الحقيقة التي لا تعرف المزايدات
من حق الجزائر كدولة ذات سيادة أن ترفض التدخل في الشأن الليبي أو غيره، ولا تضع يدها في يد الحلف الأطلسي بعدما سارعت "الجامعة العربية" للاستنجاد بمجلس الأمن ومباركة العملية العسكرية ضد ليبيا تحت غطاء حماية المدنيين، ولكن سيتبين لاحقا أنه حق أريد به باطل ليس إلا، ومن حقها أيضا أن تتخوف من تواجد عسكري أجنبي على حدودها، كما من حقها أن تتحفظ من بعض الأمور وخاصة ما يتعلق بوضعها الأمني وكل المؤثرات عليه سواء كانت في الساحل والصحراء أو في ليبيا، ومن حقها أيضا أن ترفض اشتعال فتيل حرب أهلية على مرمى حجر منها، فما تسمى "القاعدة" تترصد لمثل هذه الفرص الثمينة لتعيد ترتيب بيتها ومخططاتها الإجرامية بعد الضربات الموجعة التي تلقتها من الجيش والشعب، وبلادنا لا تزال لم تندمل جراحها من سنوات الدم والدمار.
ولكن من جهة ثانية ليس من حق الجزائر أن ترفض استقبال اللاجئين على ترابها وهي التي وقعت على معاهدات دولية بهذا الإطار، وأعتقد أن خدمات جزائرية كبيرة قدمت للاجئين التونسيين أثناء ثورة الياسمين ولا تزال تقدم لليبيين أيضا للأسف تتجاهلها وسائل الإعلام الثقيلة. كما أنه ليس من حق الجزائر أن ترفض الوساطة الدولية أو التردد في تقديم المساعدة للاتحاد الإفريقي أو الجامعة العربية أو حتى الأمم المتحدة لإيجاد حل سلمي يحقن الدماء بين الإخوة الأعداء، وطبعا هذا لم يحدث فقد استقبلت بعثة الاتحاد الإفريقي منذ أيام قليلة، وطالبت كثيرا بضرورة تغليب الحل السلمي وتوقيف إطلاق النار والحوار الجاد بين الفصائل المتناحرة.
لست أدافع عن الحكومة ولا النظام كما قد يتوهم البعض، ولست مخولا بالتحدث على لسان هذا أو ذاك، ولكن الذي وجب أن أقف عنده هو قول الحقيقة ولو تكون في صالح الشيطان، وواجب عليّ أن أرفض وصف الجزائريين بالمرتزقة. ورغم يقيني بخلفيات هذه الحملة، أؤكد لكل العالم أنه لو قدم الأدعياء دليلا مقنعا ومشروعا ودقيقا لا لبس فيه، ولو أتمكن بنفسي من الوقوف على أدلة ما تعضد ما يقال، فسأكون أول من يدين حكومة بلادي، وسأطالبها بضرورة التوقف عن إمداد نظام معمر القذافي بهذه المساعدات ولو كانت عقال بعير، وخاصة أن هذا الأخير قام في بداية فتنته بإطلاق تصريحات مثيرة وعدائية استهدفت المؤسسة العسكرية الجزائرية، ولا أظن مطلقا أن من يلوم الأمم المتحدة على عدم التدخل في الجزائر خلال التسعينيات يمكن أن يلقى دعما وخاصة أن هؤلاء يتهمون مباشرة وعلى الهواء من يسمونهم "جنرالات الجزائر"...
كفانا إساءة... كفانا تزييفا... وكفانا من حصائد الألسن التي ما تزيدنا إلا تشرذما وما تقوي إلا الأعداء المترصدين لثرواتنا وثوراتنا، فالجزائري الذي خاض ثورة عملاقة ضد الحلف الأطلسي لا يمكن اليوم أن يكحّل عيونه أو يحني كفيه بدماء المسلمين والعرب وكل الأبرياء، كما لا يمكن أن يبارك غزواته ضد بلد جار وفي قتال بين الاشقاء مهما كانت مشروعية المطالب، كما أن الجزائري الذي ذاق ويلات الإرهاب وفقد فلذات أكباده ذبحا وتفجيرا وسحقا وسحلا، لا يمكن أبدا أن يقبل العودة لسنوات أخرى لا تختلف عن ذلك، والجزائري الذي يعتزّ بأصوله وشرفه وعرضه وكرامته وهويته ويمتنّ للموت في سبيلها لا يقبل ابدا أن يساء إليه سواء من طرف ثوار تمردوا على عقيدهم أو من عقيد يقنبل أبناء شعبه البسطاء والعزّل...