مقدمة:
تعرف العادة كقدرة على تكرار عمل ما بطريقة آلية تتم بالثبات بينما الفعل الإٍرادي كقرار عقلي حاسم يتميز بالتغير و التنوع والتجدد وبناء على هذا الاختلاف يعتبر بعض الفلاسفة العادة ذات طابع سلبي تقف عائقا أمام التكيف بينما يعتبر البعض الآخر عكس ذلك فهل يا ترى أن ثبات العادة يقيد الارادة (الحرية) و من ثم يصعب الحكم في السلوك ؟
عرض منطق الأطروحة : العادة تتعارض مع الإرادة
يرى بعض الفلاسفة على أن العادة طبيعة ثانية لما لها من قوة ما يقرب من الطبيعة الأولى(فالعادة هي امتداد للطبيعة الأولى)، فهي مجرد تهذيب وتجديد للطبيعة الأولى، لها سلطة لاحتفاظها بالتغيرات التي تطرأ على الإنسان في فعل التغير المستمر، تأثر فينا كما تأثر قوانين الطبيعة، ترسم شخصية الفرد ملامحها الخاصة مثلا طريقة المشي والأكل فكل فعل مجرد تكرار لهذه السمات ،فهي تسمح لحياة في الماضي ليستمر في المستقبل، تقضي على حرية الإنسان وإرادته لأن في مخالفة العادات اختلاف للتوازن سواء نفسيا أو حركيا ،تقضي على كل مظاهر التجديد و الإبداع التي يتسم بها الفعل الإرادي، يقول كارل يسبرس
العلماء الكبار يقيدون العلم في بداية نصف الأول من حياتهم ويضرونه في النصف الثاني ) ففي الأول اجتهاد وتنويع وبحث وفي الأخير حد من القدرات الإبداعية لرسوخ المبادئ والأفكار وطريقة التفكير الأولى أما في نظر ابن خلدون، فإن آلية العادة تجعل من الفعل تلقائي خالي من الوعي و الشعور ومجرد انسجامه ميكانيكية بينما الفعل الإرادي قائم على الإرادة وتصور الغايات أساسه الحرية يقول
المفارقة في العادة إبداع آليات من كائن ليس آليا ) ، وتؤدي العادة إلى تشوهات جسمانية مثلا الحداد الذي تعود العمل بيده اليمنى يصبح مع مرور الزمن كتفه اليسر ويده اليمنى أقوى من يده اليسرى ، وتقضي أيضا على الحساسية الإنفعالية فتقوي الفاعلية العفوية (التلقائية) على حساب الفاعلية الفكرية فمثلا الطالب في كلية الطب عندما يألف القيام بعمليات التشريحيصبح بعد ذلك لا ينفعل و لا يتأثر بما يقوم به كما أن اعتياد الممرضين و الأطباء في المستشفيات على مناظر البؤس والحرمان و الألم يجعلهم لا يتأثرون بها لذلك تقول روسو(إن العادة تقسي القلوب) وأكد برودون فقال(إن الذين تستولي عليهم العادة يصبحون بوجوههخم بشرا وبحركاتهم آلات )إذا العادة تجعل من الإنسان شبيها بالآلة فاقدا للإحساس
لنقد:
ليست العادات هي دوما منبع الشروط فالتحرر من العادات السلبية يجب اكساب عادة ايجابية فلكي لا تكذب يلزم التعود على الصدق إن تكوين بعض العادات و اكتسابها يعود إلى قوة الإرادة وضعفها فالإنسان سعيد أو شقي، شجاع أو جبان، سليم أو سقيم منبعه إرادته وما تعود عليه من عزم و إسرار، العادة لا تكون في غياب العقل إلا لم تكن هناك عادات إيجابية كعادة احترام الوقت و النظافة وغيرها للتخلص من كل عادة يستلزم تعلم عادة أخرى ولغاء عادة يستلزم إبعاد الرغبة التي ولدتها: (للتخلص من عادة التدخين يجب الإبتعاد عن الأصدقاء).
