منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - من تاريخ العلامة ابن خلدون
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-06-17, 21:52   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
المعزلدين الله
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية المعزلدين الله
 

 

 
الأوسمة
وسام الاستحقاق 
إحصائية العضو










افتراضي

المقدمة
في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض
للمؤرخين
من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابه0ا
إعلم أنَّ فنَّ التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهمْ، والملوك في دولهم وسياستهمْ، حتى تتمَّ فائدةُ الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا. فهو محتاجٌ إلى مآخذ متعدَدةََومعارف متنوعة، وحسن نظرو تثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سمينًاً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات ، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط؛ ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هى مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد.
وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل بأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه، بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون.ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش. لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عما فوقها؛ تشهد بذلك العوائد المعروفة والأحوال المألوفة.ثم أن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها، وبعدها إذا اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثاً أو أزيد، فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر. والحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء.
ولقد كان ملك الفرس ودولتهم اعظم من ملك بني إسرائيل بكثير، يشهد لذلك ما كان من غلب بختنصر لهم، والتهامه بلادهم، واستيلائه على أمرهم، وتخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم وسلطانهم، وهو من بعض عمال مملكة فارس. يقال إنه كان مرزبان المغرب من تخومها. وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء النهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير. ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريبا منه. وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرون ألفا، كلهم متبوع على ما نقله "سيف " قال: وكانوا في أتباعهم اكثر من مائتي ألف. وعن عائشة والزهري: أن جموع رستم التي زحف بها لسعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفا كلهم متبوع.وأيضا فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتسع نطاق ملكهم وانفسح مدى دولتهم فإن العمالات والممالك في الدول على نسبة الحامية والقبيل القائمين بها في قلتها وكثرتها حسبما نبين في فصل الممالك من الكتاب الأول. والقوم لم تتسع ممالكهم إلى غير الأردن وفلسطين من الشام، وبلاد يثرب وخيبر من الحجاز على ما هو المعروف.


وأيضاً فالذي بين موسى وإسرائيل إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون، فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بفتح الهاء وكسرها، ابن لاوي بكسر الواو وفتحها، ابن يعقوب وهو إسرائيل الله، كذا نسبه في التوراة. والمدة بينهما على ما نقله المسعودي، قال : دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام إلى التيه مائتين وعشرين سنة، تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة. ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد. وإن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان ومن بعده فبعيد أيضا إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلا أحد عشر أبا. فإنه سليمان بن داود بن إيشا بن عوفيذ (ويقال ابن عوفذ) بن باعز (ويقال بوعز) بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب (ويقال حميناذاب) بن رم بن حصرون (ويقال حسرون) بن بارس (ويقال بيرس) بن يهوذا بن يعقوب. ولا يتشعب النسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الذي زعموه اللهم إلى المئين والآلاف فربما يكون وأما أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد. وأعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف، تجد زعمهم باطلا ونقلهم كاذبا.
والذي ثبت في الإسرائيليات أن جنود سليمان كانت اثني عشر ألفا خاصة، وأن مقرباته كانت ألفا وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه. هذا هو الصحيح من أخبارهم ولا يلتفت إلى خرافات العامة منهم. وفي أيام سليمان عليه السلام وملكه كان عنفوان دولتهم واتساع ملكهم.هذا، وقد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه، وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى، أو اخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين، توغلوا في العدد
وتجاوزوا حدود العوائد، وطاوعوا وساوس الإعراب. فإذا استكشفت أصحاب الدواوين عن عساكرهم، واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم ، واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم، لن تجد معشار ما يعدونه. وما ذاع إلا لولوع النفس بالغرائب، وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد، حتى لا يحاسب نفسه على خطأ ولا عمد، ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة، ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش، فترسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه، ويتخذ آيات الله هزءاً، ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، وحسبك بها صفقة خاسرة.
ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة في أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب انهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية والبربر من بلاد المغرب، وأن إفريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم أول، وكان لعهد موسى عليه السلام او قبله بقليل. غزا أفريقية واثخن في البربر، وانه الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وقال: ما هذه البربرة ، فأخذ هذا الاسم عنه ودعوا به من حينئذ، وانه لما انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها، ومنهم صنهاجة، وكتامة ومن هذا ذهب الطبري والجرجاني والمسعودي وبن الكلبي والبيلي إلى أن صنهاجة وكتامة من حمير وتأباه نسابة البربر، وهو الصحيح.وذكر المسعودي أيضا أن ذا الإذعار من ملوكهم قبل إفريقش وكان على عهد سليمان عليه السلام، غزا المغرب ودوخه، وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده، وأنه بلغ وادي الرمل من بلاد المغرب ولم يجد فيه مسلكا لكثرة الرمل، فرجع. وكذلك يقولون في تبع الآخر وهو اسعد أبو كرب، وكان على عهد يستاسف من ملوك الفرس الكيانية ، إنه ملك الموصل وأذربيجان
ولقي الترك فهزمهم وأثخن، ثم غزاهم ثانية وثالثة كذلك، وإنه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس، وإلى بلاد الصغد من بلاد أمم الترك وراء النهر، وإلى بلاد الروم، فملك الأول البلاد إلى سمرقند وقطع المفازة إلى الصين، فوجد أخاه الثاني الذي غزا إلى سمرقند قد سبقه إليها، فاثخنا في بلاد الصين ورجعا جميعاًًًً بالغنائم، وتركوا ببلاد الصين قبائل من حمير فهم بها إلى هذا العهد، وبلغ الثالث إلى قسطنطينية فدرسها ودوخ بلاد الروم ورجع.
وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة، عريقة في الوهم والغلط، وأشبه بأحاديث اقصص الموضوعة. وذلك أن ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيهم بصنعاء اليمن. وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها: فبحر الهند من الجنوب، وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق، وبحر السويس الهابط منه إلى السويس من أعمال مصر من جهة المغرب، كما تراه في مصور الجغرافيا. فلا يجد السالكون من اليمن إلى المغرب طريقا من غير السويس. والمسلك هناك ما بين بحر السويس والبحر الشامي قدر مرحلتين فما دونهما. ويبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله، هذا ممتنع في العادة.وقد كان بتلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشام والقبط بمصر، ثم ملك العمالقة مصر وملك بنو إسرائيل الشام، ولم ينقل قط أن التبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئا من تلك الأعمال.وأيضا فالشقة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كثيرة، فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى إنتهاب الزرع والنعم وانتهاب البلاد فيما يمرون عليه، ولا يكفي ذلك للأزودة وللعلوفة عادة، وإن نقلوا كفايتهم من ذلك من أعمالهم فلا تفي لهم الرواحل بنقله، فلا بد وأن يمروا في طريقهم كلها بأعمال قد ملكوها ودوخوها لتكون الميرة منها. وإن قلنا أن تلك العساكر تمر بهؤلاء الأمم من غير أن
تهيجهم فتحصل لهم الميرة بالمسالمة، فذلك أبعد وأشد امتناعا، فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة
وأما وادي الرمل الذي يعجز السالك، فلم يسمع قط ذكره في المغرب على كثرة سالكه ومن يقص طرقه من الركاب والقرى في كل عصر وكل جهة، وهو على ما ذكروه من الغرابة تتوافر الدواعي على نقله.وأما غزوهم بلاد الشرق وأرض الترك، وإن كانت طريقه أوسع من مسالك السويس، إلا أن الشقة هنا أبعد، وأمم فارس والروم معترضون فيها دون الترك. ولم ينقل قط أن التبابعة ملكوا بلاد فارس ولا بلاد الروم، وإنما كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق وما بين البحرين والحيرة والجزيرة بين دجلة والفرات وما بينهما في الأعمال، وقد وقع ذلك بين يدي الإذعار منهم وكيكاوس من ملوك الكيانية، وبين تبع الأصغر أبي كرب ويستاسف منهم أيضا، ومع ملوك الطوائف بعد الكيانية والساسانية من بعدهم، بمجاوزة أرض فارس بالغزو إلى بلاد الترك والتبت، وهو ممتنع عادة من أجل الأمم المعترضة منهم، والحاجة إلىالأزودة والعلوفات مع بعد الشقة كما مر. فالأخبار بذلك واهية مدخولة. وهي لو كانت صحيحة النقل لكان ذلك قادحا فيها، فكيف وهي لم تنقل من وجه صحيح. وقول ابن إسحق في خبر يثرب والأوس والخزرج: أن تبعا الآخر سار إلى المشرق محمول على العراق وبلاد فارس. وأما بلاد الترك والتبت فلا يصح غزوهم إليها بوجه لما تقرر. فلا تثقن بما يلقى إليك من ذلك، وتأمل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه. والله الهادي إلى الصواب.
فصل
وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة
"والفجر"
في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 6، 7]، فيجعلون لفظة {إرَمَ} اسما لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين. وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد وشداد ملكا من بعده، وهلك شديد فخلص الملك لشداد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة، فقال لأبنين مثلها، فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم. ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين وينقلون عن عبد الله بن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه، وبلغ خبره إلى معاوية، فأحضره وقص عليه فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال، هي: "إرم ذات العماد"، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فابصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل.
وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض. وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن، وما زال عمرانها متعاقبا والأدلاء تقص طرقها من كل وجه، ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الإخباريين ولا من أمم. ولو قالوا إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه. إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة. وبعضهم يقول إنها دمشق، بناء على أن قوم عاد ملكوها. وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر. مزاعم كلها أشبه بالخرافات.والذى حمل المفسرين
على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظه ذات العماد أنها صفة إرم، وحملو العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير "عادُ إرم" على الإضافة من غير تنوين. ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة والتي هي أقرب إلى الكذب، المنقولة في عداد المضحكات. وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل للخيام. وإن أريد بها الأساطين فلابدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم، بما اشتهر من قوتهم، لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها. وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة، كما تقول قريش كنانة، وإلياس مضر، وربيعة نزار. وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة.
ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين، ما ينقلونه كافة في سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحمى بن خالد مولاه، وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة حرصا على اجتماعهما في مجلسه، وأن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة به، لما شغفها من حبه حتى واقعها ، (0زعموا في حالة سكر)، فحملت ووشي بذلك للرشيد، فاستغضب.
وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها وأبويها وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده والعباسة بنت محمد المهدي بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن مجمد السجاد بن علي أبي الخلفاء، ابن عبد الله ترجمان القران، ابن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، ابنة خليفة، أخت خليفة، محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية وصحبة الرسول وعمومته، وإمامة الملة ونور الوحي ومهبط

الملائكة من سائر جهاتها، قريبة عهد ببداوة العروبية وسذاجة الدين، البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش. فأين يطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها، أو أين توجد الطهارة و الزكاء إذا فقد من بيتها، أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم، بملكة جده من الفرس أو بولاء جدها من عمومة الرسول وأشراف قريش. وغايته أن جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه واستخلصتهم ورقتهم إلى منازل الأشراف. وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته، وعظم آبائه ولو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف، وقاس العباسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه، لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها، وفي سلطان قومها، واستنكره ولج في تكذيبه. وأين قدر العباسة والرشيد من الناس.
وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجافهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه. فعظمت آثارهم وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عن سواهم، من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم. ويقال إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيسا من بين صاحب سيف وصاحب قلم، زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب، ودفعوهم عنها بالراح، لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون ولي عهد وخليفة، حتى شب في حجره ودرج
من عشه وغلب على أمره ، وكان يدعوه يا أبت. فتوجه الإيثار من السلطان إليهم وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وقصرت عليهم الآمال، وتخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء، وتسربت إلى خزائنهم في سبيل التزلف والاستمالة، أموال الجباية، وأفاضوا في رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء، وطوقوهم المنن وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم وفكوا العاني، ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع من الضواحي والأمصار في سائر الممالك حتى آسفوا البطانة وأحقدوا الخاصة، وأغصوا أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد، ودبت إلى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية ، حتى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم الساعين عليهم، لم تعطفهم، لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرحم، ولا وزعتهم أواصر القرابة. وقارن ذلك عند مخدومهم نواشي الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة، وكامن الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة، وانتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصتهم في يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أخي محمد المهدي الملقب بالنفس الزكية الخارج على المنصور. ويحيى هذا هو الذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الديلم على أمان الرشيد بخطه، وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره ا لطبري، ودفعه الرشيد إلى جعفر، وجعل إعتقاله لداره وإلى نظره. فحبسه مدة، ثم حملته الدالة على تخلية سبيله، والاستبداد بحل عقاله، حرما لدماء أهل البيت بزعمه، ودالة على السلطان في حكمه. وسأله الرشيد عنه لما وشي به إليه، ففطن، وقال: أطلقته ، فأبدى له وجه
الاستحسان وأسرها في نفسه. فأوجد السبيل بذلك على نفسه وقومه، حتى ثل عرشهم، وألقيت عليهم سماؤهم، وخسفت الأرض بهم وبدارهم، وذهبت سلفا ومثلا للآخرين أيامهم. ومن تأمل أخبارهم، واستقصى سير الدولة وسيرهم وجد ذلك محقق الأثر ممهد الأسباب.وانظر ما نقله ابن عبد ربه في مفاوضة الرشيد عم جده داود بن علي في شأن نكبتهم، وما ذكره في باب الشعراء من كتاب العقد في محاورة الأصمعي للرشيد وللفضل بن يحيى في سمرهم، تتفهم أنه إنما قتلتهم الغيرة والمنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه. وكذلك ما تحيل به أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالا على إسماعه للخليفة وتحريك حفائظه لهم وهو قوله:
 ليت هنداً أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجــــد
 واستبدت مرة واحــــدة إنما العاجز من لا يستبد
وأن الرشيد لما سمعها قال: "إي والله إني عاجز" حتى بعثوا بأمثال هذه كامن غيرته، وسلطوا عليهم بأس انتقامه، نعوذ بالله من غلبة الرجال وسوء الحال.وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر، واقتران سكره بسكر الندمان،فحاش لله "ما علمنا عليه من سوء". وأين هذا من حال الرشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحابة العلماء والأولياء، ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك والعمري ، ومكاتبته سفيان الثوري، وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه، وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها. حكى الطبري وغيره انه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة، وكان يغزو عاما ويحج عاما. ولقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرض له بمثل ذلك في الصلاة لما سمعه يقرا {وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، وقال والله ما أدري لم؟ فما تمالك الرشيد أن ضحك، ثم التفت إليه مغضبا، وقال: يا ابن أبي مريم في الصلاة أيضاً إياك إياك
والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.وأيضا فقد كان من العلم والسذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه المنتحلين لذلك، ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن، إنما خلفه غلاما. وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدين قبل الخلافة وبعدها. وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطإ: "يا أبا عبد الله إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، ووطئه للناس توطئة". قال مالك: "فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ". ولقد أدركه ابنه المهدي أبو الرشيد هذا وهو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال. ودخل عليه يوما وهو بمجلسه يباشر الخياطين في إرقاع الخلقان من ثياب عياله، فاستنكف المهدي من ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين علّيّ كسوة العيال عامنا هذا من عطائي، فقال له لك ذلك ولم يصده عنه، ولا سمح بالإنفاق فية من أموال المسلمين. فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة وأبوته، وما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته، والتخلق بها، أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها. وقد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهلية في اجتناب الخمر معلومة، ولم يكن الكرم شجرتهم، وكان شربها مذمة عند الكثير منهم، والرشيد وآباؤه كانوا على ثبج من اجتناب المذمومات في دينهم ودنياهم، والتخلق بالمحامد و أوصاف الكمال ونزعات العرب.وانظر ما نقله الطبري والمسعودي في قصة جبريل بن بختيشوع الطبيب حين احضر له السمك في مائدته فحماه عنه، ثم أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله وفطن الرشيد وارتاب به، ودس خادمه حتى عاينه يتناوله، فأعد ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السمك في ثلاثة أقداح: خلط إحداهما باللحم المعالج بالتوابل والبقول والبوارد والحلوى وصب على الثانية ماء
مثلجاً، وعلى الثالثة خمرا صرفا. وقال في الأول والثاني هذا طعام أمير المؤمنين، أن خلط السمك بغيره أو لم يخلطه، وقال في الثالث: هذا طعام ابن بختيشوع، ودفعها إلى صاحب المائدة حتى إذا انتبه الرشيد، وأحضره للتوبيخ، أحضر الثلاثة الأقداح، فوجد صاحب الخمر قد اختلط وأماع وتفتت، ووجد الآخرين قد فسدا وتغيرت رائحتهما. فكانت له في ذلك معذرة. وتبين من ذلك أن حال الرشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته وأهل مائدته ولقد ثبت عنه أنه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتى تاب وأقلع.وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق(1). وفتاويهم فيها معروفة وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه به، ولا تقليد الأخبار الواهية فيها. فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرما من أكبر الكبائر عند أهل الملة. ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنحاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم ، لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها بعد. فما ظنك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر، وعن الحلة إلى الحرمة.ولقد اتفق المؤرخون الطبري والمسعودي وغيرهم على أن جميع من سلف من خلفاء بني أمية وبني العباس إنما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة في المناطق والسيوف واللجم والسروج، وأن أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب هو المعتز بن المتوكل ثامن الخلفاء بعد الرشيد. وهكذا كان حالهم أيضا في ملابسهم فما ظنك بمشاربهم؟ ويتبين ذلك بأتم من هذا إذا فهمت طبيعة الدولة في أولها من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأول أن شاء الله. والله الهادي إلى الصواب.ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحيى بن أكثم قاضي المأمون وصاحبه، وأنه كان يعاقر الخمر وأنه سكر ليلة مع شربه، فدفن في الريحان حتى أفاق وينشدون على لسانه:
