الفصل السادس
زوجات الرسول ( )
ذكرنا من قبل أن أعداء الإسلام ( منذ بزوغ فجره وحتى اليوم ) يحاولون باستماتة النيل منه والطعن فيه باستغلال تعدد زوجات النبي ( ) ..
زعموا أن نبي الإسلام كان منصرفا إلى إشباع شهوته بالتقلّب في أحضان تسع نساء !! قالها يهود يثرب من قبل (43) .. فرد عليهم القرآن الكريم ردا بليغا وبيّن أنهم فعلوا ذلك حسدا للرسول ( ) ، على الرغم من أن إخوته إبراهيم وإسحاق ويعقوب و داود وسليمان وغيرهم – عليهم السلام – كان لكل منهم العديد من الزوجات ، وكان لداود وسليمان - تحديدا - أضعاف ما كان لمحمد ( ) من الزوجات والجواري.
ومازال المستشرقون في الخارج والعلمانيون واليساريون في الداخل يتطاولون بوقاحة على المقام الشريف والسنة المطهرة ، كيدا منهم لهذا الدين ، والله يحفظه – رغم أنوفهم – إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وهناك آخرون لا يعلمون بواعث تعدد زوجات الرسول ( ) ..
ومن يطالع السيرة العطرة سوف يكتشف بسهولة أن بعض هذه الزيجات كان في المقام الأول تلبية لدوافع إنسانية ، والبعض الآخر كان لتأليف القلوب ، وتطييب النفوس ، وتمهيد الأرض للدعوة المباركة بالمصاهرة وجبر الخاطر .
ولا ننسى أيضا حقه الطبيعي ( ) في الزواج ، لأنه بشر مثلنا وليس من الملائكة .
وكل الزيجات كانت لحكم عظيمة و للتشريع وتعليم الأمّة كما سنوضح بالتفصيل فيما بعد.
و زوجة واحدة لم تكن لتقدر على نقل كل سنّته الشريفة ، وسائر أحواله داخل بيته إلى الأمة لتقتدي به ،فكان لزاما أن تتعدّد زوجاته صلى الله عليه وسلم ،ليعلّمن البشرية كلها بعد وفاته كل ما لم يطّلع عليه غيرهن . والدليل الواضح هنا أن أكثر زوجاته علما ورواية -وهى السيدة عائشة رضي الله عنها - لم ترو عنه إلا حوالي ألفى حديث ، ورغم أن هذا رقم كبير ، إلا أنه ليس إلا قطرة من بحر السنّة المطهّرة . فالمتداول في كتب السنن يبلغ عشرات الألوف من الأحاديث الشريفة ، ولم يكن كافيا- إذن- زوجة واحدة ولا صحابي واحد لحفظ و نقل هذه الثروة الهائلة من كنوز الحديث النبوي إلى العالمين . إنه عمل هائل جبار احتاج إلى فريق كبير ضم ألوفا من أكابر علماء الصحابة ثم الألوف من علماء التابعين ثم الألوف من علماء تابعي التابعين ومن بعدهم على مرّ العصور، فهل كانت تطيقه امرأة واحدة ؟!!
ثم نتساءل : ألا يحتاج الرجل الشهواني إلى خلو البال من أية مشاغل أو هموم أو أعباء ليمارس الجماع بإفراط كما يزعمون ؟!! فهل يظن أولئك الحمقى أن أعباء الرسالة العظمى والجهاد المتواصل ليل نهار- لإبلاغ الدعوة المباركة إلى الناس كافة عربا وعجما- تترك لصاحبها مجالا للإكثار من الجماع على النحو الذي تتخيّله عقولهم المريضة ؟!! ألا تتطلب الشهوة توافر الطعام الجيد والفراش الناعم المريح ليقدر الزوج على الجماع الكثير ؟ فهل كان ذلك متاحا لسيد الخلق ؟!
ألم تجمع كل كتب السيرة والتاريخ – بما فيها تلك التي كتبها المنصفون من غير المسلمين- أنه عليه الصلاة والسلام لم يشبع من خبز الشعير حتى لقي ربه ؟!!
أين الاستكثار من الشهوات في حياة زاهد متقشف – بإجماع المؤرخين – كان أهله لا يوقدون نارا لطهي الطعام في بيته الشهر تلو الشهر ، ولم يكن لهم من قوت معظم الوقت إلا الأسودان التمر والماء كما روت سيدتنا عائشة رضي الله عنها ؟!
وكانت حجراته مبنيّة من الطين وسقوفها من - سعف – جريد النخيل وأبوابها من الشعر – وبر الإبل أو شعر الماعز - وكان عليه السلام ينام على حصير متواضع ترك أثرا في خده الشريف حتى بكى عمر رضي الله عنه- إشفاقا عليه - عندما رآه على هذا الحال؟!!فهل هذا شأن من تشغله الشهوات وحطام الحياة الفانية ؟!! ثم من أين له بالوقت اللازم للجماع المتواصل –كما يزعمون - وهو الذي كان مشغولا دائما بأعباء الرسالة نهارا ، مع الصيام أكثر الأيام ، وليلا بالقيام لرب الأنام ، إلى أن تتورم – منه ومن زوجاته - الأقدام ، عليه أزكى الصلاة و أعطر السلام ؟!!
