الفصل الخامس: نفوذ الثروات الطائلة المُخفق
ص 163
ألن داولي*
(1)
افتتن الكُتّاب في المجادلة بين (سكوت فيتزجيرالد) و (آرنست همنغواي) حول مكانة الثروات الطائلة في المجتمع الأمريكي، وأعادوا تلك المجادلة مئات المرات:
سكوت فيتزجيرالد: اسمح لي بإخبارك شيئاً عن الأغنياء.. هم مختلفون عنك وعني.
آرنست همنغواي: أجل.. لديهم مزيدٌ من المال.
وهذه الإشارة رغم قلة كلماتها، إلا أنها تنطق بلسان مجلدات عدة حول الطبقات في أمريكا.
بدأ قادة الصناعة في عصر الثراء رحلة تحويل أنفسهم من مجرد كادحين لجمع المال الى نماذج مثالية في المجتمع ينعمون بكل ما توفره الطبقة الأرستقراطية من رفعةٍ في المقام ومنحٍ عديدةٍ أخرى، وغير مكتفين بما حققوه من ثراء، فقد سعت السلالات الحاكمة الشهيرة لآل (روكفيلر) و (مورغان) و (ألدريتش) الى احتكار النفوذ السياسي. وسعى الجيل الجديد من العائلات الثرية المرتبطة بشركات صناعية ومالية الى إخضاع مصير بلدهم لمشيئة طبقتهم.
(2)
أشارت التغيرات الهامة في نهاية القرن التاسع عشر الى تماسك طبقة أرستقراطية وطنية وزعت اهتماماتها بين (وال ستريت) و (واشنطن). وبدأ عصر الثراء والاتحادات الضخمة كتلك التي حصلت بين (ستاندرد أويل) التي يملكها (جون روكفيلر) وإمبراطورية الفولاذ التي يملكها (أندرو كارنيجي) الى تأسيس أول مؤسسة بالعالم رأسمالها (مليار) دولار عام 1901. وقد دعا المراقبون تلك الشركة باسم (الاحتكار) ووصفوا جمعها للأموال بأنه كحمم البراكين التي تنفث مالاً غزيراً*1
يشير المؤلف الى اختلاف بين الطبقة الأرستقراطية والنُخبة، فيقول عن النخب بأنهم أولئك الذين ارتقوا الدرجات العليا من سلم النجاح في القانون، والتربية، والسياسة، والأعمال، وأي حقل آخر. فقد كانوا المحركين الذين ظهرت أسماؤهم في لائحة القادة. وبشكل مغاير، كانت الطبقة الأرستقراطية مؤلفة من مجموعة العائلات المترابطة التي نعمت بقيادة اجتماعية واحترام ثقافي في المجتمع ككل.
والمجموعتان متداخلتان في الدرجات العليا*2، لكن متطلبات الانتساب الى إحداها مختلفة. فبالنسبة الى النخب، كان مفتاح الانتساب متمثلاً بالموثوقية التربوية والعلاقات الشخصية، في حين أن ولوج الطبقة الأرستقراطية كانت تتطلب نوعية السلالة، والتربية، والمال الذي كل ما كانت كميته كبيرة كان الأمر أفضل.
(3)
والانتقال الى الرأسمالية المالية يؤكد تأثير الثروة الطائلة على تشكيل الطبقة الأرستقراطية. ولو أخذنا (جاي. بيربونت مورغان) أول من جمع مليار دولار في العالم وهو مصرفي كبير مغرور كان بجرة قلم قادرا على تأمين أو إلغاء أرزاق الآلاف. وإبان حالة الذعر التي أصابت أثرياء الولايات المتحدة في عام 1907، حيث كانت الشركات تتكبد الخسارة تلو الأخرى في (وول ستريت)، وكان معظمها على شفير الإفلاس. دعا هؤلاء عند منتصف الليل لاجتماع في قصره الرائع، والذي لن ينسى من دخله فخامة موجوداته.
أقفل الأبواب، وسلم الحاضرين نسخاً مكتوبة لخطته، وكان يكتفي بالقول لكل واحدٍ منهم (هنا توقع) ويضيف بحزم (هاك القلم). لقد أنهى حالة الذعر، ويدلل هذا السلوك على الصلة الوثيقة بين القطاعين المالي والصناعي*3
وبالرغم من أن أحداً لم يعتبر (جاي. بي. مورغان) فاتناً، فقد كان نهماً في جمع الكنوز الفنية وملء قصره بزخارف الثقافة الأوروبية الرفيعة، ووصف أحدهم المشهد قائلاً: (في إحدى الغرف، كانت هناك تطاريز رسومية رفيعة وعالية معلقة على الجدران، ونُسَخ نادرة للكتب المقدسة ومخطوطات مضاءة عن القرون الوسطى تملأ الخزائن؛ وكانت في غرفة أخرى تلك المجموعة التي تتناول فنانين مثل كاستانيو، وغيرلاندايو، وبيروجينو، وغيرهم.
وفي إطار التحول للثروات الموروثة، تحول الجوهر الأساسي لمكاسب عصر الثراء الى إرث ذهبي. وبهدف احتمائها من نوبات السوق التنافسية، عززت العائلات (البارونية) الكبيرة (آل روكفيلر، وهاريمان، ومورغان وغيرها) ثرواتها من خلال زيجات مصاهرة كانت النسخة الاجتماعية لتشابك مجالس الإدارات المتحدة.
كان الى جانب المال، يوجد تفكير أقرب للعنصرية التي تمجد البيض ومن ثم البروتستانت، وتعتبر العرق الأنجلوسكسوني هو الأجدر بأن يملك العالم، فلم تكن الطبقة الأرستقراطية احتراما للكاثوليك الأيرلنديين (كآل كيندي مثلاً) ولا اليهود*4.
(4)
لم تتوقف الطبقة الحاكمة عند حدود الولايات المتحدة، فقد شرعت بسلسلة من عمليات الضم الاستعماري والتدخلات العسكرية في الحرب الإسبانية الأمريكية التي بدأت عام 1898، ثم في أمريكا اللاتينية وكوبا وبنما والفلبين. وقد سارت الولايات المتحدة على خطى بريطانيا، ومع ذلك لم تنس أن تغلف نشاطاتها الاستعمارية بغلاف إنساني، وقد عزز كُتاب أمريكيون ذلك التوجه بكتاباتهم، فيكتب (راديار كيبيلنغ) بعد العصيان المسلح لأهل الفلبين ضد المحتل الأمريكي، بأن سكان الفلبين لم يصبحوا بعد مستعدين لحكم أنفسهم! [ هذا ما يحدث في العراق وأفغانستان بعد مرور حوالي ثمانية عقود].
وقد كان لالتحام المال والسياسة والحرب صورٌ متجسدة في المكسيك مثلاً شركات (روكفيلر ومورغان وستيلمن و دودج). وفي منطقة الكاريبي (مورغان وستيلمن) وفي أمريكا الوسطى (يونايتد فروت) وكذلك في كوبا.
أما في الفلبين فقد كان الحاكم فيها (وليام تافت) والذي عينه (روزفلت) قد كتب يقول (أوصل الجيش الأمريكي الفلبين الى مرحلة باتت فيه حقلا جاهزا ومغريا للاستثمار والعمل. ولكن لجعل هذا الأمر ممكناً، يجب أن تكون هناك قوانين للتعدين وقوانين للمساكن والأراضي والعمل المصرفي والعملات)*5. و(تافت هذا أصبح رئيساً للولايات المتحدة)
هوامش من تهميش المؤلف:
· ألن داولي: أستاذ تاريخ في كلية نيوجيرسي. هو مؤلف كتاب الطبقة والمجتمع المحلي: الثورة الصناعية في لين 1967. وهو مؤلف كتاب النضال من أجل العدالة: المسؤولية الاجتماعية والدولة الليبرالية 1991. وكتاب تغيير العالم: التقدميون الأميركيون في الحرب والثورة 2003.
*1ـ Beyond Markets and Hierarchies: Toward a New Synthesis of American Business History Review 108( April 2003) 404-433
*2ـ The distinction follows Baltzell, Protestant Establishment 7-8; Batzell also identifies members of upper class by the overlap of names between Whos Who and The Social Register.
*3ـ Quote from Thomas Lamont, Across W0rld Frontiers (New York: Harcourt, Brace, 1951), 39
*4ـ Aldrich, Old Money, 275; Baltzell, Protestant Establishment, was written in part, to alert members of upper class to the inevitable disappearance of any resolutely Protestant Establishment in a society with successful Catholics and Jews.
*5ـ Taft to Root, August 18/1900
رد مع اقتباس