تابِــع..
صعاليك الصّـحافة "1"
ما أعجبني في هذا المدخل هو أنّ الكاتِب افتَتَحَ بِكلامٍ يَجذب ثِقةَ القارئ ويُبصِّرُهُ لِأمورٍ قيِّمة، حيثُ نفى عن شخصِهِ صِفةَ النّفاق والخوف وزادَ على ذلِك تحديدِه للنّوع الذي يَميلُ لاحتِرامه من أهل الأدب الذين يلمس قيمتهم الأدبيّة والنّوع المُعاكِس الذي يثورُ ضِدَّ تيّاراتِه المُنافية للحقائِق الثّابِتة التي تستحقّ أن تُعلى على كلِّ زيفٍ وتحريف.
حيثُ تجلَّت شجاعته وإقدامه وصِدقُ مسعاه الرّامي لِكشف لِثام الغموض عن كلّ ما يَهدِف إظهاره للإفادة والنّفع.
ويُشير إلى أنّ سوء النّوايا تجعلُ أصحابَها عُرضةً لانزلاقٍ يفضَحُهم ويُذبذِبُ نِتاجهم الفِكري.
(بالمناسبة أخي الكوثَري هل يصحّ القول: نِتاج فكري أم يتوجّب القول مَنتوج أو مُنتَج فِكري)
وبِصَريحِ المعاني يَعترِف الكاتِب بِرِضاه كونه لم يسلك سبيل الصّحافة قناعة منه بِانحِطاطٍ التَحفته.
فهو يَرى أنّ الصّحافة العربيّة تفتقِر لِحقيقة الأدب الصّحيح..حيثُ أنّها لا تبني خدمتها للقارئ على أُسُسٍ سليمةٍ تنطلِقُ من مبدأ الارتقاء والتّهذيب.
ومن بين آراءه الحكيمة التي استوقفَتني وشدّت انتِباهي تأكيده على وجوب دراسة الأشياء بِعُمقٍ ودِقّةٍ لأنّ بَواطِنها قد تأتينا بِما لا يأتي ظاهِرُها..
وهي بنظري دعوةٌ منه لإتقان العمل وبنائِه بناءً سليما لا يعترِف بِجُدرانٍ مكسورةٍ إحدى أعمِدتِها..
وهو عكس ما يراه في الصّحافة من اختِزالٍ للأفكار والذي بِدورِه يحجُبُ الحقائِق ويزيد من تضليل العقول.
وحسَب ما فهمته من قول الكاتِب أنّ حاجة الأدباء للنُّضج الأدبي تسبق امتهانهم للصّحافة لأنّ نُضجه يُؤهّلهُم لِمكانةٍ يصنَعُونها ويترأّسونها بِسِعةِ وعْيِهم فيُورِق ثِمارا طيِّبة لِقاءَ تحكّمهم الجيِّد وحُسنِ بَذرِهم.
وصَدقَ أديبنا الرّافعي حينما رسَم نظرة الجمهور إلى الصّحافة التي تُعلي فيها مكانة رجال السّياسة وأهل الفنون التّمثيليّة في حين تهوي أنظارهم بِمكانة الأديب فتجعلها في الحضيض..
وهي نظرةٌ توحي بِجهلِهِم لِعظمة الأدباء وأدوارِهم الرّئيسيّة التي يُمكِنُ أن ترقى بالصّحافة العربيّة في كلّ المجالات.
ــ
وهذه حوصلة فهمي ممّا دار بين الجاحِظ والرّافعي (في حُلمِه)
- قانون التّسيير في دُور الصّحف يُفعِّلُه شخصٌ واحِدٌ تُحدَّدُ مهامه من السّلطات التي تعلوه ومنها يُسقِط أوامِره على من يُرَتّبون أسفَلَ رُتبته الحاكمة والرّابِطُ بينهما هو المنتج التّجاري الرّبحي..وهي دلالة على احتكار وإلجام حريّة الآراء..
- إهمال قيمة الأدب واستِبدالِه بالقيمة النقديّة..
وأغراض الصّحافة الماديّة التي يترأّسُها الكسب السّريع للأموال وشجَع أهلِها.
- دناءة مُستوى القارئ الذي يَجهل لذّة الأدب،
وسوءِ بنيتِه الأخلاقيّة وهو ما يَحول دون تمييزِه بين الحقّ والباطِل أو بين الجودة والرّكاكة..
ومن نمَت مبادئه على الكذِب أقرأته سخافتُه..
- تفنُّن الصحافة في التّزييف المُبتَكَرِ دوريًّا..فعِوضَ التّجديد في أمورٍ تطوّر الفِكر وثقافته يُجدِّدون أساليبهم في تجسيد أكاذيبِهِم.
- سَخط الجاحِظ على الصّحافة وما يُجنى منها من باطِل.
- نظرة رئيسِه السّلبيّة، والذي لامَ نزاهةَ عمله وسعا لإبطال عزيمته بتذكيره بِمستوى قرّاء اليوم الذين لا يُقوّمون معارِفهُم اعتِمادا على المراجع القيِّمة المتمثّلة في كِتاب الله وسُنّةِ رسوله وكتب العلَماء وإنّما ينهَلون ممّن هي أقلّ نفعا كالرّوايات والمجلاّت الهزليّة ..
والمغزى من كلامه هو أنّ نجاح الصّحيفة يُقاس بِمدى اشتهارِها وما تجنيه من أرباح.
وتحصيلُ هذه الأخيرة يتعلَّق بما يُكتَب من كلامٍ يُغري القارئ رغم تفاهته وخُلوِّه من ملامِح الأدب.
وإلى قِراءةٍ أخرى إن شاء الله..