وأقوى دليل على ما نقول أن أمهات المؤمنين غلبهن الطابع البشرى ذات مرة - بعد أن اشتدّ عليهن الحرمان والفقر والتقشف - فطالبنه صلى الله عليه وسلم بالنفقة ،فاعتزلهن عليه السلام شهرا ، ونزل فيهن قوله تعالى
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا)سورة الأحزاب الآية 28، فأخبرهن صلى الله عليه وسلم بما نزل ، وخيّرهن بين الطلاق مع كل التكريم و إعطائهن نفقة المتعة و العدة أو البقاء معه على ما هو فيه من زهد وتقشف وحياة فقيرة قاسية ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة . (44)
وقد أشرنا من قبل إلى أن الزواج هو شريعة كل أنبياء الله ( حتى من لم يتزوج منهم مثل عيسى ويحيى عليهما السلام ) وأنه لا يوجد نص في الأناجيل الأربعة يحظر تعدد الزوجات (45).
ومن استعراض تراجم أمهات المؤمنين في المصادر المختلفة نلاحظ أن إحدى عشر منهن كن من الأرامل !! وواحدة كانت مطلّقة- زينب بنت جحش - وواحدة كانت جارية قبل اقترانها بسيد البشر – مارية - ولم تكن بينهن " بكرا" سوى أمنا عائشة التي كانت تفخر على الأخريات بذلك كما هو معلوم من كتب السيرة .
فهل يتزوج صاحب الشهوات عشرا من الأرامل ومطلّقة وجارية ، ويترك مئات الألوف من العذارى في جزيرة العرب وما حولها ، وقد كانت جميع القبائل تعرض عليه بناتها - حرصا على شرف مصاهرته - كما ثبت من كل مراجع السيرة ؟!!
ولو أنه كان ذلك الشخص الذي يزعمون لسارع بانتهاز فرصة ما عرضه المشركون عليه في مكة من قبل ، وهو أن يجعلوه ملكا عليهم ، و يجمعوا له من الأموال والنساء ما يشاء حتى يكون أغناهم وأكثرهم نساء بشرط أن يتخلى عن دعوته إلى الله . لكنه عليه السلام رفض تماما لأنه صاحب رسالة وليس طالب دنيا. .
ولنبدأ الآن بأولى زوجات المصطفى ( ) ، وهى سيدتنا خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها وأرضاها – فقد تزوّجت في الجاهلية من هند بن النباش التميمى وكنيته أبو هالة .. وبعد موته تزوّجت عتيق بن عابد المخزومى (46) .. ثم مات عنها عتيق .. وكانت من أرفع بيوت قريش وأوسطها نسبا وحسبا . وكان لها مال ترسل رجالا من قومها يتاجرون لها فيه .. ولما سمعت بأمانة محمد - عليه الصلاة و السلام - أرسلت إليه ليتاجر لها في مالها ، على أن تعطيه ضعف ما كانت تعطى غيره من الأجر .
ورحل ( ) بمالها مع غلامها ميسرة إلى الشام ، فباع واشترى وعاد إلى مكة بأضعاف ما كانت تربح من قبل .. وأعطته السيدة خديجة ضعف الأجر المتفق عليه .. وحكى لها ميسرة ما كان من معجزاته عليه السلام خلال الرحلة : فقد أظلّته غمامة ، وأخبر أحد الرهبان ميسرة بأن رفيقه محمدا سيكون النبي الخاتم الذي بشّرت به كتب السابقين ، فازدادت إعجابا به ، وأرسلت إليه صديقتها نفيسة بنت منية تعرض عليه الزواج من خديجة التي كان عمرها في ذلك الوقت أربعين سنة ..فوافق عليه السلام ، وكان عمره وقت أن تزوجها خمسا وعشرين سنة .
وولدت له السيدة خديجة كل أولاده وبناته باستثناء إبراهيم ولده من مارية القبطية ( الجارية التي أهداها المقوقس إلى النبي ) ولم يتزوج ( ) بأخرى حتى ماتت السيدة خديجة عن خمس وستين سنة ، بينما كان عليه السلام قد تخطى الخمسين سنة ، ولم يتزوج بعدها إلى أن بلغ السنة الثالثة أو الرابعة والخمسين من عمره الشريف .
والآن نتساءل : إذا كان نبي الرحمة ( ) قد عاش بلا زواج حتى سن الخامسة والعشرين .. ولم يكن أهل مكة يعرفون عنه إلا كل نبل وشرف و خير ، وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين .. وكانت طهارته وعفته مضرب الأمثال – باعتراف أعتي المشركين وأشدهم عداوة له وحقدا عليه ..وإذا كان تزوج بعد ذلك من السيدة خديجة وهى أرملة أكبر منه بخمس عشرة سنة ، وظل مكتفيا بها زوجة وحيدة حتى ماتت بعد أن تجاوزت الخامسة والستين ، وتجاوز هو الثالثة والخمسين من عمره الشريف.. فأين ما يزعمون من حبه للشهوات واستكثاره من النساء ؟! وهل يصبر الرجل الشهواني على هذا الوضع مع أرملة عجوز ، ويظل بلا زواج من أخرى حتى تفنى سنوات شبابه على هذا النحو ؟!!
