِ فِي الأشياءِ، ومَشَوْا خلفَ المنطقِ، فلا قُوَّةَ إلَّا بالله»
[2] .
58 -الإمام البَرْبَهَارِيُّ صاحب كتاب السنة (329هـ)
قالَ رحمه الله: «اعلمْ رحمكَ الله: أنَّ الكلامَ في الرَّبِّ تعالى مُحْدَثٌ، وهو بدعةٌ وضلالةٌ، ولا يُتكلَّمُ في الرَّبِّ إلا بما وصفَ بهِ نفسَهُ عزَّ وجلَّ في القرآنِ، وما بيَّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ، فهوَ جلَّ ثناؤهُ واحدٌ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
ربُّنا أوَّلٌ بلا مَتَى، وآخرٌ بلا مُنتهى، يعلمُ السِّرَّ وأخفى، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى، وعِلْمُهُ بكلِّ مكانٍ، ولا يخلو منْ علمِهِ مكانٌ»
[3] .
59 - الوزير عليُّ بنُ عيسى (334هـ)
قال محمَّدُ بنُ عليِّ بن حبيش: دخلَ أبو بكرٍ الشبليُّ رحمه الله دارَ المرضى ليعالجَ، فدخلَ عليهِ الوزيرُ عليُّ بنُ عيسى عائدًا، فقال الشِّبليُّ: ما فعلَ ربُّكَ؟ قَالَ: « الربُّ عزَّ وجلّ فِي السَّمَاءِ يَقْضِي ويُمْضِي»[4].
60 - العلَّامة أبو بكر الضِّبْعِيُّ (342هـ)
قالَ رحمه الله: «قَدْ تضعُ العربُ «فِي» موضع «عَلَى» قَالَ الله تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 2]، وقالَ: {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] ومعناهُ عَلَى الأرضِ وعلى النَّخلِ، فكذلكَ قولهُ: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] أيْ مَنْ عَلَى العرشِ، كَمَا صَحَّتِ الأخبارُ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم»[5].
61 - ابنُ شعبان (355هـ)
قال الذهبيُّ رحمه الله: «رأيتُ له[6] تأليفًا في تسميةِ الرواةِ عنْ مالكٍ، أولهُ: الحمدُ لله الحميدِ، ذي الرُّشدِ والتسديدِ، والحمدُ لله أحقُّ ما بُدِي، وأولى منْ شكر، الواحدِ الصَّمدِ، جَـلَّ عَنِ المَثَلِ فلا شَبَهَ لهُ ولا عَدْلَ، عَالٍ على عَرْشِهِ، فهوَ دَانٍ بِعِلْمِهِ، وذكرَ باقي الخطبة»[7].
62 - الإمام العلامة صاحب التصانيف السلفية أبو بكر الآجُرِّيُّ (360هـ) :
صنَّفَ الحافظُ الزَّاهدُ الآجُرِّيُّ المجاورُ بحرمِ الله كتابَ «الشَّريعةِ» فمنْ أبوابهِ: «بـابُ التحذيرِ منْ مذاهبِ الحلوليَّةِ» ثمَّ قَالَ: أمَّا بعدُ: فإنِّي أحذِّرُ إخواني مِنَ المؤمنينَ مذهبَ الحلوليَّةِ: الذينَ لَعِبَ بهمُ الشَّيطانُ، فخرجوا بسوءِ مذهبهم عنْ طريقِ أهلِ العلمِ.
مذاهبهم قبيحةٌ، لاَ تكونُ إلَّا فِي كلِّ مفتونٍ هالكٍ، زعموا أنَّ الله عزَّ وجلَّ حالٌّ فِي كلِّ شيءٍ، حتَّى أخرجهم سوءُ مذهبهم إِلَى أنْ تكلَّموا فِي الله عزَّ وجلَّ بِمَا ينكرهُ العلماءُ العقلاءُ.
لاَ يوافقُ قولَهم كتابٌ وَلاَ سنَّةٌ، وَلاَ قولُ الصَّحابةِ، وَلاَ قولُ أئمَّةِ المسلمينَ، وإنِّي لأستوحشُ أنْ أذكرَ قبيحَ أفعالهم تنزيهًا منِّي لجلالِ اللهِ عزَّ وجلَّ وعظمتهِ، كَمَا قَالَ ابنُ المبارك رَحمةُ الله عليهِ: «إنَّا لنستطيعُ أنْ نحكيَ كلامَ اليهودِ والنَّصارى، وَلاَ نستطيعُ أنْ نحكيَ كلامَ الجهميَّةِ».
ثمَّ إنَّهم إِذَا أنكرَ عليهمْ سوءُ مذهبهم، قالوا: لنا حجَّةٌ منْ كتابِ الله عزَّ وجلَّ.
فإذا قِيلَ لهم: مَا الحجَّةُ؟!
قالوا: قَالَ الله عزَّ وجلَّ فِي كتابهِ فِي سورةِ المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] وبقولهِ عزَّ وجلَّ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} - إِلَى قوله - {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد 3 - 4].
فلبَّسوا عَلَى السَّامعِ منهم بِمَا تَأَوَّلوهُ، وفَسَّروا القرآنَ عَلَى مَا تهوى نفوسهم، فضلُّوا وأضلُّوا. فمنْ سمعهم ممَّنْ جهلَ العلمَ، ظنَّ أنَّ القولَ كَمَا قالوه، وليسَ هُوَ كَمَا تأوَّلوهُ عندَ أهلِ العلمِ.
