السادس) حديث أبي سعيد الخدري
أخرجه البيهقي ((شعب الإيمان)) (7/439/10893) من طريق محمد بن عمران بن أبي ليلى أنا سلمه بن رجاء عن صالح المري عن الحسن عن أبي سعيد الخدري أو غيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبدال أمتي لم يدخلوا الجنة بالأعمال ، ولكن إنما دخلوها برحمة الله ، وسخاوة الأنفس وسلامة لجميع المسلمين)).
قلت: وهذا حديث منكر ، وله ثلاث آفات:
(الأولى): صالح بن بشيرٍ المري القاص ، منكر الحديث جداً يحدث عن قوم ثقات أحاديث مناكير. قـال أحمد: كان صاحب قصص يقص ليس هو صاحب آثار وحديث ولا يعرف الحديث. وقال عمرو بن علي الفلاس: هو رجل صالح منكر الحديث جداً ، يحدث عن الثقات بالأباطيل والمنكرات. وقال البخاري: منكر الحديث ذاهب الحديث. وقال السعدي: واهي الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث.
(الثانية): الانقطاع ، فإن الحسن البصري لم يسمع أبا سعيد الخدري. قال الحافظ أبو سعيد العلائى ((جامع التحصيل)) (1/163): ((قال علي بن المديني: رأى الحسن أم سلمة ، ولم يسمع منها ، ولا من أبي موسى الأشعري ، ولا من الأسود بن سريع ، ولا من الضحاك بن سفيان ، ولا من جابر ، ولا من أبي سعيد الخدري ، ولا من ابن عباس ، ولا من عبد الله بن عمر ، ولا من عمرو بن تغلب ، ولم يسمع مـن أبي برزة الأسلمي ، ولا من عمران بن حصين ، ولا من النعمان بن بشير ، ولم يسمع من أسامة بن زيد شيئا ، ولا من عقبة بن عامر ، ولا من أبي ثعلبة الخشني)).
قـلت: وهذا كما قال ؛ إلا سماعه من عمرو بن تغلب. ففي ((كـتاب الجهاد)) مـن ((صحيح البخاري)) (2/157. سندي): حدثنا أبو النعمان حدثنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول حدثنا عمرو بن تغلب قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ)).
(الثالثة) المخالفة ، فقد رواه جماعة عن صالح المري عن الحسن مرسلاً ، وسلمة بن رجاء التيمي الكوفي صدوق يغرب ، ويتفرد بما لا يتابع عليه.
فقد أخرجه البيهقي ((شعب الإيمان)) (7/439) من طريق يحيى بن يحيى أنا صالح المري عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بدلاء أمتي..)) بنحوه ، هكذا مرسلاً.السابع) حديث عبد الله بن مسعود
أخرجه أبو نعيم ((الحلية)) (1/8) ، ومن طريقه ابن الجوزي ((الموضوعات)) (3/150) من طريق محمد بن السري القنطري ثنا قيس بن إبراهيم بن قيس السامري ثنا عبد الرحمن بن يحيى الأرمني ثنا عثمان بن عمارة ثنا المعافي بن عمران عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله قال: قال رسـول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن لله عزَّ وجلَّ في الخلق ثلاثمائة ، قلوبهم على قلب آدم عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق أربعون ، قلوبهم على قلب موسى عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق سبعة ، قلوبهم على قلب إبراهيم عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق خمسة ، قلوبهم على قلب جبريل عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق ثلاثة ، قلوبهم على قلب ميكائيل عليه السلام ، ولله تعالى في الخلق واحد ، قلبه على قلب إسرافيل عليه السلام ، فاذا مات الواحد أبدل الله عز وجل مكانه من الثلاثة ، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله تعالى مكانه من الخمسة ، وإذا مات من الخمسة أبدل الله تعالى مكانه من السبعة ، وإذا مات من السبعة أبدل الله تعالى مكانه من الأربعين ، وإذا مات من الأربعين أبدل الله تعالى مكانه من الثلاثمائة ، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله تعالى مكانه من العامة ، فبهم يحيي ويميت ، ويمطر وينبت ، ويدفع البلاء)) ، قيل لعبد الله بن مسعود: كيف بهم يحيي ويميت ؟ ، قال: ((لأنهم يسألون الله عز وجل إكثار الأمم فيكثرون ، ويدعون على الجبابرة فيقصمون ، ويستسقون فيسقون ، ويسألون فتنبت لهم الأرض ، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء)).
قال أبو الفرج: ((إسناده مظلم ، كثير من رجاله مجاهيل ليس فيهم معروف)).
قلت: وبقية أحاديث الأبدال مراسيل لا تنتهض بمثلها الحجة ، كيف وقد بان أن المرفوعات كلها واهية بمرة.