لقد كان عليه السلام في تلك الفترة في ريعان شبابه ، ولم يكن قد انشغل بعد بأعباء الدعوة المباركة وتبعاتها الثقيلة ، ولو كان – كما يزعم أعداء الإسلام – من ذوى الشهوة الطاغية لتزوج من شاء من النساء ، وقد كان تعدد الزوجات والجواري شائعا في الجاهلية بلا قيد كما ذكرنا (47) .وما كان ذلك عيبا ولا محظورا عند أحد . فلماذا لم يفعل ( ) ؟!أليس هذا دليلا على أنه ( ) قد عدّد زوجاته فيما بعد لأسباب أخرى أسمى وأنبل من مجرد إشباع الشهوة ، رغم أن هذا الإشباع بالزواج ليس عيبا ولا شائنا عند الجميع ؟!و هناك نقطة أخرى .لقد كان عليه السلام يذكر السيدة خديجة بكل الخير والوفاء بعد موتها .. وحتى بعد أن صار له نسوة غيرها.. كان يغضب إذا أساءت عائشة- أحب زوجاته - إلى ذكراها العطرة . ويذكر عليه السلام في كل مناسبة معروف خديجة وفضلها عليه وعلى الدعوة الغراء ، ولم ينسها رغم أنها كانت عجوزا ، ورزق بعدها بزوجات أصغر سنّا ، وربما أكثر جمالا.. مثل هذا الزوج هل يمكن أن يقال عنه إنه يضع الشهوة الجنسية في المقام الأول ؟!!و هل يصدق مثل هذا الظن المريض بمن قال فيه ربه: ) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (سورة القلم الآية 4.
وكذلك شاء الله تعالى أن تتعلم البشرية الكثير من هذه الزيجة المباركة . فقد أرست مبدأ إباحة زواج الرجل بمن هي أكبر منه سنّا ، و زواج المرأة بمن هو أصغر منها سنّا ، وكذلك عدم الاعتداد بالتفاوت بين الجانبين في الثراء المادي ، وكانت سعادتهما معا دليلا واضحا على أن العبرة في تحقيق السعادة الزوجية هي بالصلاح والمودة والتراحم والتفاهم والانسجام والتعاون المثمر لخير الجميع.، ولا قيمة للمال أو عمر أحد الطرفين أو أي عامل دنيوي آخر . وكذلك علّمت أمنا خديجة النساء وأوليائهن جميعا أنه لا عيب ولا مكروه في أن تخطب المرأة الرجل الصالح لنفسها ولو لم يفاتحها هو أولا ، وذلك بأن ترسل إليه من تثق بأمانته في نقل الرغبة في الزواج كما فعلت هي. كما تعلّم الجميع –جيلا وراء جيل- أنه لا غضاضة في أن يقيم الرجل مع زوجته في بيتها إن كان ذلك بالتراضي .
وأهم من كل ذلك أنها كانت أول من أسلم لله الواحد الأحد ، و علّمت نساء العالمين كيف تساند المرأة الصالحة زوجها العظيم صاحب الرسالة بنفسها ومالها و أهلها ، وكيف تثبّت فؤاده و تهدّىء من روعه ،وتعينه على التفرّغ لرسالته العظمى ، ولا تشغله بتوافه الأمور المنزلية أو المعيشية عما هو أسمى و أبقى وأنفع للبشرية كلها.وقد اشترت رضي الله عنها عشرات من العبيد الذين كانوا يقاسون الأهوال من سادتهم طواغيت الشرك عقابا لهم على دخولهم في الإسلام، وأعتقتهم لتنقذهم من هذا البلاء، وأنفقت كل ثروتها في سبيل الله ..ولهذا أبلغ سيدنا جبريل النبي- صلى الله عليه وسلم – السلام من الله عليها ، وبشّرها بالجنّة رضي الله عنها وأرضاها.(48).
ونأتي إلى ظروف اقترانه ( ) بثانية زوجاته السيدة سودة بنت زمعة – رضي الله عنها – فقد كانت متزوجة في الجاهلية بالسكران بن عمرو بن عبد شمس ، وهو ابن عمها ، وأسلما بمكة وخرجا مهاجرين إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية .. ثم قدما من الحبشة ، ومات السكران بمكة ، وترملت زوجته السيدة سودة ، فلما انقضت عدتها أرسل لها النبي ( ) فخطبها وتزوّجها بمكة ، وهاجرت معه إلى المدينة .
وكانت – رضي الله عنها – قد كبرت سنها ، وبعد فترة من زواج الرسول ( ) بها تنازلت عن ليلتها للسيدة عائشة ، وقالت كما جاء في إحدى الروايات : يا رسول الله ، والله ما بي حب الرجال – تقصد أنها مسنّة وليست بها حاجة إلى الرجال – ولكني أرجو أن أبعث في أزواجك يوم القيامة . وقبل منها النبي ( ) تنازلها للسيدة عائشة ، وأبقى عليها زوجة في عصمته حتى موته ( ) (49) ..
فهل يكون اقترانه – عليه الصلاة والسلام – بعجوز أخرى دليلا على ما يذهب إليه أعداء الله ورسوله من أن تعدد زوجاته ( ) كان للشهوة أو حب النساء ؟!! أم أنها مواساة منه – عليه السلام – لأرملة مسلمة لم يعد لها عائل بعد موت رجلها المسلم السابق إلى الإسلام ثم المهاجر و المجاهد- وليس لها مال أو شباب أو جمال يدفع غيره ( ) للزواج منها ؟!!أليس من المروءة والنبل أن يكرم صاحب الخلق العظيم تلك المؤمنة السابقة إلى الإسلام والهجرة إلى الحبشة بعد أن تبدّل بها الحال ومضى عنها الزوج والمال و الشباب والجمال؟! والله إن مثل هذه الزيجة التي لا يطمع فيها أحد هى بعض أعبائه عليه السلام ، وواجب ثقيل ألزم به نفسه الشريفة النبيلة ( ) ومن سواه يواسى الأرملة الفقيرة الحزينة ؟ من سواه يجبر المكسور ، ويفك الأسير ، ويعين على شدائد الدهر ، وهو الذي أرسله ربه رحمة للعالمين ؟!!
و في ذات الوقت يعلّم صلى الله عليه وسلم البشرية كلها كيف تكون رعاية الضعفاء في المجتمع بكفالة الأرامل، والزواج بهن هو أكرم وأطهر السبل لرعايتهن وأطفالهن .
وأما السيدة عائشة بنت الصديق أبى بكر – رضي الله عنهما – فهي الزوجة الثالثة لنبي الهدى ( ) .. ومن الطبيعي أن يرتبط الداعية بالرجال الذين يقوم على أكتافهم البناء العظيم ، وتنتشر الدعوة بهم ، ومن خلالهم إلى سائر إرجاء المعمورة .. وخير الروابط بين النبي وكبار أصحابه هو الرباط المقدس ( الزواج ) .. ولهذا تزوّج عليه السلام من السيدة عائشة ،دعما للأخوة الخالدة مع الصدّيق- ثاني اثنين في الغار- وكانت صغيرة السن . وهنا أيضا تتعلّم البشرية درسا أخر هو إباحة زواج الرجل بمن هي أصغر منه سنّا بكثير ، و إباحة زواج المرأة بمن يكبرها سنّا أيضا ، فالعبرة في تحقيق السعادة الزوجية ليست بالسن، كما ذكرنا عند الكلام على زواجه عليه السلام من السيدة خديجة رضي الله عنها. وكذلك جعل الله تعالى في السيدة عائشة خيرا كثيرا للبشرية كلها، إذ كانت أحد أعظم أوعية العلم النبوي الشريف ،وروت أكثر من ألفى حديث ، وكان أكابر الصحابة يتعلمون منها ، وبسببها نزلت آيات كثيرة تتلى إلى يوم القيامة بما فيها من أحكام عظيمة.
كما تزوج أيضا لذات السبب-تقوية الروابط مع أصحابه- من السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما ..وهناك سبب ثان لزواجه ( ) من السيدة حفصة ، فقد كانت متزوّجة قبله من خنيس بن حذافة السهمي الذي أسلم معها وهاجر بها إلى المدينة فمات عنها ( عند قدوم النبي ( ) من غزوة أحد ) متأثرا بإصابته في الغزوة (50) وعندما انقضت عدّتها عرض عمر على أبى بكر الصديق أن يزوّجه ابنته حفصة ، فسكت أبو بكر ، مما أغضب عمر – رضي الله عن الجميع – وكان عمر قد عرضها من قبل على عثمان بن عفان فلم يوافق كذلك ، مما أسخط الفاروق عليه كما سخط على صاحبه ، فجاء عمر يشكوهما إلى النبي ( ) ..
وطيّب ( ) خاطره وتزوّجها تكريما لعمر ، كما كرّم أبا بكر من قبل وتزوج بابنته عائشة .وكان في الزيجة تكريم أيضا للزوج الشهيد خنيس رضي الله عنه برعاية أرملته من بعده.
. وكان الباعث لأبى بكر على عدم قبول الزواج من حفصة أنه سمع النبي ( ) يذكرها لنفسه ، وما كان الصدّيق ليفشى سر رسول الله ، أو يتزوّج بمن عزم ( ) على الزواج منها ..
ومن المعروف أن السيدة حفصة – رضي الله عنها – لم تكن جميلة مثل عائشة أو صفيّة أو جويرية ، لكنها كانت صوّامة قوّامة (51) تحب الله ورسوله (52)
فهل يكون الزواج في حالة السيدة عائشة والسيدة حفصة استكثارا من النساء ، أو جريا وراء الشهوات ؟!! أم هي ضرورات الدعوة ، وجبر الخاطر ، وتوكيد الروابط بين المصطفى ( ) وكبار رجال الدعوة الوليدة
والرأفة بزوجة شهيد – مثل حفصة – لم يكن لها من الجمال أو المال ما يغرى غيره عليه السلام بالزواج منها ؟!!
إنه الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة – عليه الصلاة والسلام ..
هناك أيضا ظروف زواج الرسول الأمين من السيدة زينب بنت خزيمة الملقّبة بأم المساكين – رضي الله عنها – فقد كانت زوجة لابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف – رضي الله عنه – الذي استشهد يوم بدر وتركها وحيدة لا عائل لها ..
فهل يكون جزاء الصحابي وابن العم الشهيد أن تترك أرملته وحدها ؟!! ومن يصل الرحم ، ويجازى الشهيد ، ويخلفه في أهله بكل البر والخير والرحمة سوى الصادق الأمين خاتم المرسلين ( ) ؟!!
وهل مثل هذه الزيجة يكمن خلفها أي مطمع حسي أو غيره ؟! أم أنها واجب وعبء إضافي على عاتق المصطفى ( ) ؟!! وقد ماتت – رضي الله عنها – بعد زواجها من الرسول بعدة أشهر .
وكذلك جاء زواجه ( ) من السيدة أم سلمة – رضي الله عنها – واسمها (( هند بنت سهيل بن المغيرة- ولقبه "أبو أمية" - المخزومى .. وقد أصيب زوجها "أبو سلمة" رضي الله عنه يوم أحد ، ثم برئ الجرح بعدها بشهر .. وخرج في (( سرية قطن )) ثم رجع منها بعد شهر آخر ، وانتقض الجرح عليه فتسبب في استشهاده – رضي الله عنه – وخلف وراءه أرملته أم سلمة وكثرة من الأطفال اليتامى..
فلما انقضت عدتها أرسل إليها النبي ( ) يخطبها ، فاعتذرت بأنها كبرت في السن ، وأنها ذات أطفال ، وأنها شديدة الغيرة ، فرد عليها البشير النذير : (( أما ما ذكرت من غيرتك فيذهبها الله .. وأما ما ذكرت من سنّك فأنا أكبر منك سنّا ... وأما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله )) . (53) أي أن عيالها سوف يرعاهم الله ورسوله ( ) ، وهذا من أهم أهداف هذه الزيجة المباركة - كفالة هؤلاء الأيتام - فضلا عن رعاية الصحابية الجليلة السابقة إلى الله ورسوله بعد أن أصبحت أرملة ..
وأخيرا جاءت هذه الزيجة تكريما للزوج أبى سلمة نفسه بعه استشهاده ، برعاية أرملته وأطفاله ، وصلة لرحمه ، فهو ابن عمة الرسول ( ) .. فأين إتباع الشهوة في مثل هذا الارتباط بأرملة تجاوزت الخمسين وذات أطفال ؟!!ثم شاء الله تعالى أن تلعب السيدة أم سلمة دورا عظيما في حفظ السنن و أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده . فقد عاشت عمرا طويلا مباركا و روت عن زوجها الحبيب الكثير من الأحاديث ، وكانت شديدة الذكاء والحكمة ،غزيرة الثقافة ، تجيد القراءة و الكتابة. و قد جعل الله تعالى حكمتها سببا في إنقاذ الإسلام والمسلمين من موقف عصيب يوم الحديبية ، حيث أشارت بالرأي السديد على النبي صلى الله عليه وسلم ،ونصحته بأن يخرج فيحلق رأسه وينحر ذبيحته للتحلل من الإحرام في مكانه بعد أن منعه المشركون من أداء العمرة ، ورفض أصحابه الشروط الظالمة التي اشترطها الكفّار.. و أخذ عليه السلام بمشورتها الصائبة فحلق شعره ونحر ذبيحته ، وما أن رآه الصحابة يفعل ذلك حتى عادوا إلى الرشد وقاموا فحلقوا وذبحوا مثله، ثم عاد الجميع إلى المدينة بدون قتال . وبذلك كان الرأي الرشيد من أم سلمة رضي الله عنها سببا في حقن الدماء وإنقاذ الإسلام والمسلمين من فتنة خطيرة الله وحده الذي يعلم عواقبها
وأما زواجه ( ) بالسيدة أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان بن حرب – رضي الله عنها – فله قصة توضح الهدف منه ، والمقاصد النبيلة الذي تحققت به .. فقد كانت أم حبيبة زوجة لعبيد الله بن جحش ، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية .. وهناك فتن عبيد الله وارتد عن الإسلام – والعياذ بالله – وثبتت السيدة أم حبيبة – رضي الله عنها – على دينها رغم الغربة والوحشة والوحدة . ولم تكن تستطيع الرجوع إلى مكة حيث كان أبوها "أبو سفيان" أحد زعماء قريش يضطهد الرسول وأصحابه أشد الاضطهاد ، فلو رجعت أم حبيبة لتعرضت للفتنة في دينها بدورها .. وكان لا بد من رعايتها وتكريمها وتعويضها عن الزوج الذي هلك بالحبشة ..
وهكذا أرسل جابر المكسورين ، ومؤنس المستوحشين إلى النجاشي ملك الحبشة – وكان قد أسلم – طالبا منه أن يعقد له على أم حبيبة .. وبالفعل زوّجه النجاشي إياها ، ودفع النجاشي مهرها من ماله الخاص تكريما للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أرسلها إليه بالمدينة بعد هجرته ( ) معزّزة مكرّمة ..ولما بلغ أبا سفيان خبر زواج النبي ( ) من ابنته أم حبيبة شعر بالسعادة ، وقال عن زوج ابنته مبتهجا –رغم أنه كان ما يزال عدوا له ولدينه- : (( هو الفحل لا يقرع أنفه )) (54) .. أي أن مثل النبي ( ) لا يرد صهره ، فهو كفء كريم تتشرّف كل قبيلة بمصاهرته وتزويجه.قال أبو سفيان ذلك مع أنه كان ما يزال مشركا عدوا للإسلام ، لأنه لم يستطع أن يخفى سروره ، ولم يخدع نفسه كأب تزوجت ابنته بأعظم وأشرف الرجال ..ومن المؤكد أن هذه المصاهرة قد أرضت غريزة "حب الفخر" في نفس زعيم المشركين ،ولعبت دورا فعّالا في تخفيف عدائه للإسلام والمسلمين تمهيدا لدخوله هو نفسه في الإسلام بعدها بقليل.وشاء الله جلت قدرته أن تدور الأيام ، ويأتي أبو سفيان إلى المدينة محاولا إثناء النبي ( ) عن غزو مكة بعد أن نقض المشركون عهودهم ، واعتدوا على حلفائه من قبيلة خزاعة ، وقتلوهم في الحرم في الشهر الحرام .ولم يجد أبو سفيان ملجأ بعد أن رفض كبار الصحابة التوسط له عند النبي ( ) سوى بيت ابنته. وفوجئ أبو سفيان بابنته تطوى عنه الفراش في ضيق واشمئزاز .. فسألها : والله يا بنية ما أدرى هل رغبت بالفراش عنى أم رغبت بي عنه ؟!! فردت عليه بحسم : (( بل هو فراش رسول الله ( ) وأنت رجل مشرك )) ..
يا الله .. إنها العقيدة الراسخة كالجبال في قلب زوجة المصطفى ( ) ، تواجه بها أباها الذي خرجت من صلبه .. وذلك هو الإيمان الحق الذي يجعل الله ورسوله أحب إلى المسلم الصادق من أمه وأبيه وابنه وصاحبته وأخيه .
هل كان المطلوب من الرسول أن يترك مثل هذه السيدة العظيمة للضياع بين زوج هالك مرتدّ وأب كافر ألدّ ؟!! ومن سواه ( ) أولى بأن يكرم مثواها ، ويجزيها على ثباتها وصبرها وجهادها في سبيل عقيدتها ورسالتها ؟!! ومن يكون مناسبا لابنة سيد قريش سوى سيد الأولين والآخرين ؟!!
ونأتي إلى قصة زواجه ( ) من السيدة زينب بنت جحش الأسدية – رضي الله عنها – وهى ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف .. أي أنها من أعرق وأشرف بيوت قريش وأرفعها حسبا و نسبا.. وكانت - فيما يقال - فائقة الجمال ..
وعندما أرسل النبي ( ) يخطبها ظن أهلها أنه يريدها لنفسه ، ثم فوجئوا به يطلبها لزيد بن حارثة .. كان زيد – رضي الله عنه – قد تعرّض للخطف ثم الرق في الجاهلية ، وانتهي به المطاف عند الصادق الأمين محمد بن عبد الله ( ) الذي أكرم مثواه . وبلغ من تأثير عطفه وحنانه على زيد أن فضّله زيد على أبيه وعمه ( لما خيّره بين البقاء معه أو اللحاق بأبيه وعمه عندما عثرا عليه ، وجاءا في طلبه) .. وهنا أشهدهم النبي ( ) أن زيدا ابنه يرث كلاهما الأخر فرضي أبوه وعمه بذلك .
وعلى الرغم من أن الرسول ( ) أعتق زيدا وتبنّاه ، ثم أبطل الإسلام التبني فاسترد زيد اسمه الأول ( وحريته من قبل ) ، فإن آل جحش رفضوا أن يزوّجوه ابنتهم وهى من فتيات قريش المعدودات اللاتي يتنافس خيرة شباب العرب للفوز بهن ..ولكن الله تعالى شاء أن يمضى هذا الزواج لحكمة كبرى ، بل لعدة مقاصد : أولها أن يهدم التفاخر بالأنساب ، ويثبّت القاعدة الخالدة الراشدة ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وليس أغناكم أو أعرقكم نسبا أو أفضلكم حسبا .ونزل قوله تعالى ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينا ً( .(55) وفور نزول هذه الآية الكريمة عرف عبد الله بن جحش وأخته زينب – رضي الله عنهما – أنه لا محيد لهما عن طاعة الله ورسوله ، فقال عبد الله لابن خاله عليه السلام: مرني بما شئت ، فتزوّجها ( ) زيد
وعلى الرغم من إتمام الزواج ظلت زينب تستعصي على زيد ، وتتفاخر عليه بحسبها ونسبها ، حتى ضاق – رضي الله عنه – بها ذرعا ، وذهب إلى النبي ( ) يستأذنه في تطليقها ، لاستحالة العشرة بينهما ، فأمره النبي أن يتق الله ويمسك عليه زوجه فلا يطلقها ..
في ذلك الوقت أطلع الله تعالى رسوله على ما سوف يحدث ، وهو أن (زيد ) سيطلّق (زينب) ، ثم يزوّجها الله رسوله الأمين ، ليهدم بذلك قاعدة التبني التي سادت في الجاهلية ، إذ الأعدل و الأصوب هو أن ينسب كل ابن لأبيه الحقيقي ، وليس لذلك الذي تبنّاه .. وإذا كان الإسلام يحرّم إلى الأبد زواج الأب من امرأة ابنه ، فالأمر ليس كذلك في حالة الابن بالتبني ، إذ هو ليس ابنا حقيقيا ، وما ينبغي أن يكون .
ونزل قول الله تعالى : وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً الآية 37 من سورة الأحزاب .
وأفضل تفسير لهذه الآية الكريمة وأقربه إلى ما يليق بمقام النبوة الشريف النبيل ، وما هو مقطوع به من عصمة الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – ما قاله الإمام على بن الحسين بن على بن أبى طالب الملقب يزين العابدين - رضي الله عنه- الذي روى: (( أن النبي ( ) كان قد أوحى إليه أن زيدا سوف يطلق زينب ، وأن الله سيزوّجها رسوله. فلما شكا زيد للنبي ( ) ما يلقى من أذى زوجته ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه أنه يريد طلاقها ، قال له الرسول ( ) على جهة الأدب والوصية : (( اتق الله وأمسك عليك زوجك )) .. وهو ( ) يعلم أنه سيفارقها ، ثم يتزوجها هو من بعده ، وهذا ( العلم ) هو ما أخفاه ( ) في نفسه ، ولم يرد أن يأمره بطلاقها .. فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من خشية الناس في شئ قد أباحه الله له ، وقوله لزيد (( أمسك عليك زوجك )) ، مع علمه بأنه سيطلّقها ، وأعلمه سبحانه أن الله أحق بالخشية في كل حال .قال علماؤنا رحمهم الله : (( وهذا القول أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية ، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسّرين و العلماء الراسخين ، مثل الزهري وبكر بن علاء القشيرى وأبو بكر بن العربي وغيرهم (56) ويعلق الإمام القرطبى على تلك الرواية الشاذة التي تفسّر قوله تعالى للرسول : ( وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) . بأنه ( ) أخفى في نفسه هوى لزينب ، قائلا " هذا القول يصدر عن جاهل بعصمة النبي ( ) عن مثل هذا "(56).
. ورفض الإمام ابن كثير – رضي الله عنه – كل رواية أخرى لا تناسب عصمة الرسول و مقام النبوة الرفيع ، إذ هي من الموضوعات ومما لا يصح سنده ولا معناه . (57)
وقال الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول : " على بن الحسين جاء بهذا ( التفسير السليم للآية ) من خزانة العلم جوهرة من الجواهر ، ودرا من الدرر ، فإنه إنما عتب الله عليه أنه أعلمه أن هذه ستكون من أزواجه ، فكيف قال بعد ذلك لزيد ( أمسك عليك زوجك ) ، وأخذته خشية الناس أن يقولوا : تزوّج امرأة ابنه ، و ( والله أحق أن تخشاه ) .. وقال النحاس : قال بعض العلماء : ليس هذا خطيئة من النبي ( ) ، لأنه لم يؤمر بالتوبة أو بالاستغفار منه ، وقد يكون الشئ ليس خطيئة ، ولكن غيره أحسن منه ، وقد أخفى الرسول ( ) ذلك في نفسه خشية أن يفتن الناس . (58) .والخلاصة أنه عليه والسلام تزوّج السيدة زينب بنت جحش بعد طلاقها من زيد بن حارثة بأمر من الله الذي تولى سبحانه تزويجها له مباشرة ، ليهدم بذلك قاعدة التبني إلى الأبد ، وحتى لا يكون هناك حرج على الآباء في الزواج من مطلقات الأدعياء ، لأنهم ليسوا أبناءهم .. وقد كانت السيدة زينب ابنة عمة الرسول ( ) ، وربيت تحت رعايته ،وكان يعلم جمالها الذى يزعمون، ولو كان له فيها مأرب لتزوجها منذ البداية ، ولم يزوّجها بنفسه لزيد من قبل ..ومن أقوى ما قيل في تفنيد مزاعم المنافقين حول هذه الآية ما قاله فضيلة الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – قال : (( إنهم يقولون أن الذي أخفاه النبي في نفسه و خشي فيه الناس هو ميله إلى زينب . أي أن الله – بزعمهم – يعتب عليه عدم التصريح بهذا الميل !! ونقول : هل الأصل الأخلاقي أن الرجل إذا أحب امرأة أن يشهّر بها بين الناس ، وخاصة إذا كان ذا عاطفة منحرفة جعلته يحب امرأة رجل آخر ؟!! هل يلوم الله رجلا لأنه أحب امرأة آخر فكتم هذا الحب في نفسه ؟! وهل كان يرفع درجته لو أنه صاغ فيها قصائد غزل ؟!! هذا والله هو السفه، وهذا السفه هو ما يفسّر به بعض المغفلين القرآن !!.
إن الله لا يعاتب أحدا على كتمان حب طائش .. والذي أخفاه النبي ( ) في نفسه هو تضرره من هذا الزواج المفروض ، وتراخيه في تنفيذ أمر الله به ، وخوفه من كلام الناس عندما يجدون نظام التبني – كما ألفوه – قد انهار
. وقد أفهم الله رسوله أن أمره سبحانه لا يجوز أن يعطّله توهم شئ ، وأنه – إزاء التكليف الأعلى – لا مفر له من السمع والطاعة ، شأن من سبقه من المرسلين ، وأعقب الآية السابعة والثلاثين هذه بآية أخرى تؤكد هذا :
) مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ( (59)
ويضيف الشيخ الغزالي : " إنك حين تثبّت قلب رجل تقول له : لا تخش إلا الله ، لا تقول له ذلك وهو بصدد ارتكاب معصية .. إنما تقول له ذلك وهو يبدأ القيام بعمل فاضل كبير يخالف التقاليد الموروثة ، وظاهر في هذه الآيات كلها أن الله تعالى لا يجرئ نبيه على حب امرأة ، إنما يجرئه على إبطال عادة سيئة يتمسّك الناس بها ، عادة التبني ، ويراد منه كذلك أن ينزل على حكمها ، لذلك يقول الله تعالى بعد ذلك مباشرة وهو يهدم نظام التبني : ) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ( (60) انتهى (61).
أما السيدة صفية بنت حيى بن أخطب زعيم اليهود ، فقد وقعت في الأسر بعد فتح خيبر ، وكان أبوها وأخوها وزوجها قد قتلوا في المعركة .. ورفقا ورحمة بها خيرها الرسول ( ) بين إطلاق سراحها وإلحاقها بقومها إن أرادت البقاء على اليهودية ، وبين الزواج منه إن أسلمت ، فقالت له : يا رسول الله ، لقد هويت الإسلام وصدّقت بك قبل أن تدعوني .. و خيّرتني بين الكفر والإسلام ، فالله ورسوله أحب إلى من العتق ومن الرجوع إلى قومي .. فتزوّجها الرسول ( ) ، وجعل تحريرها من الأسر هو مهرها . (62)
ومن الواضح أنه كان من الضروري ألا يتزوج ابنة ملك اليهود سوى من يفوق أباها منزلة ومكانة ، وهو سيد ولد آدم ( ) .. وليس معقولا و لا مقبولا أن تترك هذه المسكينة بعد ما كانت فيه من عز ورفاهية ورفعة لمن قد يسئ معاملتها ، أو يضرب وجهها ..ويؤيد هذه الرؤية رواية دحية الكلبي – رضي الله عنه – فقد قال للنبي ( ) : أعطني جارية من سبى يهود . فقال عليه السلام : "اذهب فخذ جارية " ، فذهب دحية فأخذ صفية .. فرآها الصحابة فقالوا : ( يا رسول الله ، إنها سيدة بنى قريظة وبنى النضير ، ما تصلح إلا لك ).. فتزوّجها ( ) لذلك السبب . (63)
وذات الأمر كان دافعا للنبي ( ) للزواج من السيدة جويرية بنت الحارث بن ضرار زعيم بنى المصطلق .. فقد حارب أبوها المسلمين ، ولحقت به هزيمة منكرة كادت تتسبب في فناء قبيلته أو إذلالهم أبد الدهر .. و سقط المئات من بنى المصطلق أسرى ، ومنهم السيدة جويرية بنت الحارث .. وجاءت إليه فقالت : (( يا رسول الله ، أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه . وقد أصابني من الأمر ما قد علمت ( تقصد الأسر والذلّ ) فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبني على تسع أواق ، فأعنّى في فكاكي - تطلب معاونته ( ) في دفع المتفق عليه لتحريرها من الأسر- فقال لها ( ) : أو خير من ذلك ؟ فسألته : ما هو ؟ فقال ( ) أؤدي عنك كتابك وأتزوجك .قالت: نعم يا رسول الله ، قال ( ) : ( قد فعلت ).
وخرج الخبر إلى الصحابة فقالوا : أصهار رسول الله – يقصدون بنى المصطلق – في الأسر!! .. فجعل الناس يطلقون سراح من عندهم من أسرى بنى المصطلق – تكريما لأصهار النبي الجدد - حتى تحرّروا جميعا .
تقول السيدة عائشة – رضي الله عنها –:أعتق بتزويج جويرية من النبي أهل مائة بيت ، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها . (64) و (65) . وقد أسلم قومها جميعا بعد ذلك وحسن إسلامهم بعد أن طابت نفوسهم بتلك المصاهرة ثم بالمنّ عليهم بإطلاق سراحهم بدون مقابل .وهكذا كانت هذه الزيجة بركة وخيرا للإسلام والمسلمين من كل الوجوه ، فقد جلبت هذه الزيجة نعمة الحرية ثم نعمة الإسلام إلى القوم، فضلا عن الشرف العظيم الذي نالوه بمصاهرة سيد العرب والعجم.
وقد أعتق عليه السلام أيضا السيدة " ريحانة بنت زيد من بنى النضير وكان زوجها من بنى قريظة ،وكانت قد وقعت في الأسر بعد معركة بنى قريظة التي قتل فيها زوجها ، وجعل الرسول عليه السلام عتقها مهرا لها كأختيها صفية وجويرية وتزوّجها طبقا للراجح.
.أخرج ابن سعد في" الطبقات "عن الواقدي بسند له عن عمر بن الحكم قال: كانت ريحانة عند زوج لها يحبها، وكانت ذات جمال، فلما سبيت بنو قريظة، عرض السبي على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فعزلها، ثم أرسلها إلى بيت أم المنذر بنت قيس حتى قتل الأسرى، وفرّق السبي، فدخل إليها، فاختبأت منه حياء. قالت: فدعاني فأجلسني بين يديه، وخيرني فاخترت الله ورسوله، فأعتقني وتزوّج بي. فلم تزل عنده حتى ماتت، وكان يستكثر منها، ويعطيها ما تسأله، وماتت مرجعه من الحج، ودفنها بالبقيع" .
وقال ابن سعد في رواية أخرى ": أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني صالح بن جعفر، عن محمد بن كعب قال: كانت ريحانة مما أفاء الله على رسوله، وكانت جميلة وسيمة، فلما قتل زوجها، وقعت في السبي، فخيرها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فاختارت الإسلام، فأعتقها، وتزوّجها، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة، فطلّقها فشقّ عليها، وأكثرت البكاء، فراجعها، فكانت عنده حتى ماتت قبل وفاته"(66)
. ولم يكن مقبولا أن تتعرض صفية أو جويرية أو ريحانة للإذلال بعد أن كن من بنات سادة أقوامهن ،فكان زواج النبي بهن شرفا أعظم لهن رفعهن إلى مكانة أسمى بما لا يقاس، فالإسلام- كما قال الحبر بن عباس رضي الله عنه- يزيد الشريف شرفا ويرفع المملوك إلى عروش الملوك.
وهكذا ضرب صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة بنفسه الشريفة في عالم كانت أربعة أخماس الناس فيه عبيدا للقلة الباقية ، وفى بيئة كانت جاهلية ، ولقوم كانوا يأنفون من الزواج من الجواري،وكانوا يفعلون بالأسيرات كل الموبقات ،ولا يحسبونهن بشرا أو أنفس مثلهم لها أية قيمة أو حقوق!!
فصارت تلك سنّة للأمّة كلها أن يعتق الرجل جاريته ،ويجعل عتقها هو مهرها ويتزوّجها،كما قال الإمام بن القيّم رضي الله عنه في زاد المعاد.
وهذا التشريع العظيم تحرّرت به ملايين الجواري على مرّ العصور والأجيال ، وحصلن أيضا على حق الزواج و تأسيس أسرة وإنجاب ذرية من الأحرار ، وهو من مفاخر الإسلام وليس عيبا يؤخذ عليه.
وأخيرا نقول أنه لو كان زواجه عليه السلام حبا للنساء و استكثارا من الحسناوات لما نزل بعد ذلك حكم من الله يحظر عليه الزواج بعد من ذكرنا ، ولظل الرسول ( ) حرّا يتزوّج من يشاء ، ويطلّق من لا يريد .): لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً . (سورة الأحزاب الآية 52
وهكذا اكتفى عليه السلام بمن ذكرنا ، وكان لهن نعم الزوج و العشير . صلى الله عليه وعليهن وسلم تسليما كثيرا.
وصدق فيه قول رب العزة : (( وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )) الآية 107 من سورة الأنبياء.