والذي يذهبُ إليهِ أهلُ العلمِ: أنَّ الله عزَّ وجلَّ سبحانَهُ عَلَى عرشهِ فَوْقَ سماواتهِ، وعلمهُ محيطٌ بكلِّ شيءٍ، قَدْ أحاطَ علمهُ فِي جميعِ مَا خلقَ فِي السَّمَاوَاتِ العلا، وبجميعِ مَا فِي سبعِ أرضينَ وما بينهما، وما تحتَ الثَّرى وما بينهما، يعلمُ السِّرَّ وأخفى، ويعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصُّدور، ويعلمُ الخطرةَ والهمَّةَ، ويعلمُ مَا توسوسُ بِهِ النُّفوسُ، يسمعُ ويرى، لاَ يعزبُ عَنِ الله عزَّ وجلَّ مثقالُ ذرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ والأرضينَ وما بينهنَّ، إلَّا وقدْ أحاطَ عِلْمُهُ بهِ، وهوَ عَلَى عَرْشِهِ سُبْحَانهُ العَلِيُّ الأَعْلَى، تُرفعُ إليه أعمالُ العبادِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنَ الملائكةِ الذينَ يَرْفَعُونها باللَّيلِ والنَّهارِ.
فإنْ قَالَ قائلٌ: فإيش معنى قولِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية... التي بِهَا يحتجُّون؟
قِيلَ لهُ: عِلْمُهُ عزَّ وجلَّ، واللهُ عزَّ وجلَّ عَلَى عرشهِ، وعِلْمُهُ محيطٌ بهم، وبكلِّ شيءٍ منْ خلقهِ، كذا فسَّرهُ أهلُ العلمِ، والآيةُ يدلُّ أوَّلها وآخرهَا عَلَى أنَّهُ العلمُ.
فإنْ قَالَ قائلٌ: كيفَ؟!
قِيلَ: قَالَ الله عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}...} [المجادلة: 7] إلى آخرِ الآيةِ قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
فابتدأَ الله عزَّ وجلَّ الآيةَ بالعلمِ، وختمهَا بالعلمِ، فعِلْمُهُ عزَّ وجلَّ محيطٌ بجميعِ خلقهِ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وهذا قولُ المسلمينَ.
وفي كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ آياتٌ تَدُلُّ عَلَى أنَّ اللهَ تبارك وتعالى فِي السَّمَاءِ عَلَى عرشهِ، وعِلْمُهُ محيطٌ بجميعِ خَلْقِهِ. ثمَّ ذكرَ آياتٍ دالَّةً عَلَى العُلُوِّ، وذكرَ جُمْلَةً مِنَ الأحاديثِ إِلَى أنْ قَالَ:
فهذه السننُ قَدِ اتَّفقتْ معانيها، ويُصَدِّقُ بعضُهَا بعضًا، وكلُّها تَدُلُّ عَلَى مَا قلنا، أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عَلَى عَرْشِهِ، فَوْقَ سماواتِهِ، وقدْ أحاطَ عِلْمُهُ بكلِّ شيءٍ، وأنَّهُ سميعٌ بصيرٌ، عليمٌ خبيرٌ.
وقدْ قَالَ جلَّ ذِكْرُهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1].
وقدْ علَّمَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّتهُ أنْ يقولوا فِي السُّجودِ: «سبحان ربِّيَ الأعلى» ثلاثًا.
وهذا كُلُّهُ يُقَوِّي مَا قلنا: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ العَلِيُّ الأعلى، عَلَى عرشهِ، فَوْقَ السَّمَاوَاتِ العلا، وعِلْمُهُ محيطٌ بكلِّ شيءٍ، خلافَ مَا قالتهُ الحُلولِيَّةُ، نعوذُ باللهِ منْ سوءِ مذهبهم...
وممَّا يُلَبِّسونَ بهِ على منْ لا عِلْمَ معهُ احْتَجُّوا بقولهِ عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] وبقولهِ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84].
وهذا كلُّهُ إنَّما يطلبونَ بهِ الفتنةَ، كمَا قالَ الله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
وعندَ أهلِ العلمِ مِنْ أهلِ الحقِّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ *} [الأنعام: 3] فهوَ كمَا قالَ أهلُ العلمِ ممَّا جاءتْ بهِ السننُ: إنَّ الله عزَّ وجلَّ على عَرْشِهِ، وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بجميعِ خَلْقِهِ، يعلمُ ما تُسِرُّونَ وما تُعْلِنُونَ، يعلمُ الجهرَ مِنَ القولِ ويعلمُ ما تَكْتُمُونَ.
وقولهُ عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] فمعناهُ: أنَّهُ جلَّ ذكرهُ إلهُ مَنْ في السَّمواتِ، وإلهُ منْ في الأرضِ، إلهٌ يُعبدُ في السَّمواتِ، وإلهٌ يُعبدُ في الأرضِ، هكذا فسَّرهُ العلماءُ[8].
63 - الحافظُ أبو الشيخ (369هـ)
قَالَ محدِّثُ أصبهانَ أبو محمد ابن حيَّان رحمه الله فِي كتاب «العظمة»[9] له:
ذِكْرُ عَرْشِ الرَّبِّ تباركَ وتعالى وكُرْسِيِّهِ، وعِظَمِ خَلْقِهِما، وعُلُوِّ الرَّبِّ فَوْقَ عَرْشِهِ.