 يا سيدي وأمير الناس كلهم قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني كما تـراني سليب العقل والـديـــن
وحال ابن أكثم والمأمون في ذلك من حال الرشيد. وشرابه إنما كان النبيذ؛ ولم يكن محظورا عندهم. وأما السكر فليس من شأنهم، وصحابته للمأمون إنما كانت خلة في الدين. ولقد ثبت أنه كان ينام معه في البيت . ونقل من فضائل المأمون وحسن عشرته أنه انتبه ذات ليله عطشان فقام يتحسس ويتلمس الإناء مخافة أن يوقظ يحيى ابن أكثم. وثبت أنهما كانا يصلين الصبح جماعة فأين هذا من المعاقرة وأيضا فإن يحيى ابن أكثم كان من علية أهل الحديث . وقد أثنى عليه الإمام أ حمد بن حنبل وإسماعيل القاضي، وخرج عنه الترمذي كتابه الجامع، وذكر المزني الحافظ أن البخاري روى عنه في غير الجامع، فالقدح فيه قدح في جميعهم.وكذلك ما ينبزه المجان بالميل إلى الغلمان بهتانا على الله وفرية على العلماء ويستندون في ذلك إلى أخبار القصاص الواهية التي لعلها من افتراء أعدائه فإنه كان محسودا في كماله وخلته للسلطان وكان مقامه من العلم والدين منزها عن مثل ذلك. ولقد ذكر لابن حنبل ما يرميه به الناس فقال سبحان الله، سبحان الله، ومن يقول هذا؟ وأنكر ذلك إنكارا شديدا. وأثنى عليه إسماعيل القاضي، فقيل له ما كان يقال فيه فقال معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذب باغ وحاسد. وقال أيضا: يحيي بن أكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء مما كان يرمى به من أمر الغلمان ولقد كنت اقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله، لكنه كانت فيه دعابة وحسن خلق فرمي به. وذكره ابن حيان في الثقات ، وقال: لا يشتغل بما يحكى عنه لأن أكثرها لا يصح عنه.ومن أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد ربه صاحب العقد من حديث الزنبيل، في سبب إصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في بنته بوران، وانه عثر في بعض الليالي في تطوافه بسكك بغداد في زنبيل مدلى من بعض السطوح بمعالق وجدل مغارة الفتل
من الحرير فاعتقده وتناول المعالق فاهتزت وذهب به صعدا إلى مجلس شأنه كذا. ووصف من زينة فرشه وتنضيد أبنيته وجمال رؤيته ما يستوقف الطرف ويملك النفس، وأن امرأة برزت له من خلل الستور في ذلك المجلس رائقة الجمال فتانة المحاسن، فحيته ودعته إلى المنادمة، فلم يزل يعاقرها الخمر حتى الصباح، ورجع إلى أصحابه بمكانهم من انتظاره وقد شغفته حبا بعثه على الإصهار إلى أبيها. وأين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه وعلمه واقتفائه سنن الخلفاء الراشدين من آبائه، وأخذه بسير الخلفاء الأربعة أركان الملة ومناظرته للعلماء وحفظه لحدود الله تعالى في صلواته وأحكامه. فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهترين في التطواف بالليل وطروق المنازل وغشيان السمر، سبيل عشاق الأعراب. وأين ذلك من منصب ابنة الحسن بن سهل وشرفها وما كان بدار أبيها من الصون والعفاف.وأمثال هذه الحكايات كثيرة، وفي كتب المؤرخين معروفة، وإنما يبعث على وضعها والحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة، وهتك قناع المخدرات، ويتعللون بالتأسي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذاتهم، فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار وينقرون عنها عند تصفحهم لأوراق الدواوين. ولو ائتسوا بهم في غير هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيرا لهم لو كانوا يعلمون.ولقد عذلت يوما بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار، وقلت له: ليس هذا من شأنك ولا يليق بمنصبك، فقال لي: أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة ورئيس المغنين في زمانه؟ فقلت له: يا سبحان الله، وهلا تأسيت بأبيه أو بأخيه أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم فصم عن عذلي وأعرض، والله يهدي من يشاء.ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرخين والأثبات في العبيديين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله


عليهم، والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام ابن جعفر الصادق. يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفا إليهم بالقدح فيمن ناصبهم، وتفننا في الشمات بعدوهم، حسبما نذكر بعض هذه الأحاديث في أخبارهم، ويغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرد عليهم.
فإنهم متفقون في حديثهم عن مبدإ دولة الشيعة أن أبا عبد الله المحتسب لما دعا بكتامة للرضى من آل محمد، واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهدي وابنه أبي القاسم، خشيا على أنفسهما فهربا من المشرق محل الخلافة واجتازا بمصر، وانهما خرجا من الإسكندرية في زي التجار، ونمي خبرهما إلى عيسى النوشري عامل مصر والإسكندرية، فسرح في طلبهما الخيالة حتى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما بما لبسوا به من الشارة والزي، فأفلتوا إلى المغرب، وأن المعتضد أوعز إلى الأغالبة أمراء إفريقية بالقيروان، وبني مدرار أمراء سجلماسة بأخذ الآفاق عليهما وإذكاء العيون في طلبهما، فعثر إليسع صاحب سجلماسة من آل مدرار على خفي مكانهما ببلده،واعتقلهما مرضاة للخليفة.
هذا قبل أن تظهر الشيعة على الأغالبة بالقيروان. ثم كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بالمغرب وإفريقية، ثم باليمن، ثم بالإسكندرية، ثم بمصر والشام والحجاز. وقاسموا بني العباس في ممالك الإسلام شق الإبلمة، وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويزايلون من أمرهم. ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيري في من موالي الديلم المتغلبين على خلفاء بني العباس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء العجم، وخطب لهم على منابرها حولا كاملا. وما زال بنو العباس يغضون بمكانهم ودولتهم، وملوك بني أمية وراء البحر ينادون بالويل والحرب
منهم. وكيف يقع هذا كله لدعي في النسب يكذب في انتحال الأمر. واعتبر حال القرمطي إذ كان دعيا في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرقت اتباعه وظهر سريعا على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم، وذاقوا وبال أمرهم. ولو كان أمر العبيديين كذلك لعرف ولو بعد مهلة:
 ومهما تكن عند امرىء من خليقة وإن خالها تخفىعلى الناس تعلم
فقد اتصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة، وملكوا مقام إبراهيم عليه السلام ومصلاه، وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم ومدفنه، وموقف الحجيج ومهبط الملائكة، ثم انقرض أمرهم، وشيعتهم في ذلك كله على أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق. ولقد خرجوا مراراً بعد ذهاب الدولة ودروس أثرها، داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم، يزعمون استحقاقهم للخلافة، ويذهبون إلى تعيينهم بالوصية ممن سلف قبلهم من الأئمة. ولو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم، فصاحب البدعة لا يلّبس في أمره ولا يشبّه في بدعته ولا يكذب نفسه فيما ينتحله.