عرض نقيض الأطروحة:العادة لا تعيق الإرادة
يذهب بعض الفلاسفة وعلماء النفس إلى أن التعارض بين العادة والإرادة تعارض ظاهري فكل منهما يعزز الآخر فلا يمكن أن نصدر سلوكا إراديا إلا إذا كانت لدينا عادة القيام بها ، العادة جوهر الفعل الإرادي، فالفعل الإرادي الحقيقي كما تتصوره يتطلب ذلك التحكم في الحركات بدقة وهي خاصية السلوك التعودي الذي يمتاز بإقتصاد الجهد و كلما زادت المعاناة قلت إرادة الانسان كما أن العادات الاجتماعية و القيم تبنى على الإرادة ، فالعادة وليدة التعلم والتعلم هو نتاج الرغبة و الرغبة لن تتحقق إلا بإسرار وعزم وتكرار المحاولات لتهذيب السلوك نحو صورة مثلى يتطلب تدخل الوعي والانتباه ومن ثم يتضمن نشاطا إراديا وفي هذا يقول جوزيف كيندي (إن العادة والتعلم مترادفان لأنه إذا تعلمنا شيئا أصبح عادة ونحن نؤديه دون انتباه ووعي) ، فلإرادة هي الحافز ودافع للعمل والاكتساب والتعلم ، إن العادة تدل على سيطرة الإنسان على قواه النفسية لتقوية الميول و الرغبات على بعضها مما يجعل إخبارها يتم بسهولة يقول مراد (فائدة العادة عظيمة لتهيئة شخص لمواجهة مواقف جديدة بالاعتماد على المهارات و المعلومات المكتسبة )
نقد :
إن التفكير الصحيح و الواعي بالغايات و السلوك المكتسب ، واكتساب عادات إجابية يتم في مرحلة لم يكتمل فيها النضج العقلي و التفكير فأغلب العادات يتلقاها في سن مبكر عن طريق التقليد و المحاكاة للغير لذا يتطلب تنشيط العامل الإجتماعي نشأة ورعاية و متابعة من الوسط الذي ينتمي إليه اله الفرد(أسرة أو مؤسسات إجتماعية أخرى).
التركيب :
يرى العالم الفرنسي شوفالي أن العادة تحمل من جهة سلبيات ومن جهة أخرى إيجابيات فهي سلوك ضار ونافع أي أنها تؤدي إلى الموت من جهة و إلى الحياة من جهة أخرى وقد قسم العادات إلى قسمين هما عادات روتينية غير قابلة للتجديد تتميز بأنها صلبة لا يتمكن المتعود من التخلص منها لذلك فهي تؤدي إلى الموت وعادات خالصة أو حقة قابلة للتجديد و التغيير يتمكن المتعود من تعديلها و التخلص منها فهي تؤدي إلى الحياة يسيطر عليها و يتحكم فيها وهذا واضح في قوله ( العادة هي أداة الحياة أو الموت حسب استخدام الفكر لها )
حل المشكلة :
وهكذا نستنتج مما سبق ذكره أن العادة عملة ذات وجهين وجه إيخابي و آخر سلبي ، فهي تؤدي إلى نتائج نافعة إذا تحكمت فيها إرادة الفرد وكانت قابلة للتجديد و التعديل و موافقة للقيم الأخلاقية و الدينية مثل عادة إفشاء السلام و إطعام الطعام كما أنها تؤدي إلى نتائج ضارة إذا استبدلت بإرادة الفرد وكيفته لصالحها وكانت غير قابلة للتجديد و التعديل ، تتصف بالصلابة مخالفة للقيم الأخلاقية و الدينية مثل عادة البخل و عدم الإحسان للغير
هل يمكن تصور وجود أفكار خارج إطار اللغة؟
طرح المشكلة:
