الغزالي.. طبيب الأمة
فقدان الوعي
ففي مجال الفكر، يرى الشيخ الغزالي أن الأمة أصيبت بأتباع فاقدي الوعي، لا يدركون ما يحاك لهم من الأمم الأخرى، وأن مثل هذا النهج يجعل الأمة أقرب للموتى منه للأحياء؛ فهو يرى أن “الضمير المعتل والفكر المختل ليسا من الإسلام في شيء، وقد انتمت إلى الإسلام أمم فاقدة الوعي عوجاء الخطى قد يحسبها البعض أمما حية ولكنها مغمي عليها... والحياة الإسلامية تقوم على فكر ناضر... إذ الغباء في ديننا معصية”.
وإذا كان غياب الوعي الفكري بارزا في كثير من مظاهر الأمة، لكنه أخطر حين يكون في مجال الشرع خاصة، فتلك طامة كبرى، وإن كان الفشل في الدين والدنيا مصيبة لا تغتفر، فـ”إن اضمحلال العقل الإسلامي واضح في أغلب ميادين الفقه! وعدد كبير من المشتغلين بفقه العبادات أو المعاملات يحسن النقل التقليدي أكثر مما يحسن الوعي والاجتهاد، ويغلب عليه ضيق الأفق ولزوم ما لا يلزم!. أما الفشل في شئون الدنيا فأمره مخجل حتى إن ما نأكله من طعام أو ما نأخذه من دواء أو ما نرتديه من لباس يصنعه لنا غيرنا!. وأما صناعات السلاح وما يحمي الشرف ويصون الإيمان فشيء لا ناقة لنا فيه ولا جمل”.
سوء الخلق
ومن الأمراض التي يجب علاجها السلوك الإنساني، فإن الإسلام يقوم مع العقيدة والعبادة على الخلق والسلوك، وبدون المعاملة الحسنة لا تستقيم حياة الناس، بل تؤثر على دينهم، فساعتها يكون نفع العقيدة والعبادة ضعيفا، وأخطر ما يكون سوء الخلق في حاملي لواء الدعوة والإسلام، ويعبر الغزالي عن ذلك قائلا: “أكره أصحاب الغلظة والشراسة، لو كان أحدهم تاجرا واحتجت إلى سلعة عنده ما ذهبت إلى دكانه، ولو كان موظفا ولي عنده مصلحة ما ذهبت إلى ديوانه، لكن البلية العظمى أن يكون إمام صلاة أو خطيب جمعة أو مشتغلا بالدعوة، إنه يكون فتنة متحركة متجددة يصعب فيها العزاء. إذا لم يكن الدين خلقا دمثا ووجها طليقا وروحا سمحة وجوارا رحبا وسيرة جذابة فما يكون؟! وقبل ذلك، إذا لم يكن الدين افتقارا إلى الله، وانكسارا في حضوره الدائم، ورجاء في رحمته الواسعة، وتطلعا إلى أن يعم خيره البلاد والعباد فما يكون؟!.بعض المصلين تحركه لينتظم في الصف فكأنما تحرك جبلا! وبعض الوعاظ يتكلم فكأنه وحده المعصوم والناس من دونه هم الخطاءون! وهذا شاب حدث يحسب نفسه مبعوث العناية الإلهية لإصلاح البشرية فهو ينظر إلى الكبار والصغار نظرة مقتحمة جريئة...
إن القلب القاسي والغرور الغالب هما أدل شيء على غضب الله، والبعد عن صراطه المستقيم.. ومن السهل أن يرتدي الإنسان لباس الطاعات الظاهرة على كيان ملوث وباطن معيب.
لو أن إنسانا عرف معايبي فسترها عن الناس وقصد بها إلي ليكشف لي أخطائي ويرجع بي إلى ربي لشكرته ودعوت له!
إنه أسدى إلي جميلا، ورحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي...
إنني أخاف على نفسي وعلى الناس صياحا فضاحا يرتقب الغلطة ليثب على صاحبها وثبة الذئب على الشاة، فهو في ظاهره غيور على الحق وفي باطنه وحش لم تقلم التقوى أظافره، ولم يغسل الإيمان عاره ولا أوضأه.
إنه تحت شعار الإسلام يتوج ناس ليس لهم فقه وليست لديهم تربية، يغترون بقراءات وشقشقات واعتراضات على بعض الأوضاع، ويرون أن الدين كله لديهم، وأن الكفر كله عند معارضيهم، فيستبيحون دماءهم وأموالهم وكراماتهم.
ما هذا بإسلام وما يخدم بهذا الأسلوب دين من الأديان”.
عادات رديئة
وفي عمق الحياة الاجتماعية، يتعدى الشيخ الغزالي القول بإباحة الأشياء، ليغوص في مقاصد الأنشطة الاجتماعية التي يقوم بها المسلمون، ليسلط الضوء على تلك العادات التي يغلب عليها الغلو والتكلف، ويشن حملة على الإسراف بلا داع، فهو يرى أن: “للمسلمين في أفراحهم على اختلاف أسبابها عادات رديئة – فهم ينزعون إلى الغلو والتكلف، وقلما يجنحون إلى البساطة والاعتدال وهم يستغلون إباحة الإسلام للطيبات، فيتوسعون في انتهابها، ويبلغون في الإسراف حدا لا يصل إليه أتباع الديانات الأخرى، وقد حضرت أحفالا أقامها أصحابها لمناسبات شتى، ابتهاجا بمولود، أو استقبالا لموظف أو احتفاء بصديق أو فرحا بزواج فكان الإفراط البين طابعا عاما لهذه الأحفال كلها، سواء في مصر أو الشام أو الحجاز، ويمكن القول بأن الأجانب أدنى إلى الرشد منا في هذه الأمور، وهذه النقائض تقع في عصر سقطت فيه دولة الخلافة وذهبت ريحها وديست أرضها ومشى الغاصبون في أرجائها يزأرون زئير الآساد الكاسرة القاهرة.
وكان حريا بالمهزوم أن يصد عن هذه المباحات الميسرة إذا أقبل المنتصر عليها وعلى غيرها وينتشي. أما أن يعتدل المنتصر ويفرط المهزوم فهذه هي المأساة.
وفي عرض أمراض الشعوب الإسلامية لا يخجل الغزالي أن يكون صريحا، فهو يرى أن “تخلف العالم الإسلامي قضية معروفة وإن كانت مخجلة! وهذا التخلف أطمع الأقوياء فيه! بل قد طمع فيه من لا يحسن الدفاع عن نفسه! وشر من ذلك أن هذا التخلف ألصق بالإسلام تهما كثيرة، بل إن عقائد خرافية فكرت في إقصائه ووضع اليد على أتباعه!...”.
مسئولية الأمة
وهو يرجع المسئولية للأمة التي ما دافعت عن نفسها أو عقائدها أو حضارتها، ويصرح بقوله: “ولست ألوم أحدا استهان بنا أو ساء ظنه بديننا ما دمنا المسئولين الأوائل عن هذا البلاء، إن القطيع السائب لا بد أن تفترسه الذئاب”.
وهو يحلل من سعى لإحياء الأمة من كبوتها، ويدرك المنهج المختلف الذي سلكه المصلحون، واختلفوا في طريقة المعالجة، فهو رآهم فريقين: “فريقا يتجه إلى الحكم على أنه أداة سريعة لتغيير الأوضاع، وفريقا يتجه إلى الجماهير يرى في ترشيدها الخير كله...
قلت في نفسي: إن الذين يسعون إلى السلطة لتحقيق رسالة رفيعة لا بد أن يكونوا من الصديقين والشهداء والصالحين أو من الحكماء المتجردين والفلاسفة المحلقين! وأين هؤلاء وأولئك إنهم لم ينعدموا، ولكنهم في الشرق الإسلامي عملة نادرة.
ومع ذلك فإن أي حكم رفيع لن يبلغ غايته إلا إذا ظاهره شعب نفيس المعدن عالي الهمة!”.
الشعب أساس الإصلاح
ويوضح أن المصلحين وحدهم لن يجدوا نفعا إذا كانوا في الميدان وحدهم، ويرى الغزالي بحكمته أنه لن يكون هناك إصلاح بدون شعب يقف مع المصلحين، فـ”الشعوب هي الأصل، أو هي المرجع الأخير! وعلى بغاة الخير أن يختلطوا بالجماهير لا ليذوبوا فيها وإنما ليرفعوا مستواها ويفكوا قيودها النفسية والفكرية، قيودها الموروثة أو التي أقبلت مع الاستعمار الحديث...
ويوضح الغزالي بعض ملامح منهج الإصلاح، داعيا “أولي العزم من الدعاة أن يعيدوا النظر في أساليب عرض الإسلام والدفاع عنه، وأن يبذلوا وسعهم في تغيير الشعوب والأفكار، سائرين في الطريق نفسه الذي سار فيه المرسلون من قبل... وليس العمل المطلوب مضغ كلمات فارغة، أو مجادلات فقهية، أو خصومات تاريخية، إن العمل المطلوب أسمى من ذلك وأجدى!”.
أزمة الأخلاق
ويرى الغزالي أن الأزمة ليست أزمة سلطة فحسب، بل هي في المقام الأول أزمة أخلاق، فـ”إننا نحن المسلمين انهزمنا في ميادين كثيرة لا تحتاج إلى عصا السلطة، والمجتمع الذي يعجز عن محو تقاليد سيئة في دنيا الأسرة لن يحقق نصرا في دنيا السياسة وكيف ينفذ قوانين الشريعة من لم ينفذ قوانين الأخلاق؟”.
تلك بعض مآخذ الغزالي على مسلك الشعوب المسلمة في الجانب الداخلي، وهي ملاحظات داخلية شملت العقيدة والعبادة والأخلاق والسياسة والاقتصاد، ومن يطالع تراث الشيخ يجد فيها تشخيصا دقيقا للأدواء، ووصفا واقعيا للدواء؛ لأنه الشيخ الداعية المفكر، صاحب مشروع الأمة، ليقدم الغزالي نموذجا فريدا للدعاة، يبصر العالم بمنظار أوسع من الوعظ والإرشاد