ولكن الرسول - r لا يريدنا أن " نعرف " فحسب!
فالمعرفة التي لا تنتهي إلى شيء ليست هدفاً من أهداف الإسلام ولا من أهداف الحياة العملية!
كل شيء ينبغي أن تكون له غاية. وغاية الغايات في الأرض أن يكون الخير هو المسيطر على حياة البشرية. فالخير هو كلمة الله. وكلمة الله هي العليا.
ومن هنا تلتقي الأرض والسماء، والدنيا والآخرة في رصيد الإسلام.
والرسول الكريم يريد أن " يعودنا " على الخير، لا أن " يعرفنا " إياه فحسب.
" وعلى كل امرئ صدقة.. ".
إنه يريد كلاً منا أن تتحرك نفسه بالخير. يريد أن يستثير تلك الحركة الداخلية التي تمد يدها بالعطاء. والحياة عادة. والعادة تعدى من نفس إلى نفس. بل تعدى من شعور إلى شعور في باطن النفس!
حين تتعود النفس أن تستيقظ، أن تنهض من سباتها وتتحرك، وتمد يدها من الداخل بعمل أو شعور. حين يحدث هذا مرة، فسوف يحدث مرة بعد مرة. وستتعدد صور الإعطاء حتى تشمل من النفس أوسع نطاق.. حتى تشمل في الواقع كل تصرف وكل شعور.
وتبدو حكمة الرسول في توسيع مدى الخير، وتعديد صوره وأشكاله، وتبسيطها كذلك حتى تصبح في متناول كل إنسان!
فلو كانت " الصدقة " أو الخير قاصراً على المحسوسات والأموال، فسيعجز عنها كثير من أفراد البشرية، وتبقى ينابيع ثرة في باطن النفوس، لا يستثمرها أحد، ولا يستنبط من معينها الغزير.
ولكن اليد الحكيمة الماهرة تعرف كيف تسيل الخير من هذه النفوس. لمسات رفيقة حانية من هنا ومن هناك تفتح المغلق وتبعث المكنون.
والرسول الكريم يلطف في معاملة البشرية كالأب الحنون يلطف مع أولاده، وهو يخطو معهم خطوة خطوة في الطريق. إنه ييسر لهم الأمر. ويوحي إليهم أنه في مقدورهم بلا تعب ولا مشقة. وحينئذ يصنعونه ولو كان فيه مشقة!!
تلك أفضل وسائل التربية وأحبها إلى النفوس.
وهي ليست ضحكاً على الناس ولا استدراجاً لهم! حاش لله!
إنها كلها حقيقة. فالخير نبع واحد داخل النفس. وكل صوره صورة واحدة.
ولقد نظن، لأول وهلة، أن بعض هذه " الصدقات " أهون من أن تكون صدقة. وأنها لا يجوز أن تدرج مع غيرها في سلك يشمل الجميع.
وقد يكون أقرب شيء إلى هذا الظن قول الرسول r : وتبسمك في وجه أخيك صدقة. وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة.
ومع ذلك فجربها إذا أردت. أو تتبعها في محيط الناس..
إن تبسمك في وجه أخيك، الذي يبدو لك هيناً حتى ما يصح أن يوضع في الصدقات.. لهو أشق شيء على النفس التي لم تتعود الخير ولم تتجه إليه!
هناك أناس لا يتبسمون أبداً، ولا تنفرج أساريرهم وهم يلقون غيرهم من الناس!
إنهم شريرون أو في نفوسهم مرض. وينابيع الخير مغلقة في نفوسهم وعليها الأقفال.
وهناك ناس يبخلون عليك بقطرة من ماء! الماء الحقيقي لا على سبيل المجاز!
إن المسألة ليست البسمة ولا نقطة الماء. إنها الإعطاء. إنها الحركة التي تتم في داخل النفس. إنها فتح القفل المغلق. أو تحرك اليد النفسية وانبساطها إلى الأمام..
عملية واحدة في جميع الحالات.. إما أن توجد، فتقدر النفس على الخير. تقدر على الإعطاء والمودة. وإما ألا توجد، فيستوي الهين والعظيم، وتغلق النفس عن جميع الصدقات.
* * *
والرسول المربي لا يريد أن يعرفنا بمنابع الخير فحسب، ولا أن يعودنا على الخير فحسب. ولكني ألمح من وراء تعديد الصدقات، وتبسيطها حتى تصبح في متناول الجميع، معنى آخر..
الإعطاء حركة إيجابية. ولذلك قيمة كبرى في تربية النفوس.
فالنفس التي تتعود الشعور بالإيجابية نفس حية متحركة فاعلة. بعكس النفس التي تتعود السلبية فهي نفس منكمشة منحسرة ضئيلة.