إن الإنسان بذاته يميل إلى الحياة مع الآخرين فهو يكتسب العديد من القيم والعادات و التقاليد و الأعراف و المعتقدات و اللغة هذه الأخيرة تعرف من الناخية الاصطلاحية عند الجرجاني بأنها كل ما يعبر به القوم عن أغراضهم وعند لالاند هي نسق من الإشارات و الرموز تستعمل للتواصل و التفاهم أما الفكر فهو وظيفة نفسية إنسانية بالمفهوم العام لايتعدى إطار القيام بجملة من النشاطات كالتذكر و التخيل والإدارك أما لغة فهو أداة للتخمين أما اصطلاحا فهو وظيفة سيكولوجية تشمل مجموعة من المعاني تجري في الذهن تتصف بأنها مجردة خيالية مما هو حسي أو مادي هذا من جهة المفهوم أما من جهة تحديد العلاقة بين اللغة و الفكر فقد إختلف العلماء فيما بينهم فيا ترى هل العلاقة هي علاقة إنفصال أم إتصال ؟ أو بعبارة أخرى هل يمكن تصور وجود أفكار خارج إطار اللغة ؟ وهل اللغة تعجز عن التعبيير عن كامل الفكر؟
عرض الاطروحة :
يرى بعضالمفكرين من أنصار الاتجاه الثنائي ، أنه لا يوجد تطابق وتناسب بين عالم الافكاروعالم الالفاظ ، فالفكر اسبق من اللغة واوسع منها ، وأن ما يملكه الفرد من أفكارومعان يفوق بكثير ما يملكه من الفاظ وكلمات ، مما يعني انه يمكن أن تتواجد افكارخارج إطار اللغة . ويدافع عن هذه الوجهة من النظر الفلاسفة الحدسانيون أمثالالفرنسي " هنري برغسون " والرمزيون من الادباء والفنانين ، وكذا الصوفية الذينيسمون أنفسهم أهل الباطن والحقائق الكبرى فالفكر سابق عن اللغة وليست اللغة عاجزة عن التعبير عن كامل أفكارنا فحسب بل تقف عائقا حتى أمام التفكير يقول أبو سعيد السيرافي (لقد بدا لي أن مبسوط اللفظ لا يحوز مبسوط العقل ) وإن كانت اللغة أداة نقل و تبليغ للأفكار فهي أيضا أداة تشويه للمعاني .
الحجة :
إنالانسان كثيرا ما يدرك كماً زاخراً من المعاني والافكار تتزاحم في ذهنه ، وفيالمقابل لا يجد الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيان هذه المعاني والافكار. كما قد يفهمأمرا من الامور ويكوّن عنده صورة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد ، فإذا شرع فيالتعبير عما حصل في فكره من افكار عجز عن ذلك . كما قد يحصل أننا نتوقف – لحظات – أثناء الحديث أو الكتابة بحثا عن كلمات مناسبة لمعنى معين ، أو نقوم بتشطيب أوتمزيق ما نكتبه ثم نعيد صياغته من جديد . و في هذا المعنى يقول برغسون : (إننا نملك افكارا اكثر مما نملك اصواتا) ثــم إنالالفاظ وُضعت – أصلا – للتعبير عما تواضع واصطلح عليه الناس بغية التواصل وتبادلالمنافع ، فهي إذن لا تعبر الا على ما تواضع عليه الناس واصطلحوا عليه ( أي ما يعرفبالناحية الاجتماعية للفكر ) ، وتبقى داخل كل إنسان جوانب عميقة خاصة وذاتية منعواطف ومشاعر لا يستطيع التعبير عنها ، لذلك فاللغة عاجزة عن نقل ما نشعر بهللآخرين ، يقول " فاليري " : ( أجمل الافكار ، تلك التي لا نستطيع التعبير عنها)ولهذا تـمّ ابتكار وسائل تعبير بديلة عن اللغة كالرسم والموسيقى. وفضلا عن ذلك ، فإن الفكر فيض متصل من المعاني في تدفق مستمر ، أشبهبالسيل الجارف لا يعرف الانقسام او التجزئة ، وهو نابض بالحياة والروح أي " ديمومة " ، أما ألفاظ اللغة فهي سلسلة من الاصوات منفصلة ، مجزأة ومتقطعة ، ولا يمكنللمنفصل ان يعبر عن المتصل ، والنتيجة أن اللغة تجمد الفكر في قوالب جامدة فاقدةللحيوية ، لذلك قيل : ( الالفاظ قبور المعاني) ،
