قوله : الأولى : أن الله خلقنا : أي أوجدنا من العدم فنحن من قبل أن يخلقنا لم نكن شيئًا ، كما قال تعالى : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، وقال سبحانه : قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا كان الإنسان قبل أن يخلق ليس بشيء ، والذي أوجده وخلقه هو الله - عز وجل - قال تعالى : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . قوله : ورزقنا : لما كنا نحتاج إلى الرزق إلى الطعام والشراب والملابس والمساكن والمراكب والمصالح ، علم سبحانه حاجتنا سخر لنا ما في السماوات والأرض كله لمصالحنا من أجل بقائنا على قيد الحياة ومن أجل أن نستعين بذلك على ما خلقنا لأجله ، وهو عبادة الله - سبحانه وتعالى - . قوله : ولم يتركنا هملًا : الهمل : هو الشيء المهمل المتروك الذي لا يُعبأ به فالله خلقنا ورزقنا لحكمة ، ما خلقنا عبثا ولا سدى قال تعالى : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ . وقال سبحانه : أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى . وقال : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ . الله إنما خلقنا وخلق لنا هذه الأرزاق والإمكانيات لحكمة عظيمة وغاية جليلة وهي أن نعبده - سبحانه وتعالى - ولم يخلقنا كالبهائم التي خلقت لمصالح العباد ثم تموت وتذهب ؛ لأنها ليست مكلفة ولا مأمورة ولا منهية ، إنما خلقنا لعبادته كما قال تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ولم يخلقنا لهذه الحياة الدنيا فقط نعيش فيها ، ونسرح ونمرح ونأكل ونشرب ونتوسع فيها ، وليس بعدها شيء ، وإنما الحياة مزرعة وسوق للدار الآخرة نتزود فيها بالأعمال الصالحة ، ثم نموت وننتقل منها ثم نبعث ثم نحاسب ونجازى بأعمالنا . هذه هي الغاية من خلق الجن والإنس ، والدليل على ذلك آيات كثيرة تدل على البعث والنشور والجزاء والحساب ، والعقل يدل على هذا ، فإنه لا يليق بحكمة الله - سبحانه وتعالى - أن يخلق هذا الخلق العجيب ، وأن يسخر هذا الكون لبني آدم ثم يتركهم يموتون ويذهبون بدون نتيجة ، هذا عبث ، فلا بد أن تظهر نتائج هذه الأعمال في الدار الآخرة . ولهذا قد يكون من الناس من يفني عمره في عبادة الله وفي طاعته ، وهو في فقر وفي حاجة ، وقد يكون مظلومًا مضغوطًا عليه ومضيقًا عليه ولا ينال شيئًا من جزاء عمله في هذه الدنيا ، وعلى العكس يكون من الناس كافر ملحد شرير يسرح ويمرح في هذه الحياة ، ويتنعم ويعطى ما يشتهي ويرتكب ما حرم الله ، ويظلم العباد ويعتدي عليهم ويأكل أموالهم ، ويقتل بغير حق ، ويتسلط ويتجبر ثم يموت على حاله ، ما أصابه شيء من العقوبة ، هل يليق بعدل الله - سبحانه وتعالى - وحكمته أن يترك هذا المطيع بدون جزاء ، وأن يترك هذا الكافر بدون مجازاة ، هذا لا يليق بعدله - سبحانه وتعالى - ولذلك جعل دارًا أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، فتظهر فيها ثمرات الأعمال . فالدنيا دار عمل ، وأما الآخرة فهي دار جزاء إما جنة وإما نار ، ولم يتركنا هملًا كما يظن الملاحدة والدهريون ، قال تعالى : وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ هذه مقالة الملاحدة الذين لا يؤمنون بالبعث والنشور . وقد أنكر الله - عز وجل - عليهم فقال : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وقال تعالى : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ . وقال تعالى : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ . فهذا لا يمكن ولا يكون أبدًا . لما كانت العبادة لا يجوز أن نأخذها من استحساننا أو تقليد فلان وعلان من الناس ؛ أرسل الله إلينا رسلًا تبين لنا كيف نعبده ؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز أن يعبد الله بشيء إلا بما شرعه . فالعبادات توقيفية على ما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فالحكمة من إرسال الرسل أن يبينوا للناس كيف يعبدون ربهم ، وينهونهم عن الشرك والكفر بالله - عز وجل - هذه مهمة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام : من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد فالعبادة توقيفية ، والبدع مردودة ، والخرافات مردودة ، والتقليد الأعمى مرفوض لا تؤخذ العبادات إلا من الشريعة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - .