- لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن، وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر:{ قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [التوبة: 29] وقال في العدو الباطن:{ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً }[فاطر: 6] فكأنه تعالى قال: إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك المَلك، كما قال تعالى:{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ مُسَوّمِينَ }[آل عمران: 125] وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملِك كما قال تعالى:{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلِيهم سُلْطَـٰنٍ }.
18- محاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر؛ لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا، والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين، وأيضاً فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين، والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين، وأيضاً فمن قتله العدو الظاهر كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطن كان طريداً، فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى، وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
19- كأنه تعالى يقول يا عبدي ، ما أنصفتني ، أتدري لأي شيء تَكَدَّرَ ما بيني وبين الشيطان ؟ إنه كان يعبدني مثل عبادة الملائكة، وكان في الظاهر مقراً بألوهيتي ، وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع، فلما تكبر نفيته عن خدمتي،فعادى أباك، وامتنع من خدمتي، ثم إنه يعاديك منذ زمن وأنت تحبه، وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات، فأترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
20- إن نظرت إلى قصة الشيطان مع أبيك آدم ، فإنه أقسم بأنه له من الناصحين، ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال: { فبعزتك لأَغويتهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } [ص: 82، 83] فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه.
21- إنما قال: (أعوذ بالله) ولم يذكر اسماً آخر، بل ذكر قوله (الله) لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجراً عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادراً عليماً حكيماً فقوله: (أعوذ بالله) جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم، وهذه الصفات هي النهاية في الزجر، وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله، لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادراً إلا أنه غير عالم، فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر، بل لا بدّ معها من العلم، وأيضاً فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر، لأن الملك إذا رأى منكراً إلا أنه لا ينهى عن المنكر لم يكن حضوره مانعاً منه، أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فههنا يحصل الزجر الكامل؛ فإذا قال العبد (أعوذ بالله) فكأنه قال: أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام.
22- لما قال العبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان، وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاصٍ، وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة، فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى.
23- الشيطان اسم، والرجيم صفة، ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفاً من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا؟ ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه، وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
24- لقائل أن يقول: لم لم يقل: «أعوذ بالملائكة» مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى؟ وجوابه كأنه تعالى يقول: عبدي إنه يراك وأنت لا تراه، بدليل قوله تعالى:{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ }[الأعراف: 27] وإنما نفذ كيده فيكم لأنه يراكم وأنتم لا ترونه، فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان، وهو الله سبحانه وتعالى فقولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
25- أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفاً للجنس؛ لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية، بل المرئي ربما كان أشد .
26- الشيطان مأخوذ من «شطن» إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيداً، وأما المطيع فقريب قال الله تعالى:{ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب }[العلق: 19] والله قريب منك قال الله تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } [البقرة: 186] وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرمياً بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالى: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } [الفتح:26] فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيداً مرجوماً، وجعلك قريباً موصولاً، ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريباً لأنه تعالى قال: { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [فاطر: 43] فاعرف أنه لما جعلك قريباً فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته.
27- كأنه تعالى يقول: إنه شيطان رجيم، وأنا رحمن رحيم، فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم.
28- الشيطان عدوك، وأنت عنه غافل غائب، قال تعالى:{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُلاتَرَوْنَهُمْ }[الأعراف: 27] . فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب، لقوله تعالى: { وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } [يوسف: 21] فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
29- فرق بين أن يقال: «أعوذ بالله» وبين أن يقال: (بالله أعوذ) فإن الأول لا يفيد الحصر، والثاني: يفيده، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني مع أن الثاني أكمل وأيضاً جاء قوله: «الحمد لله» وجاء قوله: «لله الحمد» وأما هنا فقد جاء «أعوذ بالله» وما جاء قوله «بالله أعوذ» فما الفرق؟.
قوله: (أعوذ بالله) لفظه الخبر ومعناه الدعاء، والتقدير: اللهم أعذني، ألا ترى أنه قال: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } كقوله: «أستغفر الله» أي اللهم أغفر لي، والدليل عليه أن قوله: { أعوذ بالله } إخبار عن فعل العبد ، وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه الله، فما السبب في أنه قال: «أعوذ بالله» ولم يقل أعذني؟ والجواب أن بين الرب وبين العبد عهداً كما قال تعالى: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ }[النحل:91] وقال:{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }[البقرة:40] فكأن العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث قلت: «أعوذ بالله» فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول: إني أعيذك من الشيطان الرجيم.