أما القسم الثاني: يتعلق بالأسس التي يعتمد عليها الباحث للوصول إلى اكتشاف القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية. ومنه فإن ابن خلدون في تعرضه للقواعد الوقائية أراد أن يبعد البحث العلمي عن تلك الأخطاء المرتكبة ويجعله يسري على دعائم متينة يعمل الباحث بمقتضاها حتى لا يضل الطريق.
1. القواعد الوقائية: ويشمل القواعد التالية:
· أولا الذهول: إن كثيرا من الباحثين يقعون في الخطأ ويبتعدون عن المقاصد والأهداف بسبب غفلتهم وعدم تفطنهم للفرق الموجود بين الأحوال والأحداث وما طرأ عليها من تغير وتطوير.
· ثانيا النقل: إن الباحث الذي يعتمد على النقل قد يؤدي به الأمر إلى نقل أمور غير صحيحة أو مشبوهة بالخرافات وهذا من شأنه أن يشوه الحقيقة ويفقد الناقل مكانته العلمية التي تتطلب منه التحري وتحكيم العقل وإخضاع الأمور إلى سنن الطبيعة الضرورية الثابتة.
· ثالثا الثقة: لا ينبغي للباحث أن يثق في كل خبر أو رأي مهما كان مصدره دون تأمله وعرضه على القواعد الصحيحة وتمحيصه جيدا ولابد أيضا النظر في شخصية الراوي، هل تتوفر فيه شروط الثقة أو لا تتوفر فيه.
· رابعا الجهل: إذا كان الباحث يجهل طبائع الأحوال وأسباب الحوادث وينظر إليها بمظهر خارجي سطحي ولا يعرف أسبابها الحقيقية ويكتفي بنقل ما لاحظه دون أن يفهم حقيقته يكون بعيدا عن الصواب.
· خامسا الأغراض: لأن كثيرا من الناس ميالون بطبيعتهم إلى إتباع أهوائهم فيؤدي بهم ذلك إلى تزييف الحقائق ونقل المعلومات كاذبة، لأنهم يتقربون إلى أصحاب الجاه والثروة لقضاء مآربهم وتحقيق أغراضهم فيعمدون إلى وصفهم بكل حميد وتزين أحوالهم، وهكذا يعملون على تشويه الحقيقة وتزيف الأمور مما يجعلهم يشوهون البحث العلمي الذي يتنافى مع هذا الأسلوب.
· سادسا التشيع: فإذا كان الشخص متشيعا إلى رأي فإنه يقبل كل ما يوافق ميله لأول وهلة دون أن يمعن النظر في ذلك ودون أن يتناوله بالنقد، وبذالك ينقل أخبارا ومعلومات كاذبة لأنه لم يزنها بميزان العقل قصد تمحيصها والتأكد منها.
هذه هي أهم القواعد التي ينبغي للعقل أن يتجرد منها في البحث العلمي لكي يحصل على معلومات صحيحة، وتجنبه الأخطاء التي يمكنه أن يقع فيها لأن هذه القواعد لها ارتباط وثيق بحياة الإنسان إذا لم يتحرر منها لا يستطيع كشف الحقيقة التي هي هدفه الرئيسي ومنهجه القويم.
2. القواعد العلمية: وهي على عكس القواعد الوقائية - التي لا بد أن يتجنبها الباحث- إذ على الباحث أن يعمل بها وأهمها:
· أولا: المقدرة العلمية والمعرفة بأحوال المجتمعات وبقوانين الطبيعة والحياة وعللها والإحاطة بطبائع العمران وما يطرأ على الأحوال الاجتماعية من تغير وتبديل.
· ثانيا التعليل: ينبغي أن لا تعلل الظواهر من خلال النظرة الذاتية، بل ينبغي أن ترمي إلى دراسة الظواهر دراسة موضوعية في سبيل كشف الحقيقة، لأن معرفة الأسباب الحقيقية يجعل تفسير القضايا سليما ويكتسب معرفة علمية صحيحة.
· ثالثا الملاحظة: تعتبر الملاحظة من القواعد الهامة في الدراسة الاجتماعية كما هو الشأن في دراسة العلوم الطبيعية غير أن الملاحظة في العلوم الإنسانية تختلف عن الملاحظة في العلوم الطبيعية نظرا لتحرك الأولى وثبوت الثانية وخضوعها للتجربة.
· رابعا المقارنة: من أهم القواعد التي يرتكز عليها البحث العلمي في علم الاجتماع المقارنة، لأن الظواهر الاجتماعية في تغبر مستمر.
· خامسا التمحيص والنقد: على الباحث أن يعمل على تمحيص الأخبار التي ترد عليه والمعلومات التي يكتسبها بواسطة تحكيم العقل الذي هو معيار العلم ومصدر كل حكم وبذلك يستطيع أن يتخلص من قبول الغرائب التي تتطلع النفوس إلى قبولها ويكون بحثه موجها نحو الحقيقة العلمية.
· سادسا التطور: إن الدراسة الظواهر الاجتماعية تختلف عن دراسة العلوم الطبيعية التي تخضع لقواعد ثابتة، ومن هنا يكمن وجه الخلاف لأن الظواهر الاجتماعية لا تبقى على حالة واحدة فهي في تطور مستمر وتغير متواصل، ولذا يجب على الباحث أن يتفطن لهذا التغير ويجعله في حسابه لكي لا يقع في الخطأ بقياسه الماضي على الحاضر أو العكس.
ومن خلال هذا نستنتج أن ابن خلدون كان يولي اهتماما كبيرا للناحية العلمية ويقدرها حق قدرها ويتخذها هي الهدف الأمثل الذي يسعى من أجله ويعمل على تحقيقه متحديا كل الصعاب والعراقيل التي تعترض سبيله فأداه ذلك إلى الخروج على الإنسانية بأفكار علمية مفيدة خلدته عبر الأجيال والعصور.
قائمة المصادر والمراجع.
1. عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة ، ط 2، (بيروت: دار الكتاب اللبناني 1979م).
2. د.علي محمد علي، تاريخ علم الاجتماع (ط2؛ 1983م).