ثمَّ ساقَ جملةً مِنَ الأحاديثِ فِي ذَلِكَ.
64 - العلاّمة أبو بكر الإسماعيليُّ (371هـ)
قَالَ رحمه الله فِي كتابِ «اعتقادِ أئمَّةِ الحديثِ» (ص50):
«ويعتقدونَ أنَّ الله تَعَالَى... اسْتَوى عَلَى العرشِ، بلا كيفٍ. فإنَّ الله تَعَالَى انتهى منْ ذَلِكَ إِلَى أنَّهُ استوى عَلَى العرشِ، ولمْ يذكرْ كيفَ كَانَ اسْتِوَاؤُهُ».
65 - أبو الحسن بنُ مهدي المتكلِّمُ (380هـ)
قالَ في كتابِ «مشكل الآياتِ» لهُ في بابِ قولهِ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]:
«اعلمْ - عصمنا الله وإيَّاكَ مِنَ الزيغِ برحمته - أنَّ الله سبحانه في السَّمَاء فوقَ كلِّ شيءٍ، مستوٍ على عرشهِ، بمعنى أنَّه عَالٍ عليه، ومعنى الاستواءِ: الاعتلاءُ، كمَا تقولُ: استويتُ على ظهرِ الدَّابةِ، واستويتُ على السَّطحِ، يعني: عَلَوْتُهُ، واستوتِ الشَّمسُ على رأسي، واستوى الطيرُ على قمَّةِ رأسي، بمعنى علا في الجوِّ، فوجدَ فوقَ رأسي.
والقديمُ جلّ جلاله، عالٍ على عرشهِ، يَدُلُّكَ أنَّه في السَّماء عالٍ على عرشهِ، قولُه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، وقولهُ: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وزعمَ البلخيُّ: أنَّ استواءَ الله على العرشِ، هو الاستيلاءُ عليهِ، مأخوذٌ منْ قولِ العربِ: استوى بشرٌ على العراقِ، أي: استولى عليها.
قالَ: ممَّا يدلُّ على أنَّ الاستواءَ - هاهنا - ليسَ بالاستيلاءِ، أنَّه لو كانَ كذلكَ، لم يكنْ ينبغي أنْ يخُصَّ العرشَ بالاستيلاءِ عليهِ، دونَ سائرِ خَلقهِ، إذْ هوَ مُسْتَوْلٍ على العرشِ، وعلى سائرِ خلقهِ، ليسَ للعرشِ مَزِيَّةٌ على مَا وصفْتهُ، فبَانَ بذلكَ فسادُ قولهِ.
ثمَّ يقالُ لهُ أيضًا: إنَّ الاستواءَ، ليسَ هوَ الاستيلاءَ، الذي هوَ مِنْ قولِ العربِ: استوى فلانٌ على كذا، أي: استولى، إذ تَمَكَّنَ منهُ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مُتَمَكِّنًا، فلمَّا كانَ الباري عزَّ وجلَّ لا يوصفُ بالتَّمَكُّنِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مُتَمَكِّنًا، لمْ يُصْرفُ معنى الاستواءِ إلى الاستيلاءِ.
ثمَّ قالَ: فإنْ قيلَ: ما تقولونَ في قولهِ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]؟
قيلَ لهُ: معنى ذلكَ أنَّهُ فوقَ السَّماءِ على العَرْشِ، كمَا قالَ: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 20]، بمعنى على الأرضِ، وقال: {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] يعني على جذوعِ النَّخْلِ، فكذلكَ قولهُ: {فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] بمعنى: فَوْقَ السَّمَاءِ على العَرْشِ.
فإنِ استدلُّوا بقولهِم على أنَّه في كلِّ مكانٍ بقولهِ سبحانهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] قيلَ لهُ: ليسَ الأمرُ في ذلكَ على ما سبقَ إلى قلوبكم، إنَّما أرادَ بذلكَ أنَّه إلهٌ عندَ أهلِ الأرضِ وإلهٌ عندَ أهلِ السَّماءِ، كقولكَ: زيدٌ نبيلٌ عندَ أهلِ العراقِ وعندَ أهلِ الحجازِ، وليسُ يوجبُ هذا أنَّ ذاتهُ بالعراقِ والحجازِ.
فإنْ قيلَ: فمَا تقولونَ في قولهِ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3]؟
قيلَ لهُ: إنَّ بعضَ القرَّاءِ يجعلُ الوقفَ في {السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: 3] ثمَّ يبتدئُ: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ} [الأنعام: 3]، وكيفما كانَ، فلو أنَّ قائلًا قالَ: فلانٌ بالشَّامِ والعراقِ ملكٌ، لدلَّ على أنَّ ملكهُ بالشَّامِ والعراقِ، لا أنَّ ذاتهُ فيهما.
فإنْ قيلَ: فما يقولُ في قولهِ سبحانهُ: {يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7].
قيلَ لهُ: كونُ الشَّيءِ مَعَ الشَّيءِ على وجوهٍ: منها بالنُّصرةِ، ومنهَا بالصحبةِ، ومنهَا بالمماسةِ، ومنها بالعلمِ. فمعنى هذا القولِ عندنا: أنَّه مَعَ كلِّ الخلقِ بالعلمِ، بمعنى أنَّه يعلمهم ولا يخفى عليه منهم شيءٌ سبحانَهُ...