والرسول r يريد للمسلم أن يكون قوة إيجابية فاعلة، ويكره له أن يكون قوة سلبية حسيرة.
والشعور والسلوك صنوان في عالم النفس، كلاهما يكمل الآخر ويزيد في قوته.
ومن هنا حرص الرسول r على أن يصف حتى الأعمال الصغيرة والهينة بأنها صدقة. بأنها إعطاء.
مرة أخرى كالأب مع أبنائه..
فأنت حين توحي لطفلك أن الدور الذي قام به في العمل دور هام ومثمر، وقد أدى إلى نتيجة، فإنك تشجعه على مزيد من العمل ومزيد من الإنتاج. أما إذا رحت تصغر من شأنه، وتشعره أن أعماله تافهة بالقياس إلى المطلوب منه، فإنك تشجعه على الانحسار داخل نفسه، والانصراف عن كل عمل يحتاج إلى مجهود.
والرسول يشجع الناس على الإحساس بإيجابيتهم، حتى في الأعمال التي قد تبدو صغيرة في ظاهرها، ليحسوا أن كيانهم يتحقق في عالم الواقع، في عالم السلوك. فيزيدهم ذلك إقبالاً على العمل في ميدان الخير، ويشجعهم على الصعود باستمرار.
وفي تسمية هذه الأعمال " بالصدقات " أمر آخر من وراء التعبير.
فالصدقات بمعناها الحسي الضيق، تقسم الناس آخذين في جانب ومعطين في جانب. وقد توحي إلى الآخذين الشعور بالضآلة والضعف، وتغري المعطين بالخيلاء والغرور.
وذلك تقسيم للمجتمع سيئ غاية السوء.
ولكن توسيع نطاق الصدقات حتى تشمل كل شيء وكل عمل متجه إلى الخير، يلغي التقسيم الأول، ويتيح لكل إنسان - بصرف النظر عن فقره وغناه - أن يكون معطياً واهباً للآخرين. ومن ثم يجعل الناس كلهم - بحركة واحدة - آخذين ومعطين على قدم المساواة، وشركاء في ميدان واسع فسيح!
وذلك ولا شك منهج بارع في تربية النفوس، فوق أنه يقرر مفهوماً آخر من مفاهيم الإسلام الأصيلة: أن القيم التي تحكم الحياة ليست هي القيم المادية وحدها. أو الاقتصادية وحدها. وإنما القيم الشعورية والوجدانية كذلك. بل هذه الأخيرة هي الأصل الذي تقوم عليه علاقات البشرية!
* * *
وقد افتتن الناس دائماً بالقيم المادية وحسبوها قوام الحياة. القدماء في ذلك والمحدثون سواء. وحين تنطمس بصائر الناس عن منابع الخير الحقيقية، وتنحسر نفوسهم عن حقيقة الكون الواسعة، فإنهم لا يرون إلا القيم المادية، ولا يدركون إلا ما تدركه الحواس. ولكن الإسلام حرص على توسيع الحياة وتجليتها في صورتها الحقيقية. لم يهمل عالم المادة، ولم يهمل ضرورات الحياة. بل أعطاهما عنايته الكاملة كما يتضح في التفصيلات الدقيقة التي يشملها الشرع، والإضافات الدائمة التي أضافها الفقه الإسلامي على مدى القرون ولكنه لم يقف عند هذه الأمور وحدها، لأن الحياة في واقعها لا تقف هناك. وإنما تتعداها إلى آفاق أوسع وأرحب، وإلى مستويات أكبر وأعلى.
والإسلام دين الحياة الكامل، ومن ثم يشمل الحياة كلها في جميع الآفاق وجميع المستويات، على نظافة في الأداء ونظافة في السلوك.
إنه كصاحب الأرض الخصبة لا يزرع منها جانباً ويهمل الجانب الآخر، أو يدعه تنبت فيه حشائش السموم. إنه يحس بالقيمة الكبرى لتلك الأرض الثمينة، ويحس بالخسارة التي تنشأ من تعطيلها أو إهمال بعضها، ومن أجل ذلك ينقب في كل مكان في النفس حتى يمكن أن تنبت فيه نبتة الخير، فيزرعها ويجني من زرعها الثمار.
وحين يحرص الإسلام على أن يظل ينبوع الخير في النفس الإنسانية ثرًّا يفيض بالخير ولا ينضب، فإنه يضمن أن تقوم بين البشر روابط أمتن بكثير وأوثق من تلك التي يمكن أن يقيمها الاقتصاد أو تقيمها العلاقات المادية. بل يضمن أن تكون رابطة حية وخيرة، لا يأكلها الحقد، ولا تسري إلى القلوب مع " تنظيماتها " الصلادة والجفاف.