الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنبي صلى الله عليه وسلمكتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه ، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنّة ، سبحانك هذا بهتان عظيم ! ولا يخفى أنّ هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا، ورسوله r، والحق الذي لا يشكّ فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان ، هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث. فبمجرد إضافة الصفة إليه جل وعلا يتبادر إلى الفهم أنّه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل ، أنّ السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل : هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته ، وجميع صفاته ، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر . والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات ، لا يليق بالله ؛ لأنه كفر وتشبيه ، إنما جرّ إليه ذلك تنجيس قلبه ، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق ، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا ، وعدم الإيمان بها ، مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه ، فكان هذا الجاهل مشبها أولا ، ومعطلا ثانيا . فارتكب ما لا يليق بالله ابتداءً وانتهاءً ، ولو كان قلبه عارفا بالله كما ينبغي، معظما لله كما ينبغي ، طاهرا من أقذار التشبيه ، لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه : أن وصف الله جل وعلا، بالغ من الكمال ، والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهه بينه وبين صفات المخلوقين ، فيكون قلبه مستعداً للإيمان بصفات الكمال ، والجلال الثابتة لله في القرآن والسنّة الصحيحة ، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: ]ليس كمثله شيء وهو السميع البصير[« اهـ .
ويقول العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ :
» والواجب في النصوص إجراؤها على ظاهرها بدون تحريف ؛ لقوله تعالى : ]وإنه لتنزيل ربّ العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين[
[ الشعراء:192-195].
وقوله: ((إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون )[ الزخرف:3 ].
وقوله : (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) [ الأعراف :3] .
فإذا كان الله تعالى أنزله باللسان العربي من أجل عقله وفهمه، وأمرنا باتباعه ، وجب علينا إجراؤه على ظاهره بمقتضى ذلك اللسان العربي ، إلا أن تمنع منه حقيقة شرعية .
… ولا يمكن أن يخاطب الله عباده بما يريد منهم خلاف ظاهره بدون بيان كيف وقد قال : ]يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم[[ النساء :26]
وقال: (يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء: 176] . ويقول عن رسوله r: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم )[ النحل: 44] . ويقـول: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم )[ الشورى :52 ] . ومن خاطب غيره بما يريد منه خلاف ظاهره بدون بيان فإنه لم يبين له ولم يهده « ([1]) .
السلف يفوضون الكيف ليس المعنى
يقول تعالى : (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) [ ص :29] . ويقول : (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) [ النساء :82 ] . ويقول
( [1] ) « تقريب التدمرية » (60 – 61 ) .
سبحانه : (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [ محمد: 24 ] ، ويقول r : » خيركم من تعلم القرآن وعلمه »([1]) .
فحثّ الله على تدبّر القرآن كله ولم يستثن شيئاً منه ، ووبّخ من لم يتدبره ، وبين أن الحكمة من إنزاله أن يتدبره الذي أنزل إليهم ويتعظ به أصحاب العقول ، ولولا أن له معنى يعلم بالتدبر لكان الحثّ على تدبره من لغو القول ، ولكان الاشتغال بتدبره من إضاعة الوقت ، ولفاتت الحكمة من إنزاله ، ولما حسن التوبيخ على تركه .
والحث على تدبّر القرآن شامل لتدبّر جميع آياته الخبرية العلمية والحكمية العملية ، فكما أننا مأمورون بتدبر آيات الأحكام لفهم معناها والعمل بمقتضاها، إذ لا يمكن العمل بها بدون فهم معناها ، فكذلك نحن مأمورون بتدبر آيات الأخبار لفهم معناها ، واعتقاد مقتضاها ، والثناء على الله تعالى بها ، إذ لا يمكن اعتقاد ما لم نفهمه ، أو الثناء على الله تعالى به « ([2]) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
» لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاماً لا معنى له ، ولا يجوز أن يكون الرسول r وجميع الأمّة لا يعلمون معناه ، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين ، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ « ([3]) » فإنهم [ أي السلف ] فسّروا جميع القرآن ، وقال مجاهد:
عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها ، وتلقوا ذلك عن النبي × كما قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدّثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن عثمان بن عفان ، وعبدالله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي r عشر آيات ، لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً . وكلام أهل التفسير من الصحابة
( [1] ) رواه البخاري .
( [2] ) » تقريب التدمرية «لابن عثيمين (ص 76-77)
( [3] ) » مجموع فتاوى شيخ الإسلام « (17/390)