وإنَّما أمرنَا الله تعالى برفعِ أيدينا قاصدينَ إليهِ برفعهمَا نحوَ العرشِ الذي هوَ مستوٍ عليهِ كمَا قالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]»[10].
66 - ابنُ بطَّة (387هـ)
قَالَ الإمامُ الزاهدُ أبو عبد الله بن بطّة العكبري شيخُ الحنابلةِ فِي «الإبانة»:
«بابُ الإيمانُ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ على عَرْشِهِ بائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بجميعِ خَلْقِهِ. أجمعَ المسلمونَ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وجميعُ أهلِ العلمِ مِنَ المؤمنينَ أنَّ الله تباركَ وتعالى على عَرْشِهِ، فَوْقَ سَمَاواتِهِ، بائِنٌ منْ خَلْقَهِ، وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بجميعِ خَلْقِهِ، لا يأبى ذلكَ، ولا يُنْكِرُهُ إلَّا مَنِ انْتَحَلَ مذاهبَ الحُلوليَّةِ: وهمْ قومٌ زاغتْ قلوبهم، واسْتَهْوَتْهُمُ الشَّياطينُ فمَرَقُوا مِنَ الدِّينِ.
وقالوا: إنَّ الله ذاته لا يخلو منهُ مكانٌ.
فقالوا: إنَّهُ في الأرضِ كمَا هو في السَّماءِ، وهو بذاتهِ حَالٌّ في جميعِ الأشياءِ.
وقدْ أكذبهمُ القرآنُ والسُّنَّةُ وأقاويلُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ مِنْ علماءِ المسلمينَ.
فقيلَ للحلوليِّةِ: لِمَ أنكرتمْ أنْ يكونَ اللهُ تعالى على العرشِ؟
وقال اللهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]. وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59].
فهذا خبرُ الله أَخْبَرَ بهِ عنْ نَفْسِهِ، وأنَّهُ على العَرْشِ.
وقال: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: 3]، ثمَّ قالَ: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ} [الأنعام: 3]، فأخبرَ أنَّهُ في السَّماءِ، وأنَّهُ بِعِلْمِهِ في الأرضِ.
وقَالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، فهلْ يكونُ الصُّعودُ إلَّا إلى ما علا؟.
وقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1] فَأَخْبَرَ أنَّهُ أعلى مِنْ خلقِهِ.
وقَالَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، فأخبرَ أنَّهُ فوقَ الملائكةِ.
وقدْ أخبرنَا اللهُ تعالى أنَّهُ في السَّمَاءِ على العرشِ.
أَوَ مَا سَمِعَ الحُلوليُّ قولَ الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *}{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *} [الملك: 16 - 17]. وقولَه لعيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. وقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. وقَالَ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18 و61]. وقَالَ: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ *}{تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 3 - 4]. وقَالَ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [الأنبياء: 19]. وقَالَ: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر: 15]، ومِثْلُ هذا كثيرٌ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
فأمَّا قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فهوَ كمَا قالَ العلماءُ: عِلْمُهُ.
وأمَّا قولُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3]، كمَا قالَ: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ} [الأنعام: 3]، ومعناهُ أيضًا: أنَّهُ هوَ اللهُ في السَّماواتِ، وهوَ اللهُ في الأرضِ.
وتصديقُ ذلكَ في كتابِ الله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84].
واحْتَجَّ الجَهْمِيُّ بقولِ الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7].
فقالوا: إنَّ الله معنا وفينا.
وقدْ فسَّر العلماءُ هذهِ الآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ} [المجادلة: 7] إلى قولهِ: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، إنَّما عنى بذلكَ: عِلْمُهُ، ألاَ ترى أنَّهُ قالَ في أوَّلِ الآيةِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، فرجعتِ الهاءُ والواوُ منْ هو على عِلْمِهِ لا على ذَاتِهِ.ثمَّ قالَ في آخرِ الآيةِ: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، فعادَ الوصفُ إلى العلمِ، وبَيَّنَ أنَّهُ إنَّما أرادَ بذلكَ العِلْمَ، وأنَّهُ عليمٌ بأمورِهم كُلِّها»[11].
وقالَ رحمه الله: «بابُ ذِكْرِ العَرْشِ والإيمانِ بأنَّ لله تعالى عَرْشًا فوقَ السَّمواتِ السَّبْعِ.
اعلموا - رحمكمُ الله -: أنَّ الجهميةَ تجحدُ أنَّ لله عرشًا، وقالوا: لا نقولُ إنَّ اللهَ على العَرْشِ؛ لأنَّهُ أعظمُ مِنَ العرشِ، ومتىَ اعترفنا أنَّه على العرشِ؛ فقدْ حَدَّدْناهُ، وقدْ خَلَتْ منهُ أماكنُ كثيرةٌ غيرُ العرشِ؛ فرَدُّوا نصَّ التنزيلِ، وكذَّبوا أخبارَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم.
قال اللهُ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]. وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ} [الفرقان: 59].وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7].
وجاءتِ الأخبارُ، وصحيحُ الآثارِ منْ جهةِ النَّقلِ عَنْ أهلِ العدالةِ، وأئمَّةِ المسلمينَ عَنِ المصطفى صلى الله عليه وسلم منْ ذِكْرِ العرشِ ما لا يُنْكِرُهُ إلا المُلْحِدَةُ الضَّالَّةُ»[12].
67 - ابنُ أبي زيدٍ القيرواني إمام المالكية وصاحب الرسالة المشهورة في المذهب (386هـ)
قالَ الإمامُ أبو محمد بن أبي زيد المغربي شيخُ المالكية في كتابهِ «الجامع»:
«ممَّا اجتمعتِ الأئمةُ عليهِ منْ أمورِ الديانةِ ومِنَ السننِ التي خلافُهَا بدعةٌ وضلالةٌ أنَّ الله - تبارك وتعالى - فوقَ سماواتِهِ على عَرْشِهِ دونَ أرضِهِ وأنَّهُ في كُلِّ مكانٍ بِعِلْمِهِ»[13].
وقال رحمه الله في أوَّلِ رسالتهِ المشهورةِ في مذهبِ مالكٍ الإمام:
«وأنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ المَجِيدُ بِذَاتِهِ، وهُوَ في كُلِّ مَكِانٍ بِعِلْمِهِ»[14].
قالَ الإمامُ الذهبيُّ معقِّبًا:... واللهُ تعالى خالقُ كلِّ شيءٍ بذاتهِ، ومُدَبِّرُ الخلائقِ بذاتهِ، بِلاَ مُعينٍ، ولا مُؤازِرٍ؛ وإنَّما أرادَ ابنُ أبي زيدٍ وغيرهُ التَّفرقةَ بينَ كونه تعالى معنَا، وبينَ كونهِ تعالى فوقَ العرشِ، فهوَ كمَا قالَ: ومعنَا بالعلمِ، وأنَّهُ على العرشِ كما أعلمنا حيثُ يقولُ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقدْ تلفَّظَ بالكلمةِ المذكورةِ جماعةٌ مِنَ العلماءِ كمَا قدَّمناه[15].
وكانَ رحمه الله عَلَى طريقةِ السَّلفِ فِي الأصولِ، لاَ يدري الكلامَ، وَلاَ يتأوَّلُ، فنسألُ الله التَّوفيقَ[16].
68 - ابنُ مَنْدَه (395هـ)
قالَ رحمه الله في «كتابِ التَّوحيدِ»: «ذِكْرُ الآيِ المَتْلُوَّةِ والأخبارِ المأثورةِ في أنَّ الله عزَّ وجلَّ على العَرْشِ فَوْقَ خَلْقِهِ بَائِنًا عنهم وبدءِ خلقِ العرشِ والماءِ، ثمَّ ذكرَ ثلاثَ آياتٍ في استواءِ الرَّحمنِ على العَرْشِ»[17].
وقالَ رحمه الله: ذِكْرُ الآياتِ المَتْلوَّةِ والأخبارِ المأثورةِ بنقلِ الرواةِ المقبولةِ التي تَدُلُّ على أنَّ الله تعالى فوقَ سماواتِهِ وعَرْشِهِ وخَلْقِهِ قاهرًا لهم عالمًا بهم. ثمَّ ذكرَ آياتٍ دالَّةً على العُلُوِّ. وساقَ جُمْلةً مِنَ الأحاديثِ في ذلكَ[18].
69 - ابنُ أبي زمْنِين (399هـ)
قالَ رحمه الله: «ومنْ قولِ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ الله عزَّ وجلَّ خَلَقَ العَرْشَ واختصَّهُ بالعُلُوِّ والارتفاعِ فوقَ جميعِ ما خلقَ، ثمَّ استوى عليهِ كيفَ شاءَ، كمَا أخبرَ عنْ نفسهِ... فسبحانَ مَنْ بَعُدَ فلا يُرى، وقرُبَ بِعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ فسَمِعَ النَّجْوَى»[19].
70 - القَصّابُ (400هـ)
قال الحافظُ الإمامُ أبو أحمد بن علي بن محمد المجاهد في «كتابِ السنَّةِ»:
كلُّ صفةٍ وصفَ اللهُ بها نفسهُ، أو وصفهُ بها نبيُّهُ، فهيَ صفةٌ حقيقيَّةٌ لا مجازًا»[20].
71 - ابنُ الباقلانيُّ (403هـ)
قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري الباقلاني في كتابِ «التمهيدِ» منْ تأليفهِ:
«فإنْ قالوا: فهلْ تقولونَ إنَّه فِي كلِّ مكانٍ؟
قِيلَ: مَعاذَ الله! بلْ هُوَ مستوٍ عَلَى العرشِ، كَمَا أخبرَ فِي كتابهِ فقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]. ولوْ كَانَ فِي كلِّ مكانٍ، لكانَ فِي جوفِ الإنسانِ وفمهِ وفي الحشوشِ والمواضعِ التي يُرْغَبُ عنْ ذكرهَا - تَعَالَى اللهُ عنْ ذَلِكَ!ـ ولوجبَ أن يزيدَ بزيادةِ الأماكنِ إِذَا خلقَ منها مَا لَمْ يكن خلقهُ، وينقصُ بنقصانها إِذَا بطلَ منها مَا كَانَ؛ ولصحَّ أنْ يرْغبَ إليهِ إِلَى نحو الأرضِ وإلى وراءِ ظهورنَا وعنْ أيماننا وشمائلنَا. وهذا مَا قَدْ أجمعَ المسلمونَ عَلَى خلافهِ وتخطئةِ قائلهِ.