والعجب من القاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار من المتكلمين يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة، ويرى هذا الرأي الضعيف. فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين والتعمق في الرافضية، فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم، وليس إثبات منتسبهم بالذي يغني عنهم من الله شيئا في كفرهم، فقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]. وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها: <<يا فاطمة اعملي فلن اغني عنك من الله شيئا>>.
ومتى عرف امرؤ قضية أو استيقن أمرا وجب عليه أن يصدع به، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والقوم كانوا في مجال لظنون الدول بهم وتحت رقبة من الطغاة لتوفر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم، وتكرر
خروجهم مرة بعد أخرى، فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون، كما قيل:
 فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت وأين مكاني ما عرفن مكانيا
حتى لقد سمي محمد بن إسماعيل جد الإمام عبيد الله المهدي بالمكتوم، سمته بذلك شيعتهم لما اتفقوا عليه من إخفائه حذرا من المتغلبين عليهم. فتوسل شيعة بني العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم. وازدلفوا بهذا الرأي القائل للمستضعفين من خلفائهم، واعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولون لحروبهم مع الأعداء يدفعون به عن أنفسهم وسلطانهم معرة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن غلبهم على الشام ومصر والحجاز من البربر الكتامين شيعة العبيديين وأهل دعوتهم، حتى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم عن هذا النسب، وشهد بذلك عندهم من أعلام الناس جماعة منهم الشريف الرضي وأخوه المرتضى وابن البطحاوي، ومن العلماء أبو حامل الأسفراييني والقدوري والصيمري وابن الأكفاني والأبيوردي وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة، وغيرهم من أعلام الأمة ببغداد في يوم مشهود، وذلك سنة ستين وأربعمائة في أيام القادر، وكانت شهادتهم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد، وغالبها شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب، فنقله الإخباريون كما سمعوه، ورووه حسبما وعوه، والحق من ورائه.
وفي كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد وأوضح دليل على صحة نسبهم. فالمعتضد أقعد بنسب أهل البيت من كل أحد. والدولة والسلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع، وتلتمس فيه ضوال الحكم، وتحدى إليه ركائب الروايات والأخبار، وما
نفق فيها نفق عند الكافة. فإن تنزهت الدولة عن التعسف والميل واللأفن والسفسفة وسلكت النهج الأمم ولم تجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص واللجين المصفى وان ذهبت مع الأغراض والحقود، وماجت بسماسرة البغيوالباطل، نفق البهرج والزائف. والناقد البصير قسطاس نظره وميزان بحثه وملتمسه.
ومثل هذا وابعد منه كثيرا ما يتناجى به الطاعنون في نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى ويعرضون تعريض الحسد بالتظنن في الحمل المخفف عن إدريس الأكبر انه لراشد مولاهم قبحهم الله وأبعدهم، ما أجهلهم أما يعلمون أن إدريس الأكبر كان أصهاره في البربر وأنه منذ دخل المغرب إلى أن توفاه الله عز وجل عريق في البدو، وأن حال البادية في مثل ذلك غير خافية، إذ لا مكامن لهم يتأتى فيها الريب، وأحوال حرمهم أجمعين بمرأى من جاراتهن ومسمع من جيرانهن لتلاصق الجدران وتطامن البنيان وعدم الفواصل بين المساكن وقد كان راشد يتولى خدمة الحرم أجمع من بعد مولاه بمشهد من أوليائهم وشيعتهم ومراقبة من كافتهم. وقد اتفق برابرة المغرب الأقصى عامة على بيعة إدريس الأصغر من بعد أبيه، وآتوه طاعتهم عن رضا وإصفاق وبايعوه على الموت الأحمر وخاضوا دونه بحار المنايا في حروبه وغزواته. ولو حدثوا أنفسهم بمثل هذه الريبة، أو قرعت أسماعهم، ولو من عدو كاشح أو منافق مرتاب، لتخلف
عن ذلك ولو بعضهم. كلا والله إنما صدرت هذه الكلمات من بني العباس أقتالهم ومن بني الأغلب عمالهم، كانوا بإفريقية وولاتهم.
وذلك أنه لما فر إدريس الأكبر إلى المغرب من وقعة بلخ ، أوعز الهادي إلى الأغالبة أن يقعدوا له بالمراصد ويذكوا عليه العيون، فلم يظفروا به، وخلص إلى المغرب، فتم أمره وظهرت دعوته، وظهر الرشيد من بعد ذلك على ما كان من واضح مولاهم وعاملهم على الإسكندرية من دسيسة التشيع للعلوية وإدهانه في نجاة إدريس إلى المغرب. فقتله ودس الشماخ من موالي المهدي أبيه للتحيل على قتل إدريس، فاظهر اللحاق به والبراءة من بني العباس مواليه. فاشتمل عليه إدريس وخلطه بنفسه وناوله الشماخ في بعض خلواته سمّا استهلكه به. ووقع خبر مهلكه من بني العباس أحسن المواقع، لما رجوه من قطع أسباب الدعوة العلوية بالمغرب واقتلاع جرثومتها. ولما تأدى إليهم خبر الحمل المخلف لإدريس فلم يكن لهم إلا كلا ولا. وإذا بالدعوة قد عادت، والشيعة بالمغرب قد ظهرت، ودولتهم بإدريس بن إدريس قد تجددت، فكان ذلك عليهم أنكى من وقع السهام، وكان الفشل.والهرم قد نزلا بدولة العرب عن أن يسموا إلى القاصية. فلم يكن منتهى قدرة الرشيد على إدريس الأكبر بمكانه من قاصية المغرب، واشتمال البربر عليه إلا التحيل في إهلاكه بالسموم. فعند ذلك فزعوا إلى أوليائهم من الأغالبة بإفريقية في سد تلك الفرجة من ناحيتهم، وحسم الداء المتوقع بالدولة من قبلهم، واقتلاع تلك العروق قبل أن تشبح منهم، يخاطبهم بذلك المأمون، ومن بعده من خلفائهم. فكان الأغالبة عن برابرة المغرب الأقصى أعجز، ولمثلها من الزبون
على ملوكهم أحوج، لما طرق الخلافة من انتزاء ممالك العجم على سدتها، وامتطائهم صهوة التغلب عليها، وتصريفهم أحكامها طوع أغراضهم في رجالها وجبايتها وأهل خططها، وسائر نقضها وإبرامها كما قال شاعرهم:
 خليفة في قفص بين وصيف وبغا
 يقول ما قالا له كما تقول الببغا
فخشي هؤلاء الأمراء الأغالبة بوادر السعايات ، وتلوا بالمعاذير فطورا باحتقار المغرب وأهله، وطورا بالإرهاب بشأن إدريس الخارج به ومن قام مقامه من أعقابه يخاطبونهم بتجاوزه حدود التخوم من عمله، وينفذون سكته في تحفهم وهداياهم ومرتفع جباياتهم ، تعريضا باستفحاله وتهويلا باشتداد شوكته وتعظيما لما دفعوا إليه من مطالبته ومراسه ، وتهديدا بقلب الدعوة أن ألجئوا إليه، وطورا يطعنون في نسب إدريس بمثل ذلك الطعن الكاذب، تخفيضا لشأنه لا يبالون بصدقه من كذبه، لبعد المسافة، وأفن عقول من خلف من صبية بني العباس ومماليكهم العجم في القبول من كل فائل والسمع لكل ناعق. ولم يزل هذا دأبهم حتى انقضى أمر الأغالبة ، فقرعت هذه الكلمة الشنعاء أسماع الغوغاء، وصر عليها بعض الطاعنين أذنه، واعتدها ذريعة إلى النيل من خلفهم عند المنافسة. وما لهم قبحهم الله والعدول عن مقاصد الشريعة،فلا تعارض فيها بين المقطوع والمظنون. وإدريس ولد على فراش أبيه، والولد للفراش.
على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان، فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. ففراش إدريس طاهر من الدنس ومنزه عن الرجس بحكم القرآن. ومن اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه وولج الكفر من بابه. وإنما أطنبت في هذا الرد سدا لأبواب الريب ودفعا في صدر الحاسد، لما
سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم، القادح في نسبهم بفريته، وينقله بزعمه عن بعض مؤرخي المغرب ممن انحرف عن أهل البيت، وارتاب في الإيمان بسلفهم. وإلا فالمحل منزه عن ذلك معصوم منه، ونفي العيب حيث يستحيل العيب عيب. لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا، وأرجو أن يجادلوا عني يوم القيامة. ولتعلم أن أكثر الطاعنين في نسبهم إنما هم الحسدة لأعقاب إدريس هذا من منتم إلى أهل البيت أو دخيل فيهم، فإن ادعاء هذا النسب الكريم دعوى شرف عريض على الأمم والأجيال من أهل الآفاق، فتعرض التهمة فيه.
ولما كان نسب بني إدريس هؤلاء بمواطنهم من فاس وسائر ديار المغرب، قد بلغ من الشهرة والوضوح مبلغا لا يكاد يلحق ولا يطمع أحد في دركه، إذ هو نقل الأمة والجيل من الخلف عن الأمة والجيل من السلف، وبيت جدهم إدريس مختط فاس ومؤسسها بين بيوتهم، ومسجده لصق محلتهم ودروبهم، وسيفه منتضى برأس المئذنة العظمى من قرار بلدهم، وغير ذلك من آثاره التي جاوزت أخبارها حدود التواتر مرات، وكادت تلحق بالعيان، فإذا نظر غيرهم من أهل هذا النسب إلى ما أتاهم الله من أمثالها، وما عضد شرفهم النبوي من جلال الملك الذي كان لسلفهم بالمغرب، واستيقن أنه بمعزل عن ذلك، وانه لا يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه ، وأن غاية أمر المنتمين إلى البيت الكريم ممن لم يحصل له أمثال هذه الشواهد أن يسلم لهم حالهم، لأن الناس مصدقون في أنسابهم، وبون ما بين العلم والظن واليقين والتسليم، فإذا علم ذلك من نفسه غص بريقه وود كثير منهم لو يردونهم عن شرفهم ذلك سوقة و وضعاء حسدا من عند أنفسهم فيرجعون إلى العناد وارتكاب اللجاج والبهت بمثل هذا الطعن الفائل والقول المكذوب تعللا بالمساواة في الظنة والمشابهة في تطرق الاحتمال، وهيهاث لهم ذلك. فليس في

المغرب فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبالغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن. وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى الحوطي بن محمد يحيى العوام بن القاسم بن إدريس بن إدريس، وهم نقباء أهل البيت هناك، والساكنون ببيت جدهم إدريس، ولهم السيادة على أهل المغرب كافة، حسبما نذكرهم عند ذكر الأدارسة أن شاء الله تعالى.ويلحق بهذه المقالات الفاسدة والمذاهب الفائلة ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين ونسبته إلى الشعوذة والتلبيس فيما أتاه من القيام بالتوحيد الحق والنعي على أهل البغي قبله، وتكذيبهم لجميع مدعياته في ذلك، حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت. وإنما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه. فإنهم لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدين بزعمهم، ثم امتاز عنهم بأنه متبوع الرأي مسموع القول موطؤ العقب نفسوا ذلك عليه وغضوا منه بالقدح في مذاهبه والتكذيب لمدعياته. وأيضا فكانوا يؤنسون من ملوك لمتونة أعدائه تجلة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم، لما كانوا عليه من السذاجة وانتحال الديانة. فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة والانتصاب للشورى، كل في بلده وعلى قدره في قومه. فأصبحوا بذلك شيعة لهم وحربا لعدوهم ونقموا على المهدي ما جاء به من خلافهم والتثريب عليهم والمناصبة لهم، تشيعا للمتونة وتعصبا لدولتهم. ومكان الرجل غير مكانهم وحاله على غير معتقداتهم. وما ظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم وخالف اجتهاده فقهاؤهم، فنادى في قومه ودعا إلى
جهادهم بنفسه، فاقتلع الدولة من أصولها وجعل عاليها سافلها ، أعظم ما كانت قوة وأشد شوكة وأعز أنصارا وحامية، وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها قد بايعوه على الموت، ووقوه بأنفسهم من الهلكة، وتقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدعوة والتعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم، ودالت بالعدوتين من الدول، وهو بحالة من التقشف والحصر والصبر على المكاره والتقلل من الدنيا، حتى قبضه الله وليس على شيء من الحظ والمتاع في دنياه، حتى الولد الذي ربما تجنح إليه النفوس، وتخادع عن تمنيه. فليت شعري ما الذي قصد بذلك أن لم يكن وجه الله، وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله. ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره وانفسحت دعوته. سنة الله التي قد خلت في عباده.وأما إنكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده حجة لهم، مع أنه أن ثبت انه ادعاه وانتسب إليه فلا دليل يقوم على بطلانه، لأن الناس مصدقون في أنسابهم. وإن قالوا أن الرئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم كما هو الصحيح حسبما يأتي في الفصل الأول من هذا الكتاب، والرجل قد رأس سائر المصامدة ودانوا باتباعه والانقياد إليه وإلى عصابته من هرغة حتى تم أمر الله في دعوته، فاعلم أن هذا النسب الفاطمي لم يكن أمر المهدي يتوقف عليه ولا اتبعه الناس بسببه، وإنما كان اتباعهم له بعصبية الهرغية والمصمودية ومكانه منها ورسوخ شجرته فيها. وكان ذلك النسب الفاطمي خفيا قد درس عند الناس وبقي عنده وعند عشيرته يتناقلونه بينهم. فيكون النسب الأول كأنه انسلخ منه ولبس جلدة هؤلاء، وظهر فيها فلا يضره الانتساب الأول في عصبيته، إذ هو مجهول عند أهل العصابة. ومثل هذا واقع كثيرا إذ كان النسب الأول خفيا.وانظر قصة عرفجة وجرير في رئاسة بجيلة وكيف كان عرفجة من الأزد ولبس جلدة بجيلة حتى تنازع مع جرير رئاستهم عند عمر رضي الله عنه، كما هو مذكور، تتفهم منه وجه
الحق. والله الهادي للصواب.وقد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب بالإطناب في هذه المغالط، فقد زلت أقدام كثير من الأثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء، وعلقت بأفكارهم ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس، وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا روية واندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً، وناظره مرتبكاً، وعد من مناحي العامة.فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادىء ظهورها، وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر. وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفه واستغنى عنه.وما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك، حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحق من قبلهما، وأمثالهم من علماء الأمة وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة، واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه، فاختلط المرعي بالهمل واللباب بالقشر، والصادق بالكاذب. وإلى الله عاقبة الأمور.ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم و،نحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال كما يكون ذلك في الأشخاص
والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول {سنة الله التي قد خلت في عباده } . وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسريانيون والنبط والتبابعة وبنو إسرائيل والقبط، وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم، وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم. ثم جاء من بعدهم الفرس الثانية والروم والعرب، فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها، وإلى ما يباينها أو يباعدها. ثم جاء الإسلام بدولة مصر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى، وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا العهد، يأخذه الخلف عن السلف. ثم درست دولة العرب وأيامهم وذهبت الأسلاف الذين شيدوا عزهم، ومهدوا ملكهم، وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشمال، فذهبت بذهابهم أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها.والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد، أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه، كما يقال في الأمثال الحكمية: الناس على دين الملك. وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد وان يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك. فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول. فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة. ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة. فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان، لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة. والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده، وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع
السامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط فمن هذا الباب ما ينقله المؤرخون من أحوال الحجاج وأن أباه كان من المعلمين، مع أن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية، والمعلم مستضعف مسكين، منقطع الجذم. فيتشوف الكثير من المستضعفين أهل الحرف والصنائع المعاشية إلى نيل الرتب التي ليسوا لها بأهل ويعدونها من الممكنات لهم. فتذهب بهم وساوس المطامع، وربما انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة والتلف، ولا يعلمون استحالتها في حقهم، وأنهم أهل حرف وصنائع للمعاش، وأن التعليم صدر الإسلام والدولتين لم يكن كذلك، ولم يكن العلم بالجملة صناعة، إنما كان نقلا لما سمع من الشارع وتعليماً لما جهل من الدين على جهة البلاغ ، فكان أهل الأنساب والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه ، على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هدايتهم والإسلام دينهم، قاتلوا عليه وقتلوا، واختصوا به من بين الأمم وشرفوا، فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمة ، لا تصدهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عاذل الأنفة. ويشهد لذلك بعث النبي كبار أصحابه مع وفود العرب يعلمونهم حدود الإسلام وما جاء به من شرائع الدين. بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم. فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها، واستحالت بمرور الأيام أحوالها، وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها، فاحتاج ذلك القانون لمن يحفظه من الخطإ وصارالعلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف كما يأتي ذكره في فصل العلم والتعليم واشتغل أهل العصبية بالقيام
بالملك والسلطان، فدفع للعلم من قام به من سواهم، وأصبح حرفة للمعاش، وشمخت أنوف المترفين وأهل السلطان عن التصدي للتعليم، واختص انتحاله بالمستضعفين وصار منتحله محتقرا عند أهل العصبية والملك. والحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف وأشرافهم، ومكانهم من عصبية العرب ومناهضة قريش في الشرف ما علمت. ولم يكن تعليمه للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش، وإنما كان على ما وصفناه من الأمر الأول في الإسلام ومن هذا الباب أيضا ما يتوهمه المتصفحون لكتب التاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من الرئاسة في الحروب وقود العساكر، فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب، يحسبون أن الشأن في خطة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل يظنون بابن أبي عامر صاحب هشام المستبد عليه وابن عباد من ملوك الطوائف بإشبيلية إذا سمعوا أن آباءهم كانوا قضاة أنهم مثل القضاة لهذا العهد، ولا يتفطنون لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد كما نبينه في فصل القضاء من الكتاب الأول. وابن أبي عامر وابن عباد كانا من قبائل العرب القائمين بالدولة الأموية بالأندلس وأهل عصبيتها، وكان مكانهم فيها معلوماً، ولم يكن نيلهم لما نالوه من الرئاسة والملك بخطة القضاء كما هي لهذا العهد، بل إنما كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبية من قبيل الدولة ومواليها، كما هي الوزارة لعهدنا بالمغرب. وانظر خروجهم بالعساكر في الطوائف وتقليدهم عظائم الأمور التي لا تقلد إلا لمن له الغنى فيها بالعصبية فيغلط السامع في ذلك ويحمل الأحوال على غير ما هي واكثر ما يقع في هذا الغلط ضعفاء البصائر من أهل الأندلس لهذا العهد لفقدان العصبية في مواطنهم منذ أعصار بعيدة، لفناء العرب ودولتهم بها، وخروجهم عن ملكة أهل العصبيات من البربر، فبقيت أنسابهم العربية محفوظة، والذريعة إلى العز من العصبية والتناصر مفقودة، بل صاروا من جملة الرعايا المتخاذلين الذين تعبدهم القهر، ورئموا للمذلة، يحسبون أن أنسابهم مع مخالطة الدولة هي التي يكون لهم بها الغلب والتحكم، فتجد أهل الحرف والصنائع منهم متصدين لذلك ساعين في نيله. فأما من باشر أحوال القبائل والعصبية ودولهم بالعدوة الغربية، وكيف يكون التغلب بين الأمم والعشائر، فقلما يغلطون في ذلك ويخطئون في اعتباره.ومن هذا الباب أيضا ما يسلكه المؤرخون عند ذكر الدول ونسق ملوكها فيذكرون اسمه ونسبه وأباه وأمه ونساءه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره، كل ذلك تقليد لمؤرخي الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم والمؤرخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدولة، وأبناؤها متشوفون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم وينسجوا على منوالهم، حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم وتقليد الخطط والمراتب لأبناء صنائعهم وذويهم والقضاة أيضا كانوا من أهل عصبية الدول وفي عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك كله. وأما حين تباينت الدول، وتباعد ما بين العصور، ووقف الغرض على معرفة الملوك بأنفسهم خاصة ونسب الدول بعضها من بعض في