والذي ندين الله به ، ونعتقده واجباً لازما ، بعد قيام الدلالة بمقتضى ما بيناه من بطلان الأحاديث الآنفة الذكر ، أن هذه الألفاظ ((الأبدال)) و ((الأوتاد)) و ((الأقطاب)) و ((الغوث الفرد)) ، وغيرها مما تتهوعها قلوب المؤمنين الموقنين ، لم تكن تدور قطعاً على ألسنة الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولم ترد بها أحاديث صحاح تؤكد صحة مدلولاتها ، على مقتضى كلام مَنْ أكثرَ استعمالها ، ولهجَ بذكرِها ، وأجراها على وفق قوانين وقواعد مبتدعة ، ضاهت عند بعضهم الشرك الأكبر ، وأكثرُهم من المنتمين إلى الشيعة ، والرافضة ، والصوفية.
وما اُستعمل منها على ألسنة أكابر أئمة السنة والجماعة ، كالإمام ابن المبارك والأوزاعي والشافعي وأحمد وابن معين والبخاري وغيرهم من رفعاء أهل السنة ، وخاصةً لفظ ((الأبدال)) ، فمحمول على معانٍ محمودة ، ومدائح جائزة. وربما وقع الاشتباه في دلالات هذه الألفاظ ، من جهة المعهود الذهني لمعانيها عند المخالفين من أهل الطوائف المبتدعة ، كالشيعة الباطنية ، والصوفية الإتحادية. وأما مع المجانبة والحذر من مشابهتهم ، فلا مشاحة في استعمال هذه الألفاظ حبنئذٍ ، على المعانى الجائزة مما تبيحه أدلة الكتاب والسنة.
فلا يظن أحدٌ أن قول الإمام أبي عبد الله الشافعي عن شيخه يحيى بن سليم الطائفي: كنا نعده من الأبدال ، أنَّه يعنى أن شيخه الطائفي أحد الأربعين أشباه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ ، الذين كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلاً ، ولا يعنى أن شيخه أحد من يستغاث بهم ، ويستنـزل بهم القطر والرزق. وهذا مما لا ينبغي الإسهاب في بيان بطلان اعتقاده ، وحمل كلام أئمتنا عليه.
ألا تراهم يقولون في المديح ما لا يسعهم فعله ، فضلاً عن اعتقاده ، كقولهم ((فلان كعبة المحتاج لا كعبة الحُجَّاج ، ومَشْعَر الكرم لا مشعر الحَرَم ، ومِنَى الضيف لا مِنَى الخَيْف ، وقِبْلَة الصِّلاتِ لا قِبْلَة الصَّلاة)) ، وهذا كثير دائر على ألسنة الأدباء الأبيناء البلغاء من أهل السنة.
وعليه فقولهم عن رجل ((فلان من الأبدال)) ، محمول على معانٍ من الثناء والمديح والمحامد الجائزة ، مما لا مساس معها بالمحظورات العقائدية. وما كان منها على خلاف هذه الدلالة ، فمردود على قائله أو متأوله ، فمن ذلك قول شهاب بن معمر البلخي عن الإمام حماد بن سلمة: كان يُعد من الأبدال ، تزوج سبعين امرأة فلم يولد له. ألا ترى أن مسحة الصوفية قد أذهبت رونق المدح والثناء ، فأحالت المدح قدحاً ، والثناء هجاءاً. وقارن ذلك بقول ابن المبارك عنه: ما رأيت أحداً أشبه بمسالك الأوائل من حماد بن سلمة ، تجد بينهما بوناً شاسعاً ، تستلطف معه كلام ابن المبارك ، وتلقي إليه سمعك ، بينما تستغرب ما صدر عن البلخي.
فإذا وضحت هذه اللمعة ، فلنذكر طرفاً من الاستعمالات الجائرة لهذه الألفاظ عند الصوفية.
فهذا الشيخ عبد الرؤوف المناوي الصوفي يوضح حقيقة البَدَل على اعتقادهم ، فيقول في (فيض القدير): ((وإذا رحل البدلُ عن موضعٍ ترك بدله فيه حقيقة روحانية ؛ يجتمع إليها أرواح أهل ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي ، فإن ظهر شوقٌ من أناس ذلك الموطن شديد لهذا الشخص ، تجسدت لهم تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدلُه ، فكلمتهم ، وكلموها ، وهو غائب عنهم ، وقد يكون هذا من غير البدل ، لكن الفرق بينهما أن البدل يرحلُ ويعلمُ أنه ترك غيره ، وغيرُ البدل لا يعرفُ ذلك وإن تركه)).
ولا أظنك وأنت تقرأ هذا الغثاء ، إلا تعوذت بالله من هذه الأباطيل ، وقلت مسارعاً {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} ، ودعوت عائذاً {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}.