فإنْ قالوا: أَفَلَيْسَ قَدْ قَالَ الله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] - فأخبرَ أنَّهُ فِي السَّمَاءِ وفي الأرضِ - وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128]، وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7] فِي نظائر لهذهِ الآياتِ. فمَا أنكرتم أنَّهُ فِي كلِّ مكانٍ؟
يقالُ لهم: قولُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] المرادُ بِهِ أنَّه إلهٌ عندَ أهلِ السَّمَاءِ وإلهٌ عندَ أهلِ الأرضِ، كَمَا تقولُ العربُ: «فلانٌ نبيلٌ مطاعٌ بالعراقِ ونبيلٌ مطاعٌ بالحجازِ» يعنونَ بذلكَ أنَّهُ مطاعٌ فِي المِصْرَيْنِ وعندَ أهلهمَا، وليسَ يَعْنُونَ أنَّ ذاتَ المذكورِ بالحجازِ والعراقِ موجودةٌ.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128]، يعني: بالحفظِ والنَّصرِ والتّأييدِ، ولم يردْ أنَّ ذاتهُ معهم - تَعَالَى عنْ ذَلِكَ!
وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] محمولٌ عَلَى هَذَا التأويلِ.
وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] يعني: أنَّه عالمٌ بهم وبمَا خفيَ منْ سرائرهم ونجواهم. وهذا إنَّما يُستعملُ كَمَا وردَ بِهِ القرآنُ. فلذلكَ لاَ يجوزُ أنْ يقالَ - قياسًا عَلَى هَذَا -: إنَّ الله سبحانهُ بالبردانِ وبمدينةِ السَّلامِ، وإنَّه تَعَالَى مَعَ الثَّورِ ومَعَ الحمارِ؛ وَلاَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ مَعَ الفسَّاقِ والمُجَّان ومَعَ المصعدينِ إِلَى حلوانَ، قياسًا عَلَى قولهِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] فوجبَ أنْ يكونَ التأويلُ عَلَى مَا وصفناهُ.
وَلاَ يجوزُ أن يكونَ معنى استوائِهِ عَلَى العرشِ هُوَ استيلاؤهُ عَلَيهِ كَمَا قَالَ الشَّاعرُ:
قَدِ اسْـتَوَى بِشْرٌ عَلـَى العـراقِ من غـيرِ سَيْـفٍ ودَمٍ مِهْـرَاقِ
لأنَّ الاستيلاءَ هُوَ القدرةُ والقهرُ، والله تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قادرًا قاهرًا عزيزًا مقتدرًا. وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] يقتضي استفتاحَ هَذَا الوصفِ بعدَ أنْ لَمْ يكنْ؛ فَبَطَلَ مَا قالوهُ»[21].
قال الذهبي رحمه الله: «فهذا النفس نفس هذا الإمامِ، وأينَ مثلُهُ في تبحُّرهِ وذكائهِ وبصرهِ بالمللِ فلقد امتلأ الوجودُ بقومٍ لا يدرونَ ما السلفَ، ولا يعرفونَ إلَّا السلبَ، ونفيَ الصفاتِ وردَّهَا، صمٌّ بكمٌّ عتمٌّ عجمٌّ، يدعونَ إلى العقلِ، ولا يكونونَ على النَّقلِ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون»[22].
72 - ابنُ موهب (406هـ)
قَالَ العلَّامةُ أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ موهب المالكيُّ فِي شرحهِ لرسالةِ الإمامِ محمَّد بن أبي زيد:
«أمَّا قولهُ: (إِنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ المَجِيدِ بِذَاتِهِ) فمعنى (فَوْقَ) و(على) عندَ جميعِ العربِ واحدٌ. وفي الكتابِ والسنَّةِ تصديقُ ذلكَ، وَهُوَ قوله تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].
وساقَ حديثَ الجاريةِ والمعراجِ إِلَى سدرةِ المنتهى، إِلَى أنْ قَالَ:
«وقدْ تأتي لفظةُ (فِي) فِي لغةِ العربِ بمعنى فوق، كقولهِ تَعَالَى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] و{فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] و {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]. قَالَ أهلُ التَّأويلِ: يريدُ فوقهَا، وَهُوَ قولُ مالكٍ ممَّا فهمهُ عمَّنْ أدركَ مِنَ التَّابعينَ ممَّا فَهِمُوهُ عَنِ الصَّحابةِ، ممَّا فهموهُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ فِي السَّماءِ، يعني فَوْقَها وعَلَيْهَا، فلذلكَ قَالَ الشيخُ أبو محمَّد: (إنَّهُ فَوْقَ عَرْشِه) ثمَّ بيَّنَ أنَّ عُلُوَّهُ فَوْقَ عرشِهِ إنَّما هُوَ بذاتهِ لأنَّه تَعَالَى بائنٌ عنْ جميعِ خلقهِ بلا كيفٍ، وَهُوَ فِي كُلِّ مكانٍ بِعِلْمِهِ لاَ بِذَاتِهِ. إِذْ لاَ تحويهِ الأماكنُ، لأنَّهُ أعظمُ منهَا، قَدْ كَانَ وَلاَ مكانَ».