النقد :
لكن القول ان الفكر اوسع من اللغة واسبق منها ليس الا مجرد افتراضوهمي ، فإذا كنا ندرك معانٍ ثم نبحث لها عن ألفاظ ما يبرر اسبقية الفكر على اللغة ،فإن العكس قد يحدث أيضا حيث نردد الفاظ دون حصول معانٍ تقابلها وهو ما يعرف في علمالنفس بـ " الببغائية. والواقع يبين ان التفكير يستحيل ان يتم بدونلغة ؛ فكيف يمكن ان تمثل في الذهن تصورات لا اسم لها ؟ ثم لو كانت اللغة عاجزة على التعبير عن جميعافكارنا فالعيب قد لا يكون في اللغة ، بل في مستعملها الذي قد يكون فاقد لثروةلغوية تمكنه من التعبير عن افكارهفالكلام لا يعني قيام التفكير (فالفكر حديث صامت و اللغة فكر مسموع)كما يقول واطسن. و كل هذا يعني أن هناك تطابقا بين الفكرة ودلالة الألفاظ . يقول سيروس (الفكر لا ينفصل عن اللغة) وتقول جوليا كريستيفا (إن اللغة هي جسم الفكر ). وقد أشار " أرسطو " إلى هذا بقوله : ( ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية)
نقيض الاطروحة :
يعتقدمعظم فلاسفة اللغة وعلمائها من انصار الاتجاه الاحادي ، أن هناك تناسب بين الفكرواللغة ، وعليه فعالم الافكار يتطابق مع عالم الالفاظ ، أي ان معاني الافكار تتطابقمع دلالة الالفاظ ، ولا وجود لأفكار خارج اطار اللغة ، والى ذلك يذهب الفيلسوفالفرنسي " ديكارت " والالماني " هيجل " والمفكر الانجليزي " هاملتون " وعالم النفسالامريكي " واطسن " ، الذين يرون جميعهم أن بين اللغة والفكر اتصال ووحدة عضويةوهما بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة ، باعتبار ان (الفكر لغةصامتة واللغة فكر ناطق)فاللغة ليست وسيلة تبليغ بل أساس التفكير وتسجيل الأفكار و تثبيتها لذلك قيل (الألفاظ حصون المعاني) ولا نفكر إلا بكلمات يقول هيغل (نحن نفكر داخل الكلمات ) ويضيف ( حين نعجز عن التعبير فنحن عاجزين عن التفكير و لا نملك أفكارا واضحة أو منعدمة أصلا)
الحجة :
وما يثبت ذلك ، أن الملاحظةالمتأملة وعلم النفس يؤكدان أن الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من أي افكار ،ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ، أي أنه يتعلم التفكير في نفس الوقتالذي يتعلم فيه اللغة . وعندما يصل الفرد الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغةالتي يتقنها ، فالأفكار لا ترد الى الذهن مجردة ، بل مغلفة باللغة التي نعرفها ، » فمهما كانت الافكار التي تجيئ الى فكر الانسان ، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجدالا على مادة اللغة » على حد تعبير ستالين . وأنه حسب " هيجل " أي محاولة للتفكير بدون لغة هي محاولةعديمة الجدوى ، فاللغة هي التي تعطي للفكر وجده الاسمى والاصح . ثـم إننا لا نعرف حصول فكرة جديدة في ذهن صاحبها الا اذا تميزت عنالافكار السابقة ، ولا يوجد ما يميزها الا علامة لغوية منطوقة أو مكتوبة .كما ان الافكار تبقى عديمة المعنى في ذهن صاحبهاولم تتجسد في الواقع ، ولا سبيل الى ذلك الا الفاظ اللغة التي تدرك ادراكا حسيا ،فاللغة – إذن – هي التي تبرز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصريح ، ولولاها لبقيكامنا عدما ، لذلك قيل : ( الكلمة لباس المعنى ولولاها لبقي مجهولا) ويؤكد ذلك لافيل بقوله (ليست اللغة ثوب الفكر ولكن جسمها الحقيقي)
النقد :
لكن ورغم ذلك ، فإنه لا وجود لتطابق مطلقبين الفكر واللغة ، بدليل ان القدرة على الفهم تتفاوت مع القدرة على التبليغ ، منذلك مثلا أنه اذا خاطبنا شخص بلغة لا نتقنها فإننا نفهم الكثير مما يقول ، لكننانعجز عن مخاطبته بالمقدار الذي فهمناه ، كما أن الادباء - مثلا - رغم امتلاكهملثروة لغوية يعانون من مشكلة في التبليغ ثم إن استخدام الإشارات و الحركات والإماءات أثناء الكلام دليل عن عجز الكلمات على إيضاح المعنى وتبليغه بدقة. وهذا ما أكده " برغسون " حين قال : " اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر "
التركيب :
في الحقيقة أنالعلاقة بين اللغة والفكر علاقة ذات تأثير متبادل ، فكلاهما يؤثر في الآخر ويتأثربه ، لكن ورغم ذلك فإنه لا وجود لأفكار لا تستطيع اللغة أن تعبر عنها ، كما أنه – في نفس الوقت – لا وجود لألفاظ لا تحمل أي فكرة او معنى وقد عبر عن هذا التلاحم بين اللغة و الفكر " ميرلوبونتي " بقوله : " إن الفكر لا يوجد خارج الكلمات " وقد أشار آلان إلى أن الطفل لا يتوفر في البداية على أفكار وإنما يكتشف هذه الأفكار في اللغة الي يتعلمها، و إذا كانت اللغة أداة للتواصل فهذا يعني أنها من المستوى الإنساني أداة لنقل الأفكار فالفكرة ترد إلى الذهن و هي مجسدة في لغة أو في قوالب لفظية أو كلمات ولكي نفهم أفكارنا يجب أن نصوغها صياغة لغوية ونعيدها على أنفسنا ولكن دون أن تحدث هذه العملية صوتا يسمعه الآخرون وبعد أن نقوم بتحليل الفكرة وتحديد عناصرها يمكن أن نفهمها ونعيدها على أنفسنا ثم يمكن لنا أن ننقلها للآخرين ،.
حل المشكلة :
وهكذا يتضح ان اللغة مرتبطة إرتباطا ضروريا بالفكر كما أن الفرد يرتبط ارتباطا ضروريا باللغة ، فلا لغة بدون فكر ولا فكر بدون لغة والعلاقة بينهما ليست متكافئة لأنها علاقة جدلية أي تفرض التناقص وهكذا يقول دولاكرو (أن الفكر يصنع اللغة في نفس الوقت الذي يصنع فيه من طرف اللغة )، فتطور اللغة يبقى رهين النشاط الفكري للإنسان الذي أثبت قدرته على وضع مصطلحات جديدة لكل إبداع فكري وبهذا تتجدد اللغة بتجدد الفكر وتبقى حية طالما كان هناك فكر مبدع ، سواء أكان ميدان إبداعه الرياضيات البحتة أم علوم الواقع أم فلسفة أم فنونا وأدبا كل هذه الميادين الثقافية والمعرفية قوامها رموز تشير إلى المعاني ولذلك فاللغة والفكر متداخلان ومتكاملان , وإن كانت بينهما أسبقية فهي منطقية لا زمنية , وإن كان بينهما تمييز فهو نظري لا مادي وقد عبر عن هذه العلاقة " هاملتون " بقوله : " إن المعاني شبيهة بشرار النار لا تومض إلا لتغيب فلا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ " . كما يقول زكي نجيب محمود :" الفكر هو التركيب اللفظي أو الرمزي لا أكثر و لا أقل " . وعليه فكل تفكير يتطلب لغة .