وها هو يقول ما تقشعر منها الجلود ، وتشمئز منه الأفئدة: ((الأَبدال ـ بفتح الهمزة ـ جمع بَدَل بفتحتين ، خصهم الله تعالى بصفات: منها أنهم ساكنون إلى الله بلا حركة ، ومنها حسن أخلاقهم في هذه الأمة ، (ثلاثون رجلا) قيل سموا أبدالا ، لأنهم إذا غابوا تبدل في محلهم صور روحانية تخلفهم ، (قلوبهم على قلب إبراهيم) خليل الرحمن عليه السلام ، أي انفتح لهم طريق إلى الله تعالى على طريق إبراهيم عليه السلام ، وفي رواية (قلوبهم على قلب رجل واحد) قال الحكيم الترمذي: إنما صارت هكذا ، لأن القلوب لهت عن كل شيء سواه ، فتعلقت بتعلق واحد ، فهي كقلب واحد. قال في ((الفتوحات)): قوله هنا (على قلب إبراهيم) ، وقوله في خبر آخر (على قلب آدم) ، وكذا قوله (على قلب شخص من أكابر البشر أو من الملائكة) معناه: أنهم يتقلبون في المعارف الإلهية بقلب ذلك الشخص ، إذ كانت واردات العلوم الإلهية إنما ترد على القلوب ، فكل علم يرد على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول ، يرد على هذه القلوب التي هي على قلبه ، وربما يقول بعضهم: فلان على قدم فلان ، ومعناه ما ذكر.
وقال القيصري الرومي عن العارف ابن عربي: إنما قال (على قلب إبراهيم عليه السلام) لأن الولاية مطلقة ومقيدة ، والمطلقة هي الولاية الكلية التي جميع الولايات الجزئية أفرادها ، والمقيدة تلك الأفراد ، وكل من الجزئية والكلية تطلب ظهورها ، والأنبياء قد ظهر في هذه الأمة جميع ولاياتهم على سبيل الإرث منهم ، فلهذا قال هنا (على قلب إبراهيم عليه السلام) ، وفي حديث آخر (على قلب موسى عليه السلام) ، وفلان ، وفلان ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الولاية الكلية من حيث أنه صاحب دائرة الولاية الكلية ، لأن باطن تلك النبوية الكلية الولاية المطلقة الكلية ، ولما كان لولاية كل من الأنبياء في هذه الأمة مظهراً ، كان من ظرائف الأنبياء أن يكون في هذه الأمة من هو على قلب واحد من الأنبياء. (كلما مات رجل) منهم ، (أبدل الله مكانه رجلا) فلذلك سموا أبدالا ، أو لأنهم أبدلوا أخلاقهم السيئة وراضوا أنفسهم حتى صارت محاسن أخلاقهم حلية أعمالهم.
وظاهر كلام أهل الحقيقة ؛ أن الثلاثين مراتبهم مختلفة. قال العارف المرسي: جُلْتُ في الملكوت ، فرأيت أبا مدين معلقا بساق العرش ، رجل أشقر أزرق العين ، فقلت له: ما علومك ومقامك ؟ ، قال: علومي أحد وسبعين علما ، ومقامي رابع الخلفاء ، ورأس الأبدال السبعة ، قلت: فالشاذلي ! ، قال: ذاك بحر لا يحاط به. قال العارف المرسي: كنت جالسا بين يدي أستاذي الشاذلي ، فدخل عليه جماعة ، فقال: هؤلاء أبدال ، فنظرت ببصيرتي ، فلم أرهم أبدال ، فتحيرت ، فقال الشيخ: من بدلت سيئاته حسنات ، فهو بدل ، فعلمت أنه أول مراتب البدلية. وأخرج ابن عساكر أن ابن المثنى سأل أحمد بن حنبل: ما تقول في بشر الحافي بن الحارث ؟ ، قال: رابع سبعة من الأبدال)) اهـ بنصه من غير تحريف ولا تصرف.
وألقِ سمعك هذه الخرافة المأثورة عن شيخِهم الأكْبر ، ذي المآثر التي تخبلُ العقول وتَـبْهَر ـ أعني ابن عربي الحاتمي ـ حيث يقول عن نفسه ((الأوتاد الذين يحفظ الله بهم العالم أربعة فقط ، وهم أخص من الأبدال ، والإمامان أخص منهم ، والقطب أخص الجماعة. ولكل وتد من الأوتاد الأربعة ركن من أركان البيت ، ويكون على قلب نبي من الأنبياء ، فالذي على قلب عيسى له اليماني ، والذي على قلب آدم له الركن الشامي ، والذي على قلب إبراهيم له العراقي ، والذي على قلب محمد له ركن الحجر الأسود ، وهو لنا ـ يعنى نفسه ـ)) كذا حكاه المناوي عنه.
وكتب القوم طافحة بهذه التعبيرات الجائرة عن طريق الاستقامة ، أعاذنا الله من الزيغ بعد الهداية. والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً