الفصل السابع
ملك اليمين
يثير الحاقدون على الإسلام موضوع تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته السيدة مارية القبطية .. ويزعمون أنه لو كان نبيّا حقًا ما فَعَلَ هذا !! ويستنكرون إباحة التمتع بملك اليمين في الإسلام . والرد على هؤلاء ميسور بإذن الله تعالى.
ونقول أولا : أن التمتع بملك اليمين – الجواري – كان موجودا في شريعة الأنبياء من قَبله عليهم جميعًا الصلاة والسلام .. فقد عاشر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام السيدة هاجر – المصرية أيضًا – بملك اليمين ، وأنجبت له سيدنا إسماعيل جد العرب وجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك كان لإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم - عليهم السلام - مئات من الجواري ، ولم يطعن أحد من الحاقدين عليهم بسبب ذلك!! فهل تمتعه صلى الله عليه وسلم بجارية وحيدة هي السيدة مارية – حسب الراجح من أقوال العلماء – يعدّ أمرًا غير حميد ؟! ولماذا لم يتفوّه أحد بكلمة ضد تمتع إخوته الأنبياء من قبل بالجواري ملك اليمين ؟!! إنه الحقد على الإسلام وحده والكراهية المقيتة لمحمد صلى الله عليه وسلم وحده .
ثم لنقارن حال السيدة مارية قبل وبعد الإسلام لنعرف مدى كذب الحاقدين وإنكارهم للحقائق الثابتة .
ماذا كانت السيدة مارية قبل الإسلام ؟ مجرد جارية من جواري المقوقس – كبير نصارى مصر في ذلك العهد – وكان له مئات من الجواري والعبيد غيرها ، ولكن الحاقدين يتجنّبون ذكر ذلك لأنهم لا يستهدفون سوى الإسلام .
كانت مارية واحدة من هؤلاء الجواري المسكينات، لا يعرفها أحد ، ولا يهتم بأمرها أحد . وكان أقصى ما سوف تناله-مثل غيرها من الجوارى- أن يعاشرها سيدها بمصر من حين إلى آخر بلا أية حقوق لها أو لأولادها الذين كانوا سيصبحون عبيدًا مع أمهم بلا ريب . أو كانت ستُبَاع لسيد آخر كما تُبَاع البهيمة أو المتاع ، وهكذا تنتقل من مالك إلى آخر . تعمل طوال النهار في كل الأعمال الشاقة ، وتجبر ليلاً على ممارسة الجنس مع سيدها ، أو مع آخرين ينزلون ضيوفًا عليه - كوسيلة من وسائل الترفيه - فضلاً عن تعرّضها للضرب والأذى- وربما القتل- بلا ضوابط أو حدود أو قيود . و أراد الله تعالى أن ينقذ السيدة مارية من هذا الإذلال والإهدار للآدمية ، وأن يخلّدها في العالمين ، فأهداها المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهنا انقلبت الأحوال بقدرة الله عزّ وجلّ من النقيض إلى النقيض . فقد أنزلها النبي عليه السلام في مسكن خاص كغيرها من نسائه ، وكان يجري عليها النفقة كالمأكل والملبس مثلهن سواء بسواء . ثم كان يحنو عليها ويقرّبها إليه ويعاشرها - مع باقي زوجاته- بمنتهى العدالة والنبل . وشاء الله عزّ وجل أن يُنْعم على السيدة مارية بما لم تحظ به حتى السيدة عائشة أحب زوجات النبي إلى قلبه . فقد ولدت السيدة مارية للنبي أحب أولاده وهو "إبراهيم" عليه السلام . والمعروف أن عائشة وحفصة وغيرهن من الحرائر من أزواجه لم ينجبن منه باستثناء السيدة خديجة رضي الله عنها التي كانت قد ماتت بمكة . وهكذا حظيت مارية رضي الله عنها بالقسط الأوفر من المحبة والتكريم باعتبارها أم "إبراهيم" الولد المحبّب إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أنها كانت الوحيدة التي جاءت من خارج جزيرة العرب . ومراعاة لبعدها عن قومها كان نبي الرحمة يؤنس وحشتها ويرفق بها لينسيها غربتها .