هل يمكن حصر اللغة في الوظيفة التواصلية أم أنها تتعدى ذلك ؟
المقدمة:
إن الإنسان بطبعه يميل إلى الحياة مع الآخرين فهو يكتسب العديد من القيم والعادات و التقاليد و الأعراف و المعتقدات و اللغة هذه الأخيرة تعرف من الناحية الاصطلاحية عند الجرجاني بأنها كل ما يعبر به القوم عن أغراضهم وعند لالاند هي نسق من الإشارات و الرموز تستعمل للتواصل و التفاهم ، وهي من أرقى الوظائف التي يتميز بها الانسان و يستطيع القيام بها باعتبار أنه كائن حي مفكر فمن جهة تحديد وظيفتها فقد إختلف الفلاسفة فيما بينهم باعتبار بعضهم أنها وظيفة إجتماعية على عكس البعض الآخر والذي يؤكد أنها تتعدى الوظيفة الإجتماعية لتتطلع إلى عدة وظائف أخرى فهل يمكن حصر اللغة في الوظيفة التواصلية(التواصل الاجتماعي) أم أنها تتعدى ذلك ؟
عرض منطق الاطروحة:
إذا كان الانسان كائن اجتماعي بطبعه وليس ذات منعزلة فهو في حاجة إلى التفاعل والتواصل مع الآخرين، تلعب اللغة دور الوسيط في ذلك (فحقيقة اللغة لا تتوقف عند الاحاطة بهاذين الحدين المتقابلين ( الأنا و المتكلم) إذ يوجد هناك حد ثالث لا تخفى أهميته هو ذلك الذي اتوجه إليه بكلامي ) كما يقول غوستروف لذلك يفترض لوجود لغة واستعمالها ثلاث حدود رئيسية وهي الذات (المتكلم ) وموضوع الكلام أو الخطاب و الملتقى وهو الموجه إليه الخطاب فحتى حينها أكون وحيدا فأعد ذاتي طرفا آخر ( فالمتكلم و السامع مندمجان في شخص واحد يمكن أن يقال أنه يوصل الأفكار لنسفه) على حد تعبير سابير وحتى التعبير الطبيعي ( الصراخ والضحك ) هو الوجه للآخر للمشاركة في الوجدان والحياة بالإضافة إلى الدور الثقافي و التاريخي فهي تلعب دور الوسيط بين الأجيال وهي تقنية يعتمدها الانسان و الحيوان من أجل التواصل الاجتماعي يقول دولاكروا (إن الجماعة تعطي للإشارة اللغوية دلالتها وفي هذه الدلالة يلتقي الأفراد) ، فلا يمكن تصور وجود عالم بدون لغة أي بدون إشارات ورموز لغوية فلا يكون الناس مرتبطين ببعضهم دون هذه الوسيلة التي تزيد من إدماج الفرد مع المجتمع كما أننا لا يمكن تحقيق التماسك الإجتماعي من تضامن و تكافل إلا من خلال وظيفة اللغة ولا يكون تبادل للآراء و التصورات و الآراء بين أفراد المجتمع إلا باللغة فهذه الأخيرة تحمل طابعا اجتماعيا .
نقد:
لو كانت اللغة مجرد وسيلة التواصل لعد التواصل الحيواني لغة ، لكن التواصل أوسع من اللغة ذاتها فحصر اللغة في الوظيفة التواصلية فيه نوع من المغالاة فقبل التبليغ ينبغي التفكير و التعبير عما نريد أن نوصله للغير ، كما أن القول بالحديث النفسي و انقسام الأنا لمتكلم ومتلق إفتراض فلسفي لأن الأنا او الذات وحدة شعورية لا تقبل التفكيك
نقيض الاطروحة:
لا يمكن حصر اللغة في التبليغ و التواصل بل تتطلع في وظائف أخرى لا يمكن تحقيق التواصل إلا بتحقيقها وهي الوظيفة البيولوجية التي تعد أداة للتعبير عن أغراض بيولوجية من أجل إشباعها و توفيرها كالغذاء والدواء واللباس و المأوى التي لا علاقة بالبقاء و الاستمرار، كما أنها أداة للتعبير عن مطالب نفسية باعتبارها وسيلة للتعبير عن مكونات النفس و أحوالها لتجسد أغراض الذات و تثبتها كما أن لها عدة وظائف أخرى تتطلع في الوظائف( التنظيمية والتخيلية والإخبارية )فهي تنظم سلوك واستجابات الآخرين من خلال الأوامر والنواهي التي نصدرها للطفل أثناء التربية توجه سلوكه