ثمَّ سردَ كلامًا طويلًا إِلَى أنْ قَالَ: «فلمَّا أيقنَ المنصفونَ إفرادَ ذِكْرِهِ بالاستواءِ عَلَى عَرْشِهِ بعدَ خلقِ سماواتِهِ وأرضِهِ، وتخصيصِهِ بصفةِ الاستواءِ، عَلِمُوا أنَّ الاسْتِوَاءَ هنا غيرُ الاستيلاءِ ونحوِهِ، فأَقَرُّوا بوصفِهِ بالاستواءِ عَلَى عرشهِ، وأنَّهُ عَلَى الحقيقةِ لاَ عَلَى المَجازِ، لأنَّهُ الصَّادقُ فِي قِيْلِهِ، وَوَقَفُوا عنْ تكييفِ ذَلِكَ وتمثيلِهِ، إذْ لَيْسَ كمثلِهِ شيءٌ»[23].
73 - مَعْمَرُ بنُ زيادٍ (418هـ)
قالَ الإمامُ العارفُ أبو منصور مَعْمَرُ بن أحمد بن زياد الأصبهاني رحمه الله: «أحببتُ أنْ أوصيَ أصحابي بوصيةٍ مِنَ السنَّةِ، وأجمعُ ما كانَ عليهِ أهلُ الحديثِ والأثرِ، وأهلُ المعرفةِ والتَّصوفِ»، فذكرَ أشياءَ إلى أنْ قالَ فيهَا: «وأنَّ الله استوى على عَرْشِهِ بلا كَيْفٍ ولا تَشْبِيهٍ ولا تأويلٍ، والاستواءُ معقولٌ والكيفُ فيهِ مجهولٌ، وأنَّهُ عزَّ وجلَّ بائنٌ منْ خلقهِ، والخلقُ منهُ بائنونَ بلا حلولٍ ولا مُمَازَجَةٍ، ولا اختلاطٍ ولا مُلاَصَقَةٍ، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا كيفَ يشاءُ فيقولُ: «هَلْ منْ دَاعٍ فأستجيبَ لهُ؟ حتىَّ يَطْلُعَ الفَجْرُ»، ونزولُ الرَّبِّ إلى السَّماءِ بلا كَيْفٍ ولا تَشْبِيهٍ، ولا تَأْوِيلٍ، فمَنْ أَنْكَرَ النُّزُولَ أو تَأَوَّلَ فهوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ»[24].
74 - أبو القاسم اللاَلكَائِيُّ (418هـ)
قَالَ الإمامُ الحافظُ أبو القاسم هبةُ الله بن الحسن الطبري الشافعي مصنِّف كتاب «شرح اعتقاد أهل السنّة» وَهُوَ مجلَّدٌ ضخمٌ:
«سياقُ مَا رُوي فِي قوله تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] وأنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ فِي السَّمَاءِ:
قَالَ عزَّ وجلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16].
وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 16].
فدلَّتْ هذهِ الآيةُ أنَّهُ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بكلِّ مكانٍ مِنْ أرضهِ وسمائهِ.
ورُوي ذَلِكَ مِنَ الصَّحابة: عنْ عمرَ وابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ وأمِّ سلمة رضي الله عنهم.
ومِنَ التَّابعين: ربيعة بن أبي عبد الرَّحْمن وسليمان التيمي ومقاتل بن حيَّان.
وبهِ قَالَ مِنَ الفقهاءِ: مالكُ بنُ أنسٍ وسفيانُ الثوريُّ وأحمدُ بنُ حنبل»[25].
75 - السُّلطانُ (421هـ)
قال أبو علي بن البنَّاء: «حكى عليُّ بن الحسين العكبري أنَّهُ سمعَ أبا مسعودٍ أحمدَ بنَ محمد البجلي قال: دخلَ ابنُ فورك على السُّلطانِ محمود[26]، فقالَ: لا يجوزُ أنْ يُوصفَ اللهُ بالفوقيَّةِ لأنَّ لازمَ ذلكَ وصفُهُ بالتَّحتيَّةِ، فمنْ جازَ أنْ يكونَ لهُ فوقٌ، جازَ أن يكونَ له تحتٌ. فقال السُّلطانُ: ما أنا وصفتُهُ حتَّى يُلْزِمَنِي، بلْ هوَ وَصَفَ نَفْسَهُ. فبُهتَ ابنُ فورك، فلمَّا خرجَ مِنْ عندهِ ماتَ. فيقالُ: انشقَّتْ مَرارَتُه»[27].
76 - يحيى بنُ عمَّارٍ (422هـ)
قال المفسِّرُ الحنبليُّ يحيى بنُ عمَّارٍ رحمه الله: «كلُّ مسلمٍ منْ أوَّلِ العصرِ إلى عصـرنَا هذا إذا دعَا اللهَ سبحانهُ رفعَ يدَيْهِ إلى السَّماءِ. والمسلمونَ منْ عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، يقولونَ في الصَّلاةِ ما أمرهمُ الله تعالى بهِ في قولهِ تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1].
ولا حاجةَ لله سبحانه وتعالى إلى العرشِ، لكنَّ المؤمنينَ كانوا محتاجينَ إلى معرفةِ ربِّهم عزَّ وجلَّ. وكلُّ منْ عبدَ شيئًا أشارَ إلى موضعٍ، أوْ ذكرَ مِنْ معبودهِ علامةً. فجبَّارُنَا وخالِقُنا، إنَّما خَلَقَ عرشَهُ ليقولَ عبدهُ المؤمنُ، إذا سُئلَ عنْ ربِّهِ عزَّ وجلَّ أينَ هوَ الرحمنُ؟ عَلَى العَرْشِ اسْتَوىَ، معناه فوقَ كُلِّ مُحْدَثٍ عَلَى عَرْشِهِ العظيمِ، وَلاَ كيفيَّةَ وَلاَ شَبَهَ.