أم الولد
و من بركاتها أنها كانت سببًا في تشريع عتق "أم الولد" وهي الجارية التي تلد لسيدها ولو "سقطًا" أي جنينًا يقذفه الرحم ميتًا . ففور علمه صلى الله عليه وسلم بمولد ابنه إبراهيم من مارية قال صلى الله عليه وسلم : "أعتقها ولدها" رواه ابن ماجه ، والحديث عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" أيضا . وعند البيهقى أن النبي عليه الصلاة السلام قال للسيدة مارية " أعتقك ولدك". واستخدام صيغة الفعل الماضي في الروايتين " أعتقها" أو" أعتقك" يرجّح - في رأى كاتب هذه السطور- أنه عليه السلام قد أعتقها فور ولادة ابنه إبراهيم عليه السلام . أيضا لم يقل أحد أنه اعتزلها ، بل استمر في معاشرتها، وزادت مكانتها ومحبتها في قلبه. ومن المعلوم أنها اعتدّت – قضت فترة العدّة - مثل باقي زوجات النبي بعد وفاته ، وهذا دليل على أنه عليه السلام عاشرها حتى موته . و لأنه لا يجوز للسيد معاشرة من أعتقها إلا بالزواج منها – مثل أية امرأة حرّة – فإن هذا دليل لنا على أنه عليه السلام قد تزوّج بالسيدة مارية بعد عتقها- بمولد ولدها- والعلماء يقررون أن " أزواجه "أمهات المؤمنين اللاتي يشملهن تحريم الزواج بهن بعد وفاة النبي هن فقط كل من عقد عليهن الرسول صلى الله عليه وسلم - كزوجات- ودخل بهن بالفعل. والسيدة مارية رضي الله عنها لم تتزوّج بعده مطلقا ، وإذا كان عليه السلام قد جبر كسر أخواتها صفية وجويرية وريحانة بالعتق ثم الزواج ، فهل يتصوّر أحد أن يبخل أكرم ولد اّدم على أم "إبراهيم" أحب أولاده إليه بالزواج بعد أن أعتقها ولدها بنص الحديث ؟!! و لقد كانت عادة بعض العرب أن يعتقوا ثم يتزوّجوا أمهات الولد حماية لأطفالهم - حتى لا يعايرهم أحد برق أمهاتهم- فما بالك بأكرم الخلق أجمعين ؟!أليس هو أولى منهم جميعا بكل مروءة وهو الذي أرسله ربه ليتمّم مكارم الأخلاق؟! والثابت أيضا أنه عليه السلام لم يترك- لحظة وفاته – عبدا ولا جارية ولا دينارا ولا درهما كما روت كل كتب السيرة ، فقد بادر عليه السلام بعتق 63 نفسا في حياته- وهم كل من وصل إلى يده الشريفة من مماليك - فهل تنفرد السيدة مارية من بين كل هؤلاء بالبقاء في الرق حتى موته؟!! بل هي أولى من الجميع بتعجيل العتق ثم الزواج -على الأقل - تكريما لولده منها. وقد روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال : "أيّما أمة ولدت من سيدها فإنها حرّة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته" أخرجه ابن ماجة في كتاب العتق ، والدارمي في البيوع ، وأحمد في مسنده . وهذا الحديث نص على القاعدة العامة وهى تحرير أم الولد لحظة وفاة سيدها . ونلاحظ أن النص قد أورد أيضا استثناء هاما هو
إلا أن يعتقها قبل موته) وهذا هو الأفضل والأكمل –قطعا- والرسول صلى الله عليه وسلم هو الأولى به - بلا شك- فهو لا يفعل إلا الأوفر و الأكمل من كل خير. والخير التام لها هنا هو عتقها واتخاذها زوجة - بعد أن تقرّر تحرير أمهات الولد يوم مولد ابنه منها - فهي من أمهات المؤمنين. وعلى هذا يتأكّد ما رجّحناه من أنها تحرّرت بمولد ابنها ،وتزوّجها عليه السلام ، ولم يتأخر تحريرها إلى ما بعد وفاة سيدها كما هو معلوم من أحكام أمهات الولد.