وتنظمه، ولعل لافتات وإشارات المرور خير ما يثبت ذلك حيث أنها إشارات إصطلاحية وضعها الإنسان لينظم استجابات السائقين من خلال الأوامر و النواهي التي تحملها ،فاللغة نسق من الرموز يجرد الواقع المادي في كلمات تغنيه عن إحضارها ليس هذا فحسب بل تعطي اللغة الفرد القدرة على الإفلات من الواقع و الهروب من ضغط الحياة اليومية من خلال ما يتخيله في القصص أو الأشعار أو أحلام اليقظة ومن جانب آخر فهي وسيلة لنقل المعلومات إلى الآخرين سواء كان أحداثا سياسية أو إجتماعية أو طبيعية وهذا ما تضطلع به اليوم وسائل الاعلام حيث تتناقل يوميا ما يجري في العالم ، الأمور التي تمنحها القدرة على التأثير في الجمهور و توجيه الرأي العام فاللغة هي أداه حيوية لتبادل الأفكار بين الأفراد و الجماعة و الأمم يقول ماكس مولر ( ماكان للإنسان أن يقدس اللغة حبا أو تعشقا لأغامها و أجراسها و إنما لأنها سجل تفكيره تحفظه له و تنقله عنه إلى إخوانه في الإنسانية) فلولا اللغة لما تمكن الانسان أن يثبت شخصيته أو يحكم الغير على شخصيته يقول بانفنيست(اللغة ممر عبور إلى الذات) ، فاللغة نعبر بها عن مشاعرنا و خواطرنا وكل أحوالنا و ما يجول في ذواتنا من حالات الحزن والفرح ..، فهي ليست عاجزة عن التعبير عن ذلك فكل ما نفكر فيه نقوله و يعرف من قبل الغير إذن فهي تحمل طابعا فرديا
النقد:
لا يمكن إنكار دور الوسط الإجتماعي فهو يساهم كثيرا في بناء اللغة التي تعتبر أداة ووسيلة لا تحمل طابعا فرديا و إنما تحمل طابعا إجتماعيا فهي ليست في كل الأحوال أداة للتعبير عن مشاعر ذاتية و رغبات و أهواء وميول شخصية و إنما يمكن أن تكون أداة للتعبير عن مشاعر جماعية مشتركة بين الأفراد فهي داخل المحيط الإجتماعي تضبط السلوكات وتوجه الأفعال عن طريق الأوامر و النواهي كما أنها تستخدم كوسيلة لنقل أغراض الجماعة إذن فهي ذات وظيفة اجتماعية
كما أن الوظائف اللغوية وإن تعددت فإنها ترد الى التواصل فالصورة الفنية والأشكال التعبيرية سواء عن الذات أو التخيلية موجه للآخرين أعرف نفسي للآخر أو أكتب له فالقواعد اللغوية تهدف إلى تهذيب وسلامة العملية التواصلية يقول أحد الفلاسفة (إن الناس يستعملون هذه الرموز لكي يسجلوا أفكارهم الخاصة و إما لكي يكونوا أفكارهم ثم يستعرضونها على الآخرين) .
التركيب:
مما سبق يتبين أن اللغة تطلع اللغة بوظائف متعددة و الأصل هي مثيل رمزي للواقع و الرغبة في استحضاره وبقائه و السيطرة عليه فهي وسيط بين الانسان و الاشياء وفي الوقت ذاته بين الانا والآخر لان الانسان بحاجة للآخر يكمل نقائصه إن الآخر شرط لوجودي كما يقول سارتر ، وبالتالي فهي نسق من الاشارات يتواصل بها الفرد مع مجتمعه و يعبر من خلالها عن مشاعره الذاتية (ميوله وأهوائه و عواطفه و رغباته) و يتحاور بواسطتها مع أقرانه و هذا لا يظهر في المجتمع الإنساني فقط وإنما حتى في مجتمع الحيوان.
حل المشكلة:
حصرة اللغة في الوظيفة التواصلية فيه مغالاة وإن كانت غاية اللغة النهائية هي التواصل فلن تحصل إلا في تحقيق وظائف أخرى متكاملة فاللغة باعتبارها ظاهرة وخاصية إنسانية بالدرجة الأولى فهي مرتبطة بالوجود الانساني إذا كانت قابلة للتغيير و التعديل لها وظائف عديدة منها ما هو إجتماعي و نفسي و بيولوجي فهي الوسيلة الأساسية التي يعتمدها الانسان من أجل تحقيق التواصل مع الآخرين و بناء العلاقات الاجتماعية .