قوتها وغلبتها، ومن كان يناهضها من الأمم أو يقصر عنها، فما الفائدة للمصنف في هذا العهد في ذكر الأبناء والنساء ونقش الخاتم واللقب والقاضي والوزير والحاجب من دولة قديمة لا يعرف فيها أصولهم ولا أنسابهم و مقاماتهم إنما حملهم على ذلك التقليد والغفلة عن مقاصد المؤلفين الأقدمين والذهول عن تحري الأغراض من التاريخ، اللهم إلا ذكر الوزراء الذين عظمت آثارهم وعفت على الملوك أخبارهم، كالحجاج وبني المهلب والبرامكة وبني سهل بن نوبخت وكافور الإخشيدي وابن أبي عامر وأمثالهم فغير نكير الإلماع بآبائهم والإشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في عداد الملوك.ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها، وهي أن التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل. فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده وتتبين به أخباره. وقد كان الناس يفردونه بالتأليف كما فعله المسعودي في كتاب مروج الذهب، شرح فيه أحوال الأمم والآفاق لعهده عصر الثلاثين والثلاثمائة غرباً وشرقاً وذكر نحلهم وعوائدهم ووصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدول وفرق شعوب العرب والعجم، فصار إماما للمؤرخين يرجعون إليه، وأصلا يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه. ثم جاء البكري من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك والممالك خاصة دون غيرها من الأحوال، لأن الأمم والأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال ولا عظيم تغير وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة، واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بمن طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم عامة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم، هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيف الأمم وذهب بل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن
العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وفل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن. وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه. وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة. والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث. فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لإهلها، ويقفو مسلك المسعودي لعصره ليكون أصلا يقتدي به من يأتي من المؤرخين من بعده وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي إما صريحا أو مندرجا في أخباره وتلويحا، لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب، وأحوال أجياله وأممه، وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار، لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه، وأن الأخبار المتناقلة لا تفي كنه ما أريده منه والمسعودي إنما استوفى ذلك لبعد رحلته وتقلبه في البلاد، كما ذكر في كتابه، مع أنه لما ذكر المغرب قصر في استيفاء أحواله، وفوق كل ذي علم عليم، ومرد العلم كله إلى الله، والبشر عاجز قاصر، والاعتراف متعين واجب، ومن كان الله في عونه تيسرت عليه المذاهب وأنجحت له المساعي والمطالب. ونحن آخذون بعون الله فيما رمناه من أغراض التأليف، والله المسدد والمعين وعليه التكلان وقد بقي علينا أن نقدم مقدمة في كيفية وضع الحروف التي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا هذا.
إعلم أن الحروف في النطق كما يأتي شرحه بعد، هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان مع
الحنك والحلق والأضراس، أو بقرع الشفتين أيضا، فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع، وتجيء الحروف متمايزة في السمع، وتتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر. وليست الأمم كلها متساوية في النطق بتلك الحروف. فقد يكون لإمة من الحروف ما ليس لأمة أخرى. والحروف التي نطقت بها العرب هي ثمانية وعشرون حرفا كما عرفت. ونجد للعبرانيين حروفا ليست في لغتنا، وفي لغتنا أيضا حروف ليست في لغتهم، وكذلك الإفرنج والترك والبربر وغير هؤلاء من العجم ثم أن أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها، كوضع ألف وباء وجيم وراء وطاء إلى آخر الثمانية والعشرين، وإذا عرض لهم الحرف الذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملا عن الدلالة الكتابية مغفلا عن البيان، وربما يرسمه بعض الكتاب بشكل الحرف الذي يكتنفه من لغتنا قبله أو بعده. وليس ذلك بكاف في الدلالة، بل هو تغيير للحرف من أصله. ولما كان كتابنا مشتملا على أخبار البربر وبعض العجم، وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابتنا ولا اصطلاح أوضاعنا، اضطررنا إلى بيانه ولم نكتف برسم الحرف الذي يليه كما قلناه، لإنه عندنا غير واف بالدلالة عليه. فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على الحرفين اللذين يكتنفانه، ليتوسط القارئ بالنطق به بين مخرجي ذينك الحرفين، فتحصل تأديته وإنما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام، كالصراط في قراءة خلف، فإن النطق بصاده فيها معجم متوسط بين الصاد والزاي ، فوضعوا الصاد ورسموا في داخلها شكل الزاي، ودل ذلك عندهم على التوسط بين الحرفين. فكذلك رسمت أنا كل حرف يتوسط بين حرفين من حروفنا ، كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا والجيم أو القاف، مثل اسم بلكين فأضعها كافا وأنقطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوقأو اثنتين، فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف والجيم أو القاف. وهذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر. وما جاء من
غيره فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معا، ليعلم القارئ أنه متوسط فينطق به كذلك ، فنكون قد دللنا عليه. ولو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبيه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا وغيرنا لغة القوم. فاعلم ذلك، والله الموفق للصواب بمنه وفضله.










رد مع اقتباس