ولا نحتاجُ في هذا البابِ إلى قولٍ أكثرَ منْ هذا أنْ نؤمنَ بهِ، وننفيَ الكيفيَّةَ عنهُ، ونتَّقيَ الشَّكَّ فيهِ، ونوقنَ بأنَّ ما قالهُ اللهُ سبحانه وتعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم، ولا نتفكَّرُ في ذلكَ، ولا نسلِّطُ عليهِ الوهمَ والخاطرَ والوسواسَ.
وتعلمُ حقًّا يقينًا أنَّ كلَّ ما تُصُوِّر في همِّكَ ووهمكَ منْ كيفيَّةٍ أو تشبيهٍ، فاللهُ بخلافهِ وغيرهِ.
نقولُ: هُوَ بِذَاتِهِ على العَرْشِ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بكُلِّ شَيءٍ»[28].
وقال رحمه الله: لا نقولُ كمَا قالتِ الجهميَّةُ: إنَّهُ تعالى مداخلٌ للأمكنةِ وممازجٌ بكلِّ شيءٍ ولا نعلمُ أينَ هوَ؟ بلْ نقولُ هُوَ بِذَاتِهِ عَلَى العَرْشِ وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بكلِّ شَيءٍ، وعلمهُ وسمعهُ وبصرهُ وقدرتهُ مُدْرِكَةٌ لكلِّ شيءٍ. وذلكَ معنى قولهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فهذَا الذي قلناهُ هوَ كمَا قالَ اللهُ وقالهُ رسولهُ.
77 - القادرُ بالله أميرُ المؤمنين (422هـ)
لهُ معتقدٌ مشهورٌ، قرئَ ببغدادَ بمشهدٍ منْ علمائها وأئمَّتها، وأنَّهُ قولُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، وفيهِ أشياء حسنة. منْ ذلكَ:
«وأنَّهُ خَلَقَ العرشَ لا لحاجةٍ، واسْتَوَى عليهِ كيفَ شاءَ لا استواءَ راحةٍ، وكلُّ صفةٍ وصفَ بها نفسَهُ، أو وصفَهُ بها رسولُهُ فهي صفةٌ حقيقيةٌ لا صفةُ مجازٍ، وكلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ أنزَلَهُ على رسولِهِ صلى الله عليه وسلم»[29].
78 - أبو عمر الطلمنكيُّ (429هـ)
قالَ في كتابِ «الوصولِ إلى معرفةِ الأصولِ» وهوَ مجلدانِ: «أجمعَ المسـلمونَ منْ أهلِ السنَّةِ على أنَّ معنى قولِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، ونحو ذلكَ مِنَ القرآنِ أنَّهُ عِلْمُهُ، وأنَّ اللهَ تعالى فوقَ السَّماواتِ بذَاتِهِ، مستوٍ على عَرْشِهِ كَيْفَ شَاءَ.
وقالَ أهلُ السُّنَّةِ في قولِهِ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]: إنَّ الاستواءَ مِنَ اللهِ على عَرْشِهِ على الحَقِيقَةِ لا على المَجَازِ»[30].
[1] الإبانة (ص69 - 71).
[2] العلوّ (ص1254 - 1255).
[3] شرح السنة (ص24)، للبربهاري.
[4] العلوّ (ص1258)، وصححه الألباني في«مختصر العلو» (ص244).
[5] العلوّ (ص1264).
[6] أي: العلامة ابن شعبان، أبو إسحاق شيخ المالكية، محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد بن ربيعة العماري المصري، من ولد عمّار بن ياسر.
[7] السير (16/79).
[8] الشريعة (ص1072 - 1105)، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي.
[9] (2/543).
[10] تأويل الآيات المشكلة - ورقة 132/أ - 135/أ (مخطوط في مكتبة طلعت، ضمن دار الكتب في القاهرة).
[11] راجع: المختار من الإبانة (3/136 - 144).
[12] المصدر السابق (ص168).
[13] كتاب الجامع (ص139 - 141).
[14] مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة (ص56).
[15] مختصر العلوّ (ص255).
[16] السير (12/17).
[17] كتاب التوحيد (3/185).
[18] انظر: كتاب التوحيد (3/185 - 190).
[19] أصول السنَّة (ص88).
[20] تذكرة الحفاظ (3/338 - 339).
[21] التمهيد (ص260 - 262).
[22] مختصر العلو (ص259).
[23] مختصر العلوّ (ص282 - 283).
[24] الفتوى الحموية (ص377 - 378).
[25] شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة (3/429 - 430).
[26] هو الملك يمين الدولة، فاتح الهند، أبو القاسم، محمود بن سيد الأمراء ناصر الدولة سُبُكْتِكين، التركيّ، صاحب خراسان والهند وغير ذلك.
[27] السير (17/487).
[28] الحجة في بيان المحجة (2/106 - 107).
[29] مختصر العلو (ص263).
[30] مختصر العلو (ص264).
يتبع .....