)النفسية التسامحية وتأثيرها في العدل والإنصاف .
هذه النفسية التسامحيةالعظيمة عن ابن تيمية، أثرت عليه كثيراً حينما يتناول الطوائف والفرق المخالفة،فابن تيمية باحث عن الحق، ومن مهمة الباحث العلمي أن يعري ويكشف حقائق الأفكاروزيفها وصدقها، لأنه يقوم بمهمة علمية يفترض فيه الأمانة معالعدالة.
ومع ما يوصف به ابن تيمية من الحدة والقوة فيالجدل، إلا أنه أنصف أشد الطوائف عداء له، وأشدها بعداً عن المعقول والمنقول .
فحينما تناول شيخ الإسلام طائفة الشيعة بالنقد والتحليل، لمنيمنعه العداء والرد والنقض أن ينصف ويعدل مع هؤلاء الذين يراهم على باطل، ونصوصه فيذلك أكثر من أن تحصى، لكن منها على سبيل البيان والمثال :
يقول وهو يتحدث عن طائفة الشيعة الإمامية :
( كثيراً منهم ليسوا منافقين ولا كفاراً، بل بعضهم له إيمان وعمل صالح،ومنهم من هو مخطئ يغفر له خطاياه، ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله) .
وقال :
( والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد).
وقال منصفاً الشيعة :
( وينبغي أيضاً أن يعلم أنه ليس كل ما ينكره بعض الناس عليهم يكون باطلاً،بل من أقوالهم أقوال خالفهم فيها بعض أهل السنة ووافقهم بعضهم، والصواب مع منوافقهم ).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن لهم جهوداً في دعوة الكفار إلىالإسلام فدخل على أيديهم خلق كثير من الكفار.
وقال عن المعتزلة :
أنه مع مخالفتهم نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردوا على الكفار والملاحدةبحجج عقلية .
وقد عاب شيخ الإسلام على الإمام ابن فوركالأشعري تكفيره للمعتزلة وتأليب الحكام عليهم، يقول ابن تيمية عنه : ( وقصدبنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم وكما كفرهم عند السلطان،ومن لم يعدلفي خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيهاأو كفره فإنما هو ظالم لنفسه).
وقال عن الأشاعرة مع مخلفته لهم في كثير من الأصول والفروع:
( إنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة، وهو يعدون منأهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنةوالجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضةونحوهم).
وكان رحمة الله يتحرج كثيراً من تكفير الأشخاص ،يقول الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي نقلاً عن زاهر السرخسي أنه قال :
( لما قرب حضور أجل أبيالحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال : اشهد عليّ أني لا أكفر أحداًمن أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات. قلت - أي الذهبي - : وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامهيقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لايحافظ على الوضوء إلا مؤمن" فمن لازم الصلوات بوضوء فهومسلم).
(5) النفسية التيمية التسامحية وأثرها الجميل علىالناس.
هذا التسامح العظيم الذي كان يتحلى به ابن تيمية كان له الأثر العظيم فيالناس، ولذلك أحبه الناس حباً عظيماً، وتعلقوا به، وكانوا لا يرون به بديلاً رحمهالله .
يقول ابن عبد الهادي :
( وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه) .
وكان رحمه متواضعاً للعامة والخاصة ، للكبير والصغير، للرجالوالنساء، للأمراء والحقراء، كثير السلام على العامة والخاصة، يزور المرضى ويتفقدأحوالهم ، كان مجلسه مفتوحاً لكل أحد ، وقلبه يسع الكل، وخصاله أكثر من أن نحصرهاهنا .
قال عنه الإمام الحافظ بن فضل الله العمري وهو ممنعاصر شيخ الإسلام ابن تيميه :
(كانت تأتيه القناطيرالمقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، فيهب ذلك بأجمعه، ويضعهعند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ من شيئاً إلا ليهبه، ولا يحفظه إلاليذهبه).
ويقول أيضاً عنه :
( كان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئاً نزع بعض ثيابه فيصل بهالفقراء)!!
وقال عنه أحد من عاصره :
( كان يتفضل من قوته الرغيف والرغيفين، فيؤثر بذلك علىنفسه)!
وكان أثره عظيماً على تلاميذه، فهو القدوة الحسنة،وهو المربي بسلوكه وأقواله، وهو المؤمن الزاهد العابد، وهو العالم المتيقن ، وهوالذي يفزع إليه الناس في حقائق أمورهم وخواص شؤونهم.
يقول عنه تلميذه الإمامابن قيم الجوزية:
( وكنا إذا اشتد الخوف وساءت الظنون، وضاقت بنا الأرض بما رحبت، فما هو إلاأن نراه ونسمع كلامه فيذهب عنّا ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناًوطمأنينة).
وصدق الشيخ السبكيّ - أحد خصومه السابقين - حينماقال :
( والله ما يبغض ابن تيميهإلا جاهل أو صاحب هوى ، فالجاهل لا يدري ما يقول ، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحقبعد معرفته به ) .
(6) من أقول ابن تيميه المهمة .
* ( ماذا يصنعأعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري ، أين رحت فهي معي لا تفارقني ، أنا حبسيخلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة ) .
*
وحين عرضه لهذا الحديث : ( إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، أوتذمهم على مالم يؤتك الله).
قال
: ( من عبدالله وأحسن إلى الناس فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله فيإخلاص الدين له، ومن طلب من العباد العوض، ثناءً، أو دعاءً أو غير ذلك لم يكنمحسناً إليهم لله، ومن خاف الله فيهم، ولم يخفهم في الله كان محسناً إلى الخلق وإلىنفسه، ومن خافهم ولم يخف الله فهو ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه، لأنهإذا خاف دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم ، وإمابمقابلتهم بشيء أعظم من شرهم أو مثله، فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق، كثيرالظلم إذا قدر، مهين ذليل إذا ُقهر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك وهذا ممايوقع الفتن بين الناس ) .
(7) النفسية التيمية التسامحية في آخرلحظاتها.
كاد له خصومه مرة أخرى وأدخلوه السجن ، ففرح بخلوتهبالله وطلبه العلم ، ولكن كانت أكبر مصيبة حلت على شيخ الإسلام طلب بعض القضاة بأنتصادر كتبه وأقلامه ، فكبر ذلك عليه وعز أن تفارقه أقلامه ودفاتره، فكتب بالفحم علىالجدران، لكنه مرض بسبب فقده لكتبه وزاد وجعه .
وأخبر صديقهوصاحبه في السجن الشيخ عبدالله الزرعي وفي آخر لحظاته في هذه الحياة الدنيا وهو فيالسجن البارد الضيق : أنه سامح جميع أعدائه وحللهم من عداوته وسبّه !
ثم تفرغ لتلاوة القرآن وختمه ثمانين مرة ووصل عنقوله تعالى :
( إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) .
ثم أشدت علته، وفارقالدنيا وهو سجين، بعيداً عن أقلامه دفاتره !
رحم الله شيخالإسلام ابن تيمية وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في مستقررحمته…
كتبه : صخرةالخلاص