وحتى لو كان الرأي الصحيح هو أنها بقيت ملك يمينه حتى مات صلى الله عليه وسلم ، فيكفى أنها نالت حريتها في الإسلام - على الأقل - وشرفت بالاقتران والإنجاب من سيد الأنام، وهو شرف لم تنله ابنة سيدها السابق- المقوقس- ولا ابنة كسرى أو قيصر .والله تعالى أعلى و أعلم.
تحرير الملايين
نلاحظ أيضا أن عقد ملك اليمين يكفل للجارية النفقة وحسن المعاشرة و قضاء حاجتها الفطرية إلى الرجل بطريق نظيف شريف ، فهو عقد شرعي مشابه لعقد الزواج ، ويحفظ لأولاد الجارية من السيد حقهم في الانتساب إلى أبيهم، ويكونوا أحرارا مثله، ولهم عليه كل حقوق النفقة والرعاية والميراث وغيرها، ثم تتحرر أمهم معهم بدورها.
فأية بركة تلك التي تسببت فيها سيدتنا مارية ؟! وأي خير عظيم أصاب عشرات الملايين من الجواري على مر العصور بسببها ؟! إنها لم تتحرّر وحدها بمولد إبراهيم فحسب ، بل حرّرت معها كذلك كل جارية تلد لسيدها ولو سقطًا غير مكتمل النمو . وتحرّر أيضا عشرات الملايين من أولادهن وبناتهن من السادة.
وهكذا نرى بوضوح الحكمة الكبرى في إباحة التمتع بملك اليمين في الإسلام.فقد يبخل السيد على الجارية بالعتق ، وقد يأنف من الزواج بها، وقد يتعذّر عليه الزواج بجاريته – إن أعتقها- لكونه متزوّجا بالفعل من أربع حرائر غيرها ، لكنه لا يريد فراقها ، أو لا يقبل أن يخسر الثمن الذي دفعه فيها. فاقتضى الأمر تشريعا إلزاميا يمنع السيد من بيع الجارية التي تنجب له ولدا ، ثم يفرض على الحاكم و الورثة تحريرها لحظة موت سيدها .
وتبدو الأهمية البالغة لهذا التشريع على ضوء ما ذكره المؤرخون من شيوع الرق في كل أنحاء العالم قبل مجيء الإسلام ، فقد كان أربعة أخماس البشر عبيدا وإماء للخمس الباقي!! فأراد الله تعالى أن تنتهي معاناة عشرات الملايين من الجواري المسكينات- وأولادهن- بتشريع تحرير "أم الولد" . ونظرا لعدم شيوع وسائل منع الحمل في ذلك الزمان ، فمن الطبيعي أن تلد معظم الجواري للسادة ، فحصلت الأغلبية الساحقة منهن على الحرية بموجب هذا التشريع الحكيم الرحيم الذي هو من بركات السيدة مارية.
ثم هناك أعظم نعمة نالتها السيدة مارية وهى اعتناقها للإسلام ، فآمنت بالله وحده ربا لا شريك له ولا ولد، وآمنت بنبيه الذي يحشرها الله معه في الجنّة زوجة له مع أخواتها الأخريات . ولم يكن هذا هو كل ما في حياة السيدة مارية من بركات .. فقد أبى الله إلا أن تكون مارية المصرية سبب خير وبركة وشرف عظيم لأهل مصر كلهم . روى الإمام مسلم- في فضائل الصحابة- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا) . وورد في شرح الحديث:" ورحمهم أن أم إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام منهم ، وأم إبراهيم ابن النبي عليه السلام منهم" انتهى.
وكفانا - كمصريين - فخرًا أن نكون أصهارًا للسيدين العظيمين إبراهيم ومحمد وأخوالاً لولديهما عليهم جميعا صلوات الله وسلامه . و كانت للسيدة مارية منزلة في قلب النبي غارت منها بسببها كل زوجاته.. تقول السيدة عائشة : "ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية ، وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة – مكتملة الخلقة – وأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا ، فكان الرسول عامة الليل والنهار عندها حتى فرغنا لها- تشاجرن معها- فجزعت مارية فحوّلها عنا إلى العالية – مكان آخر - فكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا ، ثم رزقه الله منها الولد وحرمنا منه" . .وكلمات السيدة عائشة واضحة الدلالة على عظيم نعمة الله ورسوله على السيدة مارية التي كانت جارية لا قيمة لها قبل الإسلام - جبرًا لخاطرها ورفعًا لشأنها- و باستثناء السيدة خديجة لم تحصل الزوجات الحرائر - ومنهن ابنة أبى بكر وابنة عمر - على مثل هذا الفضل!!. ولله في خلقه شئون.
عتاب إلهي
وقد عاتب الله رسوله بسبب السيدة مارية . فقد جامعها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة في بيت زوجته حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فغضبت السيدة حفصة وحزنت أشد الحزن ، وقالت لزوجها عليه السلام : "ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا لهواني عليك"، فلم يجد الزوج الحنون الرحيم ما يُطَيِّب به خاطر زوجته إلا أن يُحَرِّم على نفسه أن يقرب أم ولده السيدة مارية ، وحلف لحفصة ألا يقربها . فنزل في ذلك قوله تعالى : ) يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. ( (التحريم : 1) . قال العلماء أن الله تعالى أعلم نبيه أن وطء جاريته حلال له ، ولا يجوز له أن يُحَرِّم ما أحل الله له على نفسه ، وكل ما هنالك أن الرجل إذا قال لامرأته أو جاريته : أنت حرام عليَّ فإن عليه الكفّارة، ويحل له مجامعتها بعد ذلك . وهكذا جعل الله تعالى من السيدة مارية سببًا أيضا في رفع الحرج عن كثير من الزوجات اللاتي يتلفظ أزواجهن بمثل هذه الكلمة ، فيظنون أن العلاقة الزوجية قد انتهت بذلك ، فأعلم الله الجميع أن هذه الكلمة هي مجرد يمين يكفّرها الرجل ، وعليه كفارة الظهار المغلّظة وهي تحرير رقبة – عتق عبد أو جارية – إن نوى بها الظهار طبقا للراجح من آراء العلماء التي بلغت 18 رأيا أوردها الإمام القرطبي رضي الله عنه في تفسيره للآية الأولى من سورة التحريم . وروى الإمام الدارقطني في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إليه فقال : إني جعلت امرأتي عليّ حرامًا ، فقال له ابن عباس :كذبت ليست عليك بحرام، وتلا الآية الأولى من سورة التحريم ، ثم قال للرجل : عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة .
وقال جماعة من المفسرين أنه لما نزلت هذه الآية كَفَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى معاشرة السيدة مارية عليها السلام ، أورده زيد بن أسلم وغيره طبقا لرواية القرطبي في تفسيره . وهكذا تحرّرت بسبب السيدة مارية أعداد أخرى هائلة من العبيد على سبيل الكفارات .
وسوف تتلى -إلى يوم القيامة- تلك الآيات التي نزلت بسببها ، كما لا يخلو كتاب واحد من كتب التفسير أو الحديث أو الفقه أو السيرة على مرّ العصور من ذكر اسمها.
فهل كانت كل تلك البركات لتحدث لولا اقتران السيدة مارية بالحبيب محمد صلى الله عليه و سلم ؟!
وهل اجتمعت تلك المفاخر والمآثر لامرأة أخرى سواها